&
في ديوانها:" معراج المانوليا" ( نينوى للدراسات والنشر 2015) تدل الشاعرة عواطف بركات على قسماتها الشعرية. هي تعتني أولا بالصورة وتتحرك بها إلى أن تطل من حيويتها ودهشتها، مرتكزة على إقامة علاقات ضدية أو تكاملية عبر السياقات التي تزجيها في نصوصها ... فضلا على ذلك تتعدد البنى الشعرية لدى عواطف بركات ما بين إنتاج القصائد القصيرة التي تتأدى بوصفها كتلة واحدة، مركزة ومكثفة، وبين تركيب القصائد من جملة من الفقرات أو المشاهد الشعرية التي تتشكل بوصفها بنية فسيفسائية متواصلة أو متمازجة يجمعها السياق الدلالي الكلي للقصيدة الذي قد يعبر عن الموت، أو الفقد، أو المنافي، أو الحرب، كأن الذات تدرج على قسماتها المؤلمة، متأملة حينا ومستقصية أوجاعها حينا آخر، ومتسائلة عن حالاتها أحيانا ثالثة.&
تتيح التسمية التي تقرن بين طرفين أحدهما محسوس والآخر معقول التنبه إلى الوعي الجمالي الذي تريد الشاعرة طرحه بدءا من تسمية ديوانه. إنها تقرن بين المحسوس(المانوليا) وبين المعقول( المعراج) في هذا المزيج تتولد صورة لها بعدها الحسي/ العقلي التخييلي من جهة، ولها بعدها الرومانتيكي الروحي/ الصوفي ، الوجودي من جهة ثانية. من هذا القران تتولد رؤية ما.&
تستهل الشاعرة السورية عواطف بركات ديوانها بنص مفارق، تستثمر فيه هذه الثنائيات المتضادة/ المتكاملة معا، بعنوان:" حلم لا شرعي" تبدأها بثنائية الذات مع الريح في تبادل عددي يصنع حالة مفارقة:&
&
للريحِ يدٌ واحدة
وأنا أصفقُ بيدين من ريح&
لأحلامي المبللة
****
لأرى من يذبحون الشمس
من شرفتي الهزيلة
&نثرتُ فتاتَ قلبي
****
قِيلَ لي :سأمرُّ يوما تحت سيول الضوء
ومذ ذاك أنامُ بثيابٍ سميكةٍ
أشربُ ما أوتي لي من حصى
لأغرقَ عميقاً في السماء&
&
الحلم - سواء كان شرعيا طبيعيا، أو لا شرعيا مقتنصا أو مختلسا، فيما تعبر الشاعرة - &هو الحلم، ربما يكون انعكاسا لحالات ووقائع يومية معيشة، وربما يطوف بعيدا. المشاهدة الحلمية في زمنها الخاص الذاتي تكشف عن ذلك، وإذا كانت لغة الشعر هنا هي الوسيط الذي ينقل لنا هذه الأحلام فإن حقوله الدلالية وكلماته المنبسطة حيالنا كقراء هي التي تحدد طبيعة هذه الأحلام، وكنهها، وحالتها الشجية أو المبهجة أو الطاعنة في الأسى.&
قدمت الشاعرة مشهدها في لقطات متتابعة ما بين الريح والتصفيق للأحلام، وبين الشمس المذبوحة وشراب الحصى. ثمة حوارية دلالية بين الكلمات ما بين البلل، والسيول والغرق. حالة الحلم هنا لم تقدم مفارقات متنافرة ولكنها قدمت مشهدا تحف به دلالات متقاربة، لتصل في النهاية إلى الغرق في السماء، وتعميق صورة الغياب.&
