بعد وصولي برشلونة بأُسبوعين، علمت من صديقة إسبانية لها علاقة بالأمر، أنّهم بصدد تحضير ندوةٍ مع مُترجمَي سيرتَي سليم بركات إلى الإسبانية والكتلانية. إنطباعي الأوليّ كان الفرح ممزوجاً بدهشة. فهذا العملاق الأدبيّ، بكلّ إنتاجه [حتى في المقالات] يكاد يكون عصيّاً على الترجمة إلى أية لغة. ولهذا السبب، فهو نادراً ما تُرجِم. ذلك أنّ ترجمته مغامرة وعرة لا يجرؤ عليها إلا ذوو بأس وجَلَد وعبقرية موازية لعبقريته نفسها. وليس هذا مع شعره فقط، ولكن مع رواياته أيضاً. فالأخيرة مفخّخة بالتخييل، وملغومة بالمجاز والدوالّ والصور واللعب الفنيّ، بحيث لا تختلف _ من زاوية نظر المترجِم على الأقلّ _ إلا في الشكل والنبرة والإيقاع عن شعره.

قدّرت عالياً بسالة وأريحيّة المترجمَيْن قبل أن أراهما. فهما لا شكّ بذلا جهوداً جبّارة [بل فدائيّة] آنَ خاضا غمار ترجمة قاسية، مع شاعر وروائي هو الأصعب عربياً.
شاعر وروائي ينثر فخاخه أينما ذهب. وتوشك كل جملة خطّها في كتبه الأربعين، تتكشّف عن لعب، ليس فقط على صعيد اللغة [التي أحيا موات الكثير من مفرداتها، وملأها بالخارق والغرائبيّ] بل على صعيد الفن عينه، بشروطه ومراميه، سواء أكان شعراً أم رواية. لأنّ سليم هو سليم في كل كتابة. تستطيع معرفة بصمته دون حضور اسمه على المكتوب. وهو ذاته منذ ديوانه الأول [كل داخلٍ سيهتف لأجلي، وكل خارجٍ أيضاً] حتى ديوانه الأخير [آلهة]. يتطوّر ولا يتغيّر. يذهب إلى الأقاصي الجديدة بقميصه القديم. تلك هي مأثرته. صاحب أسلوب بركاتي يُنسب له، وسيبقى في المدونّة العربية ماركة مسجّلة باسمه، ما بقيت هذه اللغة.
المهمّ: تابعت مع الصديقة جهودهم الحثيثة في إقامة الندوة، حتى عُقدت أخيراً مساء الثلاثاء الخامس من آذار، بعنوان [طفولة الطين _ LA INFANCIA DE BARRO]، في الطابق السادس من مركز الثقافة المعاصرة الملاصق لمتحف الفن الحديث. المتحف الشهير ببرشلونة.
شهور طوال استغرقها الإعداد والتحضير. فهؤلاء أناس يعرفون خطر الكلمة، وقيمة المترجَم والمترجِم. ثم إنّ المترجمَين كليهما يعيشان خارج كتالونيا. المترجمة الكتلانية السيدة مارغريدا كاستيس تعمل الآن في جامعة السربون، وقد انتقلت إلى باريس حديثاً، بسبب الأزمة الاقتصادية. أما المترجم الإسبانيّ السيد سلفادور بينيا فيعيش في ملقا في الجنوب.
إلتقيتهما في المكتبة على مدخل المتحف قبل الندوة. كان المطر رهاماً وأنا في الطريق، والشوارع لامعة بالأضواء، والمساء قد حلّ. وتعارفنا. قلت: أعرف ما بذلتما، وأنحني احتراماً له. فأنتما بصدد سليم بركات بلحمه وشحمه! هذا quot;الساحر الكرديّquot; الذي فعل باللغة العربية وبالأدب العربي، أكثر مما فعله كلٌّ من جيمس جويس وجوزيف كونراد في اللغة والأدب الإنكليزييْن. إنه تحدٍّ ليس فقط للقرّاء العرب، إنما للأدباء العرب أنفسهم. وما كتبه وسيكتبه، هو quot;نسيج وحدهquot; بلغة تراثيّينا.
