يا ذا الملاذ الذي يفتحُ ذراعيه لاحتضاني
يا ذا الحضن اللاسع حنوّاً
يعتصرُني بإضمامته القويّة
فردوسي في هذه الدنيا الموحلة
عندما ينْأى صحبي
وتخلو شوارع مدينتي من المارّة
وتقفلُ المتاجرُ أبوابها فزَعاً .
في أوّل الليل يتحرك العاهرون
وسماسرةُ السِفاح
يزنون ببلدي
ويُقتَلُ أهلي بيدِ الأغراب
بيتي الصغير المقفر من العويل
وسادتي الوثيرة الناعمة
المزركشة بالأحلامِ الوديعة
حين ينام القتلى في العراء ساكنين
ويئنّ الجرحى صارخين
مرتعي الآمن في غابات الموت
عندما يطاردُ كاتمٌ مبحوح الصوت
رفاقي وندماني الذين أتوق إليهم
مأوى أسراري وأرشيف كلماتي
حينما يشاع الرصاصُ في الطرقات
وتتناثرُ الأحزان مثل ضبابٍ معتوه
ساكتٌ عن نزقي وثرثرتي
عندما تصمّ أذاننا اصوات ذئاب الليل
رادمٌ للأذان المعلّقة بجدرانه
حين ينتشر المخبر السريّ
ورعاةُ التلصّص وآخذي الرشى
ساترٌ فضائحي اذا انسلّتْ عاشقتي خلسةً
وأخفتْ ملامحها عن عيون المتربصين
بيتي النائي عن الضجيج
في زمن هراء الخطابة والنعيق
وحسيس النار وفحيح الأفاعي
نغَمي الذي لاينقطعُ جريانهُ
في صباحات فيروز
عندما يعلو النشاز ويُوسخ نقاوتنا
حزامي الذي يسند ظهري في كدح الحياة
حينما ترتخي حبال الحبّ
مثل دودةٍ في وحْلٍ طرِيٍّ
متّكاي البارد في هجيرة السموم
في سعير الحقد الأحول العينين
مروحتي في رابعة النهار
عندما يعصف اللهبُ الاحمر .
قيلولتي في الظهيرة
حين يوقظني السوط ويلسع ظهري
كأسي وخمري quot;عندما يأتي المساءquot;
قبل ان أُرغم على تناول الأسيد
ويلهب جوفي ويحرق أحشائي
مرفأي ليلةَ أقتعد ضفّة quot; النهر الخالد quot;
وهم يُسمعون الملأ الأدعية الفاسدة عنوةً .
بهجتي وانا أجالسُ quot;كليوباتراquot;
أتملّى قوامها الحلُمَ يتمايل مع الألحان
وأعجب بأنفها الذي غيّر خارطة العالم
من قبل ان يُظهروا اشباحا
ترتدي نقابا مخيفاً ولحْيةٍ شعثاء
وجَبيناً ضالاّ بغُرّةٍ سمراء مصطنعة
بيتي البعيد في ذلك الزقاق
اكثر سعة من باحات السجون الواسعة
ومعسكرات اللاجئين العريضة .
ومدّخرات كتبي التي خدشت عقلي
وأحدثت صدعا واسعا عريضا في ذاكرتي
اكثر رحابةً من دكاكين المتنبي
وزوايا quot; الأزبكية quot; المظلمة
المليئة بمخبري الثقافة وهواة الزعيق
بيتي الذي يتنحّى جانباً
طُبعتْ على جدرانهِ حنّاءُ السكينة
اعلى سقفهِ نافذةٌ
هربتْ منها سموم المتلصصين
حاملي الكلمة الناحلة
والأقلام الهزيلة التي برَتْها سكاكينهم
وأظفارهم التي تلمُّ القذارات
سوره العالي مانعٌ من رعاديدِ الليل
وزوارِ الفجر والبائلين في الازقّة الخلفية
بيتي العفيف العتَبة
يعبس بوجهي إذا ماداسهُ فاسدو الأقدام
وثقيلو الظل وحواة القرود والأفاعي
يهزأ بابتسامتي المصطنعة امامهم
يشتمني حين تطأ نعالُهم بلاطَهُ الصقيل
بيتي لايعرف التزلّفَ والتلوّن
لايُحسنُ تحريكَ ذيلَهُ ككلابٍ داجنة
ولأن ميزانَهُ غيرُ مائل
تراهُ لايجيدُ الكيلَ بالحصى
ولا الميلَ والانحناء للنفائس
لايأنسُ تعاطي المنشّطات
في ملاعبهم وسباقاتهم
بيتي وحده يرتمي في القفار
تُسمَعُ في أركانهِ
جلبةُ خيولِ أبي محسّد
وبصمةُ صوت صهيلها
توسعُ من جدرانهِ
تُزيدُ من رحابتهِ
يَرِنُّ في زواياهُ زئير الأسُود
وهي تخرجُ من عرينِها
تنداح من حديقتِهِ تغريداتُ البلابلِ
وهي تغادرُ أعشاشها
وفي أعلى سطحهِ
تتعالى خفقاتُ أجنحةِ الصقور
وهي تصفقُ في الريح بسطاً وخفضاً
بيتي ليس قِنّاً للديَكةِ المبحوحةِ الصوت
ولا جُحْراً لجرذانِ الطاعون
ولا حضيرةَ مواشٍ تساقُ للمسالخِ
بعد تسمينِها من طعام النفاياتِ والمزابل
بيتي الرائق الطيّب البحبوحة
ليس وكْراً تحاك فيه المؤامرات
وتنسجُ فيه الدسائس والمكائد
بيتي ليس سقيفةً
يتخاصمُ فيها أدعياء المُلْك
ولامغارةً تُخفي ملفّاتِ المغدورين غيلةً
والمرقّنة قيود قاتليهم ضد مجهول
فبساطُهُ نسجٌ طاهر المخيط
ولَبَناتُهُ تعانقُ إحداهما الاخرى
وأطيانهُ صلدتْ مثل عمدِ السماء
وأحجارُهُ من نسل كبرياء الجبال
فلتعصفي أيتها الصرصر العاتية
لن تَهِدِّي أركانَه مهما شددتِ
وانتحبْ أيها المطرُ الأسود
لن اتنحى قيدَ أنملةٍ عن جَنَّتي