&
آليات جمالية:
هذه اللقطات المتتابعة تشكل آلية جمالية من آليات التركيب الشعري لدى عواطف بركات، حيث تركز على البني المتعددة للقصيدة التي تتكون من مجموعة من المشاهد، وتهيمن هذه الرؤية على جانب كبير من نصوص الديوان، &كما في :" حلم لا شرعي" و" إلى صغار الروح، وإلى والدي العزيز" – مثلا- وتقود هذه الرؤية إلى التالي:&
- توسيع أفق التعبير الشعري ليركز على المشهد بديلا عن الجملة الشعرية التي تضيق أحيانا بمجرد انتهائها، لكن المشهد المركز سيتشكل هنا من عدة جمل، وعدة صور شعرية أيضا.&
- التأكيد على قيم التنوع التعبيري، وتنوع الحالات الشعرية المزجاة في المشهد.&
- إقامة قدر من الحوارية الدلالية بين الكلمات من جهة، والمشاهد واللقطات المتتابعة من جهة أخرى.&
- تنويع أصوات النص، على مستوى تعدد الذوات وعلى مستوى انشطارات الذات الشاعرة، وشكليا تعدد المشاهد قصرا وطولا، وطباعيا، تنوع المنسوب البصري للكتابة على سطح الورقة، وإحداث قدر من التنوع بين بدء وختام المشهد ليأتي مكثفا ومركزا ومفارقا، وتغاير الحالة المعنوية بين المشاهد لتعبر عن الفرح أو الحزن أو الفقد أو عن حالة من حالات الذات، فضلا عن ذلك يعطي هذا التنوع كله ما يمكن تسميته ب:" الفيوضات الصوتية" للمشاهد حيث إن كل مشهد ينتقل من حقل دلالي لآخر، وبالتالي من دال لدال آخر في كثافته، ورنينه، وجرسه، &وفونيماته. وهنا لن تكون اللغة محايدة، وتصبح مكونا مهما من مكونات النص. في نص بعنوان:" غرباء وتعب قديم" تقول الشاعرة:&
&
غرباء ومنفى جماعي ...
وحدها الوردة&
تبادل الهواء الحب&
*****
في طريقي إلى بيتك&
وزعت ابتساماتي&
على العصافير&
وجئت&
على كتفك أبكي&
.....
دعني أدلك&
من أين تنبع البلاد&
من هنا&
من قلبك يأتي الوطن
****
على أطلال التعب
يلعب النوم&
لعبة /السلم والأفعى/
حتى أصل اليك
***
للرجل المار في رئة الغرفة
كل هذا الهواء
ولي مبضع افتح به نافذة الفجر
***
تسألني خيالات المآتة&
من قتل القمر الأخير؟!&
اصمتُ..
أصير قنديلَ بحر
يمتطي موجةَ نسيانٍ عابرة
***
كأي بنفسجة أهادن الغياب ...
وأنسج للقلب سياجا من الطوب
***
كنتُ أفكرُ ..
وأنتَ تعدو شاحبا بعيدا عن نجومي المشاكسة
من سيهديكَ لبيتِ نجمةِ الصبح؟!!
وإنْ سرّحتُ شعري الطويل خارجَ صدرك
لمن سأهدي ما ألد من نجوم؟!!
