& &&

بصرف النظر عن المناورات والاعلانات التي تخفي وراءها مصالح ذاتية ضيفة فان حدثا مهيبا يجري في لو بورجيه شمالي باريس حيث تنادى زعماء العالم برعاية الأمم المتحدة للاتفاق على حل جماعي في مواجهة خطر مشترك هو التغير المناخي بسبب الانبعاثات الغازية. وكان مثل هذا المشروع سيبدو خياليا في الشطر الأعظم من تاريخ البشرية حتى وإن كانت الفكرة مطروحة منذ زمن بعيد.&
ففي فجر العصر الحديث اواخر القرن الثامن عشر نشر ايمانويل كانط فيلسوف العقل والتنوير مبحثا عن سبل تحقيق سلام دائم في عالم ابتلى بالحروب.&
وتخيل كانط اتفاق دول العالم على دستور عالمي وتشكيل "عصبة أمم" تحمي الجميع ، لا سيما الضعفاء بقوة موحدة تتحرك وفق قرارات تُتخذ بموجب قوانين ارادتها الموحدة. وتوقع كانط انطلاق عملية تاريخية من الانفتاح الكوزموبوليتاني بين شعوب حرة وعقلانية. ويتساءل البروفيسور استاذ الأخلاق العامة في مركز الفلسفة التطبيقية والأخلاق العامة في استرليا قائلا "أليس هذا ما يجري في لو بورجيه ، عصبة من الأمم التقت للعمل بصورة جماعية في ظل ارادتها الموحدة لحماية الضعيف والمكشوف ، ليس حمايته من الحرب بل من ارتفاع حرارة الأرض؟" وتحاول هذه الدول تحقيق ما يبدو مهمة مستحلية هو التوصل عن طريق المفاوضات الى تسوية تحدد مساهمة عادلة من كل دولة في الوصول الى الهدف المشترك. بعد كانط بسنوات قليلة أخذ فيلسوف الماني آخر هو فريدريك شيلنغ فكرة الاستاذ ومضى بها شوطا ابعد. فهو ايضا وضع في تصوره بناء "دولة دول" ، عالم تخضع فيه الدول بارادتها الى "قانون مشترك واحد" بموجب دستور عالمي واحد. كان هذا يتطلب حل اشد المشاكل الميتافيزيقية تعقيدا في مجال الحداثة هي كيف يمكن التوفيق بين الحرية والضرورة، وكيف يمكن ان تضع الحرية نفسها بيد القانون الأخلاقي؟ على حد تعبير البروفيسور هاملتون. وهذا على وجه التحديد هو التحدي الذي تتصارع معه دول العالم المشاركة في مؤتمر المناخ. فبعض البلدان اقل استعدادا للتضحية بحريتها فيما يقبل البعض الآخر بأن عليها تسليم نفسها للقانون.&
&وهكذا فان من أشد القضايا الخلافية في لو بورجيه هي ما إذا كان اتفاق باريس سيكون "ملزِما قانونيا" وماذا يترتب على خضوع الدول لمثل هذا القانون الشامل.&
ويثير البروفيسور هاملتون اسئلة متعددة منها ، هل يمكن لمثل هذا القانون ان يكون ملزما من دون عقوبات؟ وكيف تمارس الدول رقابة جماعية على الالتزام بأي اتفاق تتوصل اليه؟ وكانت القضية الميتافيزيقية المتمثلة في كيفية التوفيق بين الحرية والضرورة دفعت الفلاسفة الى التفكير بعمق في فكرة التاريخ وما إذا صحيحا ان المرء لا يستطيع ان يستوعب مفهوم التاريخ إلا إذا تخللته تيارات من الضرورة. وبخلافه فان التاريخ لا يكون إلا مجموعة من الأحداث العشوائية التي تعكس خيارات حرة بلا نظام ولا معنى. ظن جورج فيلهلم فريدريك هيغل انه تمكن من حل القضية بتصوره التاريخ تحقيقا متقدما لوعي الحرية بحيث ان جميع الخيارات الفردية الحرة تحدث في اطار تفتحٍ عظيم للتاريخ مفهوما على هذه الصورة.&
ويكتب البروفيسور هاملتون انه ايا تكن النتيجة فان مؤتمر باريس مؤتمر "تاريخي" ليس بالمعنى الاعلامي بل بمعنى انه حدث حاسم يجري في اطار تاريخ عالمي له قدر من الاتجاه والنظام والمعنى في تطوره. واحدى الطرق لفهم هذا التطور هي النظر الى المؤتمر على انه تكليل لتأثير البشر المتزايد في العالم الطبيعي وتجاوز حدوده. وبهذا المعنى يمكن النظر الى المؤتمر على انه طرح متواصل لقضية كانط في تهافت اطلاق العنان لاستقلالنا الذاتي في عالم محدود. وتزداد المهمة التي تواجه المتفاوضين في لو بورجيه صعوبة لأنهم يحاولون ايجاد طريقة توفيقية لممارسة حرية الخيار من جانب بعض الأطراف حين تتعارض هذه الخيارات مع مصالح البعض الآخر ، ولكن مع تعقيد مضاف هو ان الأرض نفسها طرف في المفاوضات تتدخل باستمرار (عن طريق علماء يتحدثون باسمها) لتذكير المتفاوضين بأن ما اتفقوا عليه لن يُجدي لأنه يتناقض مع استمرار العمل الذاتي للمنظومات الطبيعية.&
إذاً ، هناك حدث تاريخي كبير يجري في لو بورجيه. إذ لم يسبق في تاريخ الدبلوماسية ان التقت دول العالم الـ 195 كلها على هذا النحو حتى وإن قدمت في البداية لبقية العالم خططها الوطنية للسنوات العشر والعشرين والثلاثين المقبلة. وتتمثل الحقيقة المجهولة في ان رؤى هذه الدول مجتمعة بشأن طريقتها في ممارسة سيادتها لا تنسجم مع هدفها المشترك. لذا يكتسب بهاء الحدث طابعا مغايرا عندما تقول دول العالم ، كما لاحظ برونو لاتور "ان هذا محال ، فنحن لا نستطيع ان نتعايش معا على هذه الأرض".&
&