سألجُ بعض القصائد المنشورة في إيلاف ، أتقصّى الحزن المُكدّسَ فيها / من مبتدأ مايو ونهاية أبريل 2012 / ولئلا يُقال أن ليس كلّ الشعراء ينحون هذا المنحى، لذلك سأبدأ بشاعرين مخضرمين لهما تأريخٌ متخم بالإبداع وسمعة عالمية خارج حدود ايلاف، هما: أدونيس وسعدي يوسف. وكلاهما يسقط ُ في معظم ابداعهما تحت طائلة الحزن واليأس من الحياة والمستقبل ومعهما كلّ الشعراء من حواشي الأطلسي حتى الخليج، ما عدا استثناءات لا يحفل الشعرُ والشاعرُفيها بالهمّ العربي ، بل ينشغلُ بذاتياته الخاصّة والغوص في المشاعر الجسدية .وأغلبها يتمرّغ في هواجس شخصية . كون بلدانهم مستقرة ماديّاً وسياسيّاً ويرفلون في سديم النعمة والحياة الرخيّة . لكنْ تعالَ وخضْ في أشعار شعراء الشمال الأفريقي وسوريا والعراق واليمن ولبنان فسترى القصيدة عصيدة حزن مرّة ، ينتقل الشاعر فيها بين تضاريس الوجع والهم ّ/ شخصيّاً وسياسيّاً وكونيّاً / كأنّما الحياة بلا أمل ، وأبواب الجحيم ترمي على الملأ بألسنة النار . وبينهم وبين مآربهم أعلامٌ ذات برازخ وأسنة ومهاوٍ بلا قرار. فلنقرأ لأدونيس ما كتبه في الحياة / 19 ابريل / الماءُ ممزوجاً بالدمع / انتبهوا الى العنوان ، الدمعُ عنده صنوُ الماء ، رديفٌ له : لماذا أتنبأ أنّ الوجود العربي جُرحٌ مفتوح ٌ ، جرحٌ في مستوى الوجود ؛؛ / هل ستضعُ أيّها الصمتُ ملحَك على شفتي هذا الجرح ؟ / لماذا شعرتُ كذلك أنّني أجيءُ من المُخيلة ، وأنّ عالمي الثقافي العربي لا يجيءُ من المُخيّلة ، ولا يجيءُ من الواقع ؟ / بشرٌلا يشربون الماء / الّا ممزوجاً بالدمع / ....../ كلا ، لا تملكُ الريحُ الّا الغبار / هنا الوجع في العبارات التي ذكرتُ جسديٌ وكونيٌ مسكون في الحياة شئنا أم أبينا . محيطٌ بنا ومَعيشٌ فينا . لكنه في مكان آخر/ الحياة 3 مايو / ينتقل الى صيغة اُخرى : قلتُ للوهم : كنْ لي رفيقاً / أعنّي على واقعي / .../ لا اُحبّ دخانَ الوقائع / والواقعُ الذي تنحدرُ منه جرذٌ يقضم الحقيقة / ......... يكسرُ العقلُ مصباحه / ويسافرُ في ليله / ويؤثرُ أنْ يتشرّدَ فيه / .... للوقت أنيابٌ تقيسُ المسافات / بشرٌ يهربون الى ربّهم / .... لا حقيقة َ الّا في قعر / .... يُقاتلون الشيطانَ / ... لكنْ لماذا يُقاتلون أيضاً لكي يبقى حيّاً الى الأبد ؟ / فمكمنُ اليأس والوجع / اذن / هو الحياة بكلّ ابعادها الجسديّة والسياسية والآجتماعية والمادية والنفسية . فهي لدى ادونيس مأزومة قلقة مُقيّدة ٌ بألف غلّ وغلّ . فأينما تولّ وجهكَ فثمّ بابٌ موصّدٌ لا يفسحُ لك الطريق لولوج أيّ مسار . انه يائسٌ وما حوله موتٌ حقيقي أو مجازي . أدونيس ليس شاعراً سهلاً ، هو عرّابُ الزمن ، مرّ بعشرات السلاطين ممّن أفلوا وبادوا ، كما أنه مُطّلِعٌ على تفصيلات زمنه فكراً وعلماً وسياسة . فهو على أيّ حال مرآة عصرنا.
وانتقلُ الى سعدي يوسف الذي ملّ السياسة َوالسياسيين وأكاذيبَهم المُنمّقة بالعسل والأضاليل. وقلما يستطيع الانسان العادي أن يُميّز بينهما . لكنّ سعدي له تجربة نصف قرن، وأكبرُ تجربة من أيّ سياسي مُخضرم . هو وأدونيس نَفَسَان تذوّقا حلاوة ومرارة نصف قرن. وربّما أشك في أنهما حظيا بحلاوته ، بل تقلّبا في جحيم السياسات المتعاقبة. مات القامعون والخصومُ وبقيا شاهدين على عصرهما . سعدي هو الآخر يكتوي بسعير الهم ّوالحزن ، لنسمعْ قوله المثخنَ بالأسى والوجع : / الليلُ أعمى / والهاتفُ الأسود ُ مُلقى / هامدٌ في بحيرة من همود / ..... لستُ ألقى سوى العجائز / بُرَصاً / والمريضات من ليالي الجنود / ..... وفي 12 ابريل يقول :فكأنّ الريحَ تختضدُ / تقولُ : وحدَك لا أهلٌ ولا بلدٌ / وليس مَنْ تغمضُ العينين إنْ دنتِ المنية ُ / فسعدي مستغرقٌ أكثر من أدونيس في القتامة والسوداوية والألم. فمن سيئات الشعر أن صاحبه يمتلك عشرات الأحاسيس، مرهف ٌ يجرحه النسيم. متوتّرٌ حدّ الاحتراق، واع بما يقول وبما يسمع ُ، وليس عابرَ سبيل يُمضي عمرَه بعشوائية لامُبالية. هو في قصيدته جريح محاصرٌ بالوحدة، فان وجدناه يرثي وضعه فانّه يرثي وجودنا وسكوتنا ولامبالاتنا وزيفنا وانسياقنا وراء الأمجاد الزائفة . فاراه أكثر عمقاً في تجسيد اليأس من ادونيس . فلكلّ أحد منهما برجُه الخاص . وكأني به حمل برجَه وعاش بيننا.........
وأعود الى شعراء ايلاف لآخوض في متاهات أوجاعهم ، فأغلبهم باغتتهم اخرياتُ القرن الماضي ومبتدأ القرن الجديد ، فما وجدوا فرقاً بين مجريات / القبل / وما جاء في متون القرن الجديد . بل صار السيءُ أسوأ ، وتفاقم الوجعُ والحاجة ومتطلبات الحياة . احياناً نبكي على ما فات برغم كلّ سيئاته ، لأنّ الحاضر ملغوم ٌ بالقامعين حتى داخل أروقة البلد الواحد ، وداخل نفوسنا.....
لنُضغ ِ الى جواد كاظم غلوم / 9 مايو / في : نزلتَ وحلاً وحللتَ قحلاً / وليس بينهما فسحة ُ حياد / : على حين غرّة أطللتَ عليّ أيّها السأمُ / ......تمهلّ أيّها السأمُ / أعبثْ بي كما يحلو لك / غلوم في كتاباته الاُخرى يجري على ذات الوتيرة مستغرقاً في جسّ نبض الوجع العراقي والعربي ويعرّي الأنظمة القمعية ، والذات المحاصرة بين الأمنية والمستحيل . عودوا الى قصائده في ايلاف ولا سيّما تلك التي كرّس لها اسماء التفضيل .كأني به فيها ينوءُ بعِبء جبل .
بيدَ أنّ رحلة َ فاضل عباس / 11 مايو / لها ايقاع تراجيدي يتكيء على حلم طوباوي ليس له مكانٌ في معجمات الأحلام : الزمنُ يتطايرُ كرداء قاتم / تُرى ...أين المفرُ؟ من عالم فيه كلّ هذا الحزن / اريد ترك كل هذا.... والرحيل ...الى عالم ليس فيه هذا الحزن / الى وطن آخر غير هذا / فالحزن عنده اشارة صريحة لم تعتمد المجاز ولا المراوغة البيانية . انه المعول يهدّ به ما حوله ، باحثاً عن وطن بديل . برغم أنه عارف أن جهدَه مضاع وضربٌ من المستحيل .
أمّا حامد عقيل في : موت ٌ أخير للحُمّى / 9 مايو / فيبتديء بالنشيج : بقليل من البُكاء ...../ الناسُ لا يُشاهدون الألمَ في الشوارع / ......مَنْ منا ضلّ طريقه الى الحزن ؟ / حتى المعرفة صار حزناً / من أجل مَنْ نموتُ ؟ / أيّكم سيُدركُ جمالَ هذا الحزن المُلقى على الأرض كنبوءة / لكنّ عقيلاً في مُدوّته الشعرية أوغل في الحزن وعرّاه من قشرته حتى بات سُمّاً قاتلاً ، وهل يقتُلنا سوى أحزاننا .
وكذا تنحو قصيدة ُ/ حمه عباس / 6 مايو / : حلبجة جنة ٌ مذهولة / لا تُشبهُ شيئاً الّا ذاتها ......./ لا لونَ لي / حينَ اُدركُ انّ زرقة السماء هي مُلكٌ لي / ......... البابُ ليس لي / البابُ أسيرٌ وحبيسٌ / ولكن ّ الاُغنية ..لا ..والرقصُ والحلمُ لا .. قصيدة حمه حداثية غنائية ذاتية وروحانية في آن ٍ . برغم انطوائها على رشفات حزن ووجع هنا وهناك . وقد لا اُغالي انّ فيها مسوغاتٍ شعرية لا تتوفر في معظم ما قرأتُ من قصائد ، وترجمتها الجميلة لا تمنحنا مذاقها الحقيقي ، فالترجمة خيانة تضنّ علينا بطعمها الأصيل .
أمّا فضفضة ُ باسم النبريص / 7 مايو / فمن أربعة َ عشرَ عنواناً، وكل العناوين لا تخلو من وجع ويأس وشكوى : كحداثي أرتابُ في الحكمة / كيف اتصرف مع انفصام العمر الطويل / .........مسكينٌ يا شعبي ، لأنّك الوحيدُ بين الشعوب، الذي سُرقَ منه وطنُه / ....ليلٌ لابسٌ كلّ ما تحتويه خزانة ُ الفقير / .... الهي ؛ الا ينتابُك الندمُ ؟/.....لا يعرفُ أنّ كلّ حنين اغتيالٌ للحاضر /.. هذا رجلٌ يعيشُ في الواقع ، وهذا يكفي لأتلافاه / ...ففي المقاطع التي ذكرتُ تذمّرٌ واستياء ووجومٌ ، والأملُ فيها يُعاني من اللوكيميا القاتلة . البريصُ يجتابُ عالماً غير عالمنا، لقد طلقّ العيش فيه وغادره غير آسف ٍعلى شيء.
وفيما يبني كل شاعر جحيمه أو جنته القريبين أو البعيدين يجتابُ سعيف علي / 4 مايو / مجهلاً غير مطروق : هناك بالقرب مني شجرٌ غريبُ الصمت / لا تُغادرْ صوتَ الحزين/ حتى الأخبار التي ملأت جووفي باُجاج البحر / فيحين يستغرق في نبش جسد آمانيه الكابية ويصدم بالمسحيل يتذكر خيبته: كم علينا يا أبي أن نستمر في بناء قصر الرمل / اذن، كلّ اُمنية وهم ٌ، هبابٌ، قصرٌ من الرمل في هذا الزمن العجيب .وهذا هاجس الشعر في ذي الساعة.
وجرجيس كوليرزادة / 6 مايو/ يلج موضوعه من دون مقدمات ولا تمهيد: / يا سردشت، خبرُ استشهادك صدم قلبي وهزّ جبلي، ناشراً لونَ السواد / وحين يغشى السوادُ أيّ فضاء تتعذّر الرؤية ُ ، لكن الحقيقة لن تُخفى أبداً.. قصيدة جريس رهيفة حادة كالسكين تقطع ولا تُجامل.
لكن سلمان مصالحة / 5 مايو / صارم في تساؤله وفيما يقول : / لم يبق من شيء نسائله / الا سبايا الهمّ فانطلق ِ / فاركبْ بحارَ الشكّ / لا تثقْ بما يُمليه في حُلم / هو أيضاً نسغٌ من أنساغ الوطن العربي وما يحدثُ في العراق وسوريا ومصر يجري في كلّ مكان / لكنْ بايقاع آخر....
لكنّ لعبد الكريم هداد / 30 ابريل / رقية ًاُخرى من حلمه الحزين ، حلم جدلي يجري في دم الفقراء وفاقدي الأمل. وينتهي باليأس: الصخرة ِالتي ننطحها حتى ينكسر قرنُ نضالنا وجهدنا الضائعين : بعيداً عن العشيرة كلها ، اتوسّدُ الاُغنية الآخيرة / ........ والأخيرة كلّ شيء ولا شيء في ذات الآن. وأجملُ ما في حزنه : ما زلتُ مثلَ دمعة على قميص مسافر / حين تركه آخرُ المودّعين /.....فالى أين يحُمل متاعlsquo; السفر؟.....
وأخير تأخذنا ساحة ُ حسين ناصر الشعرية الى جحيمه الناري في بطانياته زمنَ الحرب العراقية الايرانية التي لا يزالُ سعيرُها وأثارها الفاجعة باقية فيه . فعمَّ يتحدّث غير متاع الحرب اللاحربي: / بطانياتٌ موحّدة شاركتنا الرحلة / ...حتما لم تكن نزهة بل رحلة قسرية في ضواحي الموت .../ صارتْ لبعضنا أكفاناً /.... في ليالي الحرب كانت أناملي تتحسّسُ النعومة الوحيدة المُتوفّرة في الملجأ / حافاتُ بطانيتي المُغلفة بالساتان / ... بعد نصف قرن ألهثُ وكلبُ الونبي ورائي / .....لعل أهل البصرة أدرى بالونبي من غيرهم كونه حيّاً من الأحياء المُتخمة بالفقر والإهمال ، ولا أدري الى أيّ مآل مالَ الآنَ/ والقصيدة بفقراتها المتعددة عودٌ الى الماضي الهزيل الذابل الناحل ، لكنّ ما ترسّخ منها في واعية حسين بقايا ذاكرة لا تخلو من الفرح الأسود والسعادة الكابية. وكأني به يُنبهنا الى أن العراقي مذٍ تفتّحَ ضميرُه وذاكرته على الدنيا وجد أيامه قاحلة يبيسة تتمرّغُ في الفقر، والقمع الذي يُمارسُ ضده من قبل الدولة ومؤسساتها والعائلة... فنحنُ في المشرق العربي يقمعنا قامع من مشرق الحياة حتى مغربها . لذلك تتيهُ رؤانا وتضيّع الطريق . فكلّ ما نلبسه ونأكله ونكتبه ونعيشه هو حزن ميئوس من وميض أمل.............