اخبرهم ..أني حبيبتكَ الآفلة&
لكني سأعودُ على موعدنا&
عندما نُبعثُ في سرمد الحب من جديد. ( ص. ص 16-17 )
&
النص كدأب نصوص عواطف بركات تشكله مجموعة من اللقطات الشعرية المتتابعة، قد تتناول الذات الشاعرة وقد تتناول مشهدا واقعيا، وقد تركز على الوجداني في الذاكرة أو العاطفي في الروح أو الحربي- المأساوي في الواقع وهذه اللقطات قد تتفارق أو تتلاقى، لكنها في التحليل الأخير ربما تقدم انكسارات هذه الذات، ولوعتها وفقدها وحنينها أيضا، وهي ثيمات موضوعية تتكرر بشكل ملفت لدى شرائح كثيرة من الشاعرات في المشهد الشعري العربي اليوم.&
إن الحلم بتغيير الواقع عمل دائب من أعمال الوعي الشعري لدى عواطف، بركات إنه حلم قد يأتي ولا يأتي، تعنونه علامة الاستفهام الزمنية:" متى" . هو سؤال تحركه قساوة الواقع ومأساويته، ومن هنا قد تستدعي صورا من الواقع، وقد تستدعي حلما أورفيوسيا أسطوريا، وقد تستنكر على وطنها أن يتحول جانب منه إلى مجرد" خيام في عراء الأناضول" وإلى " بيوت محشوة بالدمى المتحركة" :
الشمعةُ الأربعون&
ولم أنجبَكِ بعد
أيتها اللبلابةُ الطامحةُ
أيتها الحالمةُ&
بضفةِ على الدانوب
بدبكةٍ شعبيةٍ في ساحةِ الفاتيكانِ&
متى سألدكِ ؟
ومخاضي ناعمٌ كأصابعِ أوروفيوس
وباردٌ كوجهِ أمي&
في خريفها الدؤوب&
....كم تبدو قاسياً
ياعالمي المضطجع على ثروةٍ
من براميل النفطِ والدم
كم تبدومهولا ياسؤالاً
يبحثُ عن أجوبة
تحت خيامٍ في عراءِ الأناضول
في سحابةٍ تبكي الازورد
على بيوتِ
محشوةٍ بالدمى المتحركة .
&
حرية رحبة:
&
لا ريب في أن الحلم يعطي مساحات أوسع للكتابة، سواء بتمديد الزمن وتوسعته عبر اقتناص هذه العلاقة الجدلية بين زمن الواقع وزمن الحلم، كما يعطي نوعا من الحرية الرحبة التي تتخلص فيها الذات من قيود القولبة المنطقية للواقع وأحداثه، واللغة ودلالاتها المعهودة. في الحم كسر لكل شيء وتلاق لكل شيء بغض النظر عن مرادفته أو مطابقته لغويا أو دلاليا أو تأويليا.&
وتظل الرؤيا للقادم أسا دلاليا في شعرية الديوان، وهي رؤيا تنبثق من التركيز على عالم الأحلام بوصفه زمنا طليقا ومفتوحا ولا نهائيا، فالشاعرة في حال ارتقاب، والذات في حال تشوف، ولذا فإن الرؤية/ الرؤيا للآتي تتلبس عددا كبيرا من الإشارات والجمل الشعرية، وهو الأمر الذي يطرح سؤال : تغييب الواقع أحيانا والتعالي على قبحه ومآسيه. إن القادم هو الصورة المثلى التي تتغياها الشاعرة لتغيير اللحظة الراهنة الأكثر مأساوية:
عذراء أنا . أسرفت بالحلم الولود
وحدسي: على شهب الصغار
قادم لا ريب صداي المنتظر / ص 5&
وفي نص : " إلى والدي العزيز" يصبح الحلم والتطلع للقادم حالة من حالات الخلاص والأمل في التغيير رغم مأساوية ما ينطوي عليه النص من دلالات، وفي مشاهد أخرى نلمح عمق التغيير مع عمق المأساة:&
اصعد لأصعد ..
ومت شهيدا&
ليصفق الجمهور ...
***
دعوتُكَ بألفِ قبلةٍ أمامَ الجميع&
للموتِ شرقا ..للموتِ شنقا
وكم خشيتُ ينسى وجهينا بائعُ الفرصِ السعيدة
ونموتَ كالباقين من فرطِ الغياب&
****&
اصعد لأصعد
لاشيء معي سوى عينيك ولعنات الشرق
الشرق ينمو على توابيت أحلامنا&
الشهيدة&
ص 21-22&
هل يصبح الموت معادلا مأساويا للحلم، من أجل الخلاص من الواقع المأساوي؟ هكذا تومئ