نشأت الحياة من الضباب الأوّلي. وفي كأس الكون المنكفئة توقّدت النجوم اللامعة. كواكب مظلمة راحت تغلق دائرة الأفلاك غير المرئية. الحركة ولدت، الزمن ولد، الإنسان ولد. وفي مفهومه، انعكست الطبيعة مُتحمسةً ومُتمثِّلةً، على نحو غير مفهوم، وبصورة رائعة. إن الخوف من الموت، الذي يقطع خيط الحياة على حين غرّة، والرغبة في اطالة، بشكل ما، وجوده القصير، أجبرا الإنسانَ على أن يخلق الدينَ والفن. الموت خَلقَ الشِعرَ. لقد ارتبط الشعر والدين عبر العصور ارتباطا يتعذر فيه انفصالهما، وبالتأكيد سيبقيان هكذا إلى أن تنزل السماء إلى الأرض. مَثَلتْ فكرةُ تركيبٍ كونيٍّ في وعي الإنسان، منذ البدايات الأولى في حياته. لم يدخر جهدا في البحث عن ذلك الخيط الخفي الذي يربط بين كلّ عقائد البشر. تمرّ أمامنا سلسلةٌ من التعاليم الفلسفية: تعاليم مصر، اليونان، روما: تعاليم الشَمال الذي لا يزال نائما في الثلوج الزرقاء، وتعاليم الشرق الملّون بشكل ناصع والمتفجّر بانتشاء. مصر تدركُ عجزَها. الصحراء تمتلئ بالأهرامات. الكلُّ من تراب. كلُّ شيء يمرُّ، كلُّ شيء يكرّر نفسَه مرّة أخرى. الشرق يخلق النرفانا، اليونان، الجَمال. ثلاثة أقطاب. لا يمكنها أن تتآلف وأن تتوحد. ثمّ وُلِد المسيح في حدائق الجَليل المظللة وسط بحيرات زرقاء وسعادة مشرقة. يقول إن الحبَّ هو ذلك الخيط الذي بحث عنه الكلُّ سدىً.

القرون تمرّ، كما من قبل، الأفلاك تُغلق و، كما من قبل، تبقى الأسئلة بلا حلّ. العِلمُ يظهر على مسرح التاريخ. يجمع حقائق ويشيّد فوقها معبدا للعقل. البناء ينمو. تم وضع الطوب، بحذر وبسرعة، في مكانه. ثمّ واقعٌ مطلق. طالما أفكر فأنا موجود. لكن القرون تمرّ ثانية. إذ تبيّن أنَّ العِلمَ نسبيٌّ، كأيّ شيءٍ آخرَ. ليس له ما يجب لكي يمرّ خلال القرون من دون تغيير. العقل مجرد كاميرا. لا نتعرف فيها إلا على العالم المرسوم في وعينا، الذي تدركه حواسُنا الخمس فقط. العالم الذي يَحكُم في مَلكة إدراكنا، ليس حقيقيا. إنه وهمي. لو نقوم باستعراض لكلّ بحوث الإنسان، لسوف نلاحظ الحقيقة التالية: إنّه يتوخّى تحويل مُثُلِه إلى شيء quot;ليس من الدنياquot;؛ إلى لغز كوني. وبما أنه يتصور أن إدراك quot;ما يفُوقُ الوَصفُquot; يتطلب موت الطبيعة، فإنه يحاول أن يترفّع عن تلك الأنانية التي وضعتها الطبيعة فيه. يحاول أن يطعّم نفسه بالإيثارية الغيرية، التي هي غريبة عنه. تُدعى حضارة. كل التاريخ يَمتدُّ أمامنا. الطبيعة خلقتنا. عليها هي فقط أن تكون صاحبة القرار في أفعالنا وجهودنا. لقد وَضَعت الطبيعة الأنانيةَ في داخلنا؛ وعلينا تطوير هذه الأنانيّة. فهي التي تُوحّدنا كلّنا، لأننا كلّنا أنانيون. ثمة اختلافات فقط في مرحلة التطور البيولوجي. إنسان يطلب السعادة لنفسه، وآخر لأولئك الذين حوله، والثالث للبشرية جمعاء. الجوهر دائما ذاته. لا يمكننا الشعور بالسعادة وثمّة معاناة وآلام حولنا. هكذا، إذن، نطالب بسعادة الآخرين فقط من أجل سعادتنا نحن. في الكون ليس هناك شيء أخلاقي وغير أخلاقي، وإنما ثَمَّ الجَمالُ، التناغمُ العالمي فحسب، وقوة التنافر التي تعارضه. الشعر يحتاج، في كل بحوثه، إلى ان ترشداه هاتان القوتان فقط. إنّ غاية الشعر الأنويّ لهي تمجيد الأنانية على أنها هي الحدس الحقيقي والحيوي الوحيد.

ألله هو الأبدية. الإنسان، ما إن وُلدَ، حتى انفصل عنها. لكن بقيت فيه تلك القوانين التي تقود الحياة على الأرض نحو الجَمالِ الكامل. النفْسُ حياةٌ. علينا، بعد إلقاء العقل جانبا، أن نكافح من اجل أن تمتزج انفسنا بالطبيعة، أن تذوب فيها على نحو صريح وإلى ما لانهاية. إن ذلك الشعور بتنوّر صافٍ وبفهمٍ خارج العقل، ذلك التناغم الكوني، لهو حدسٌ. فكلُّ الطرق تؤدي إلى سعادة حقيقية، الى الانصهار بالأبدية. ذلك أن كلَّ فجرٍ جديدٍ يبزغ ليكلّم الناس عن سعادته ويدعوهم، كأي طريق مشرق، إلى الشمس.

غرال ارليسكي شاعر فلكي اسمه الحقيقي ستيبان بيتروف،كان عضوا فيمجموعة quot;المستقبلية الأنويةquot;، وقدنشر هذا المقال في احدى انطولوجيات المجموعة، عام 1912.