ترجمة وتقديم عبد القادر الجنابي: في مطلع 1934، قرأ الشاعر الروسي الكبير أوسيب ماندلشتام، اللاعب الأساسي في تأسيس الحركة الشعرية الطليعية الروسية، المابعد رمزية، المعروفة باسم quot;الذرووية (من ذروة)، قصيدة تهكمية بستالين أمام جمع من الأصدقاء. وفق زوجته ناديزدا في مذكراتها، ليست هناك مخطوطة على الإطلاق لهذه القصيدة، وإنما فقط قرئت، ويبدو أن البعض حفظها عن ظهر قلب، وعن هذا الطريق وصلت الى أسماع رجال الأمن السري، فاعتقلوا الشاعر يوم 13 ايار 1934، ثم اقتحموا بيته بحثا عن المخطوطة، فلم يعثروا على شيء من هذا القبيل. حاول بعض الشعراء التدخل لدى ستالين للعفو عنه، ومن بين هؤلاء كان بوريس باسترناك الذي حاول قدر الإمكان إقناع ستالين. وبالفعل، تم تخفيف العقوبة عليه من الإعدام الى النفي، فنفي الى إحدى مدن روسيا الأوروبية، وبقي هناك سنوات عديدة يعاني من المرض والفقر والعزلة. وحاول ماندلشتام، في لحظة يأس جنوني، كتابة قصيدة مدحية عنوانها quot;أنشودة إلى ستالينquot;، على أمل أن يعود إلى موسكو ويواصل حياته طبيعيا.. لكنها لم تجد نفعا. إذ في آب 1938، تم اعتقاله وهذه المرة أرسل الى معسكر اعتقال في سيبيريا، فأشتد عليه المرض ومات في 27 ديسمبر عام 1938.
قرأتُ كلّ ما توفر من ترجمات لقصيدة ماندلشتام التهكّمية هذه، وكان هناك ما يقارب عشر ترجمات... ووجدت أن كل مترجم حاول أن يقلد النص الأصلي على أن يترجمه ترجمة أمينة. وتجدر الإشارة هنا الى أن الشاعر الأميركي المشهور روبرت لويل كان يفضل مصطلح quot;محاكاةquot; كتسمية لكل ترجمة يقوم بها.
من بين الاختلافات التي لاحظتها بين كل الترجمات الفرنسية والانجليزية لقصيدة ماندلشتام، هو ترجمة البيتين الأخيرين. فقد ترجمهما روبرت لويل، على النحو التالي: quot;بعد كلِّ إعدامٍ، يضع كأي قبائلي جيورجي/ توتا أحمر في فمهquot;. في ترجمة دبليو أس ميروين: quot;يدحرج الإعدامات على لسانه كثمرات عِنَبيّة/ متمنيا معانقتهم كمثل أصدقاء من الوطنquot;.
في الحقيقة، إن الترجمة الحرفية لهما هي التالية: quot;كلُّ إعدامٍ توتٌ أحمر/ وصدرُ الجيورجي جد كبيرquot;. أما المترجمون الفرنسيون فإنهم قدموا صيغة أكثر وضوحا: quot;كلُّ إعدامٍ مأدبةٌ / وكبيرة هي شهيّة الجيورجيquot;.
الباحثة الروسية quot;اليانوquot; التي ساعدتني على شرح القصيدة كلها، قالت لي: quot;عندما يقرأ الروسي هذين البيتين، فمن بين ما يفهم هو التالي: إثر كل إعدام، يشعر بالهناء والافتخار. وأن التوت لا يرمز فقط الى الدم بسبب لونه الأحمر، وإنما كذلك يعبر عن الرخاء والانشراحquot;. عندها، شعرت أن هناك شيئا من الصواب المتناثر في ترجمة هذا وذاك، وأن كل مترجم أراد وضع نسخة تنقل روحية قصيدة ماندلشتام ضمن الإدراك العام للغة المنقول إليها. ففكرت أن قراءة مقالات عن الوضع الثقافي في ثلاثينات روسيا الستالينية، قد تكون عامل مساعد للم شمل المعنى الرئيسي للقصيدة، وبالتالي الاستفادة من كل هذه التمثلات/ الانتهاكات لحرمة لأصل. فمثلا أني وجدت، في كتاب مذكرات زوجة ماندلشتام، إشارة إلى أن احد العاملين في سكرتارية مكتب ستالين، كان يشعر بالقرف من أن الوثائق التي يطلبها ستالين تعود دائما ملطخة بالدهن، وهذا يعني أن أصابع ستالين كانت شحميّة بالفعل... وربما من هذا المصدر استوحى ماندلشتام البيت الخامس في قصيدته.
ملاحظة أخيرة: في قصيدته، لم يسمّ ماندلشتام ستالين quot;الجيورجيquot; وإنما quot;الأوسيتيquot;. ومع أن أم ستالين من أصل أوسيتي والاوسيت هم سكان شمال جيورجيا، فإن ستالين كان يفتخر بأنه من جيورجيا، ومعروفا كجيورجي. ومن هنا فضّل بعض المترجمين ذكر quot;الجيورجيquot; بدل من quot;الأوسيتيquot;.

نعيشُ صُمّا فلا نسمع ما تحت أقدامِنا
بل كلامُنا لا يُسمع على بعد عشر خطوات
في حين جَبليّ الكرملين يُذكر
في أيّ حديث مهما ابتسر.

غليظةٌ كالديدان أصابعُه الزفِرة
ومن شفتيه تتساقط كلمات فصيحة
ثقيلةٌ كعيار الميزان
له شوارب صُرصارية هزّاءة
وجزمةٌ طويلةُ الساق من جلدٍ لمّاع.

حواليه قادةٌ أعناقُهم أعناق الدجاج؛
أنصاف رجال يلعبُ بهم ويداهنهم
فيصهلون، ويتأوّهون، ويموؤن

ولا يعربد أحدٌ سواه قاذفاً بوجوههم أوامره
يفبرك مرسوماً إثر مرسومٍ
كنعالِ الخيل يرمي بها الرأسَ،
الأربةَ، الصدغَ أو حاجبَ العين.

كلُّ إعدامٍ وليمةُ توتٍ أحمر
تملأ صدرَه بالانشراح والغرور
وصدر الجيورجي أوسع الصدور!