أمّنَا على كلامي الذي لا جديد فيه، فهو شائع ومعروف عند كل من يهمّه الأمر. وأوجزا في شرْح ما واجهاه من صعاب جمّة. صعاب جعلت واحداً من المترجمين قبلهما، يشرع في ترجمة إحدى السيرتيْن، ثم ينفض يده ويهرب!
قال سلفادور: حينما راسلته في السويد أكرمني فأرسل أعماله الشعرية الكاملة، وحين قرأت بعضها هالني ما كنت انتويته في دخيلتي فارعويت وكففت! ذلك أن شعره من المستحيل ترحيله إلى ضفة أخرى، دون أن يفقد الكثير من وهجه ومعانيه: من تركيبته الكيميائية المائزة. وبهذا المنطوق ذاته تقريباً تحدّثت السيدة مرغريدا.
صعدنا إلى مقر الندوة، وكان المطر قد ازداد حتى صار وابلاً. أشفقت على صديقتي ومن معها من جنود مجهولين. فالمطر يؤثّر في حضور الناس، حتى هنا أيضاً.
إلى ذلك، ذهلت بجمال وأناقة وبساطة القاعة. إنها أجمل قاعة مستطيلة في مبنى مركز الثقافة المعاصرة كلّه. تطلّ على مشاهد فاتنة من المدينة العريقة. تقف فيها فترى البحر شرقاً، وقبّة الكاتدرائية غرباً، وما بينهما عشرات المباني العتيقة ذوات التاريخ.
قاعة محاطة بالزجاج من كل جانب. فلا جداران ولا إسمنت. وتصل إليها بمصعد كهربائي، وبسلالم داخلية من زجاج أيضاً. الأمر الذي يعطيك انطباعاً بأنّك معلّق في الفضاء بلا حماية.
ما جعلني أسِم المكان بالمكان النموذجي للانتحار.
مرَّ وقت ثم بدأ الحضور يتوافد بطيئاً. وفي لحظة محدّدة، امتلأت الكراسي الكثيرة بحضور نوعي حاشد. حضور فاجأني، من حسن الطالع، وبدّد مخاوفي.
تكلمت السيدة مارغريدا، ضمن وقتها المحدد فأوجزت وذكرت خلاصة تجربتها مع السيرتين: quot;الجندب الحديديّquot; ndash; سيرة الطفولة، وquot;هاتِه عالياً هات النّفير على آخرهquot; ndash; سيرة الصبا. ثم تكلّم السيد سلفادور عن تجربته كذلك. وقد لاحظت ما أشاعاه من جو مرِح بين الجمهور. كم هما متواضعان كما يليق بعالِم حقيقيّ! ومع أنهما يخوضان في عرمرم لا يقين فيه هو عرمرم الترجمة بعامَة وترجمة سليم بخاصّة، إلا أنهما أوصلا للجمهور أهم الانشغالات والمشاكل والهموم التي رافقتهما في خضمّ عملهما الفريد هذا.
انتهت الندوة، وقد توفّرت لها أسباب النجاح: بدءاً بالإعداد الممتاز، مع صور مرافقة على شاشتين، إلى عرض المقاطع الأصعب من النص الأصلي مصحوبة بالترجمة .. مروراً بإحضار نسخ من الرواية بلغاتها الثلاث، وصولاً إلى صور فوتوغرافية قديمة من أرض النص: الحسكة والقامشلي وأخيراً صورة سليم بركات الشهيرة بشلحته الشبّاح ذات الكتّافتيْن الزرقاوين [وهل ثمة صورة غيرها!]
ولأول مرة أرى أمكنة السيرتيْن. فتذكّرت على الفور حديث أمي رحمها الله عن قريتنا أيام البلاد. مبان طينية ودروب غُفْل وبشر بالأسود والأبيض، ومساحات شاسعة من أراض زراعية خصبة، كما قاعات سينما .. إلخ. ذلك الزمن الجميل!
فشكراً أيها الساحر على هذه الأُمسية المبهجة.
لم يكن ينقصها _ حقيقةً_ غير حضورك الباهي الزاهي. ولكن من هو القادر على إقناع أبو ران بمغادرة غابته هناك في quot;سْكُوْغُوْسquot; شمالَ الشمال؟
لا أحد. حتى أنبل الناس طُرّاً: المترجمون!