في حُلمٍ اسطوري، من ليلة بلا أقمار، بلا ضجيج عربات، أو همهمات خيول تعبة، ليلة من ليالي الكون المتصاغر المتصابي، بدأ المسير إلى عالمه الجديد.
يحاول أن يجتاز هذه المحنة، هذه الأحداث المروعة التي مرّت به، يحاول أن يستفيق من حياة تعبة، إلى حلم أقل قسوة، وأكثر نُبلا.
في مكان ما، قرب التلال والمدى المستلقي على فرشة الأرض، شرع بأول خطوة.
عليه أن يدخل البلدة بهدوء العفاريت، وحذر الخائفين، حتى لا تستفيق الوحوش الآدمية التي تجاور الطريق الأعظم إلى قلب الحدث.
المهمة ليست بالمستحلية، لكن، فيها مخاطر، والمخاطر ليست كمخاطر بني البشر في بقاع الأرض، مخاطر أرض السواد، تلبس قلبه، وعقله، وجسمه السواد.
من أول الليل إلى ساعة الفجر، هو كل الزمن المباح له.
في هذا المقطع الزمني مسموح له الكثير، على قدر همّه الثقيل، عليه أن يجمع طلاسمه قبل طلوع الفجر، ويرحل.
هناك، بأطراف القرية المجاورة، على ضفاف النهر، سفينة من عجائب الله، تنتظره.
هوَ، وهذا الليل في سباق من أجل الرحيل، فإن أدرك السفينة رحل، وإن لم يدرك السفينة ضاع حلمه وترك الليل، لن يتعب هذه الليلة، لن يتوقف عن المسير، فما من أحدٍ ينتظر رجوعه.
الطرقات حبلى بالممددين، لا يُعرف القاتل من المقتول، لا تميز الضحية من الجلاد، الأشياء القبيحة في الظلام مستورة، عليه أن يسلك أقرب الطرق، بعيداً عن شخير المجرمين الذين بدأوا يتقلبون بعد انتصاف الليل.
بعد انتصاف الليل، تحدث أمورٌ غريبة، غريبة، يهيئون الموت، وتفاصيل الموت، من مكانٍ وزمانٍ وضحايا، لغدٍ دامي.
رقم القتلى مفتوح، والجنس مباح، من ذكر و أنثى، طفل إلى شيبة، إلى عطار جاسوس، أو بائع عطر مغشوش، أو ساقي العطاشى على حب الحسين، الكل هناك منذور، لأهواء المتقلبين أطراف الليل.
وصل القرية، رفع رأسه للسماء، قرأ سطوراً لم يقرأها من قبل، رأى نجوماً لم يعهدها، تراءت له وجوه من عهود قديمة، وعيون جاحظة، وأنامل متيبسة ترتجف، وصوت كالحفيف ... وصية جده الذي خطفته الجنيات، فتيقن أنها هي ليلته، ليلة تلك العرافة التي أعطته سرّ كل هذه الرموز.
كانت هناك تنتظره، تلك الأحجية العملاقة المطروحة على ضفة النهر.
سفينة كعين الدنيا، وحدبة الكون.
اقترب منها، تلمسها، كانت من جذوع النخيل المغطى بالتجاعيد، وسيقان قصب الهور، وعجين الفلاحات المرهقات أبد الدهر. مسح باطن كفه بظاهرها ... ارتعدت، تنفست، كأن الروح سرَت فيها.
دار إلى الجهة الأخرى، كان بحاجة إلى أن يسمع النهر في هذه الليلة، فالنهر يغني في الليل أغاني الصمت الحزينة، النهر في الليل لطيف ومسالم.
وقعت عينه عليه، بعد كل هذه السنين : ( أما زلتَ تسري يافرات؟)
رجع إلى صخرة قبالة السفينة، وشرع بقراءة التراتيل والمزامير، الطلاسم المطلوبة، وما زال في الليل لطف من الزمن...
(اللهم ربّ الحب والكره، ربّ الوجع والأنين، وربّ كل هذه الدماء البريئة، وكل مذبوح ذبح على غير حق، أسألك...
اللهم ربّ الدفء الممزوج بصراخ الأطفال يوم العيد، وقد تمزقت أجسادهم بثيابهم الجديدة، أسألك...
يا معلم الإنسان كيف يصرخ من الألم، وكيف ينوح من الحزن، وكيف يتلوى من الفاجعة، أسألك...
أنت الوحيد الذي لديك سرّ الحب، وسرّ كل هذا الخراب، ومفتاح الرحيل من كل هذا، أسألك...)
في الأفق المظلم تعالت أصواتٌ وهمهمات ... قطعَ تراتيلهُ، رفع رأسه، أدرك أن هناك من قد توجه إليه !
لم يعرف من القادم، لم تخبره العرافة بذلك.
كانوا يقتربون ببطء، وصورهم بالكاد تنكشف، ما هذا الذي رآه؟
كلهم من غير صنف البشر !
اجحظ بصره نحوهم، وتمتم مع نفسه : ياإلهي.
تقدمت هياكل سود، تخفي ملامح غريبة، عيونهم تتلألأ تحت عباءات شديدة الزرقة.
تراجع إلى أن لامس ظهره طرف السفينة، التصق بها، حرّك رأسه يمنياً ويساراً باحثاً عن شيء ما، هو لايعرف كيف يصنع في هذه اللحظات، والخوف يزحف في جسده، أنفاسه تتسارع، وجهه يتشنج، نبض قلبه يتصاعد كما صوت القطار يتسارع.
يقتربون منه مع عزف طبول خافت بدأ يحتويهم، تحركوا بنسق واحد ليحيطوا بالمكان.
نظر صوبهم وهو يجمع شتات قواه، يبلع ريقه ويحاول ترطيب فمه لينطق بحرف، ليس يدري ماهو.
: هل هذا كابوس؟ قال في نفسه
لكن نقش السفينة على ظهره يؤكد حقيقة وجوده.
أغمض عينيه ليهرب من المشهد، لكن المشهد هو ذاته حين فتح عينيه مرة أخرى.
للحظة، خارت قواه وتراخى من وقوفه، وتهدّل كما الستارة حين تغادر هيكلاً غطته.
سقط على الأرض وغرق في غيبوبة من مشاهد بدأت تدور ... وتدور ... في ذاكرته

[email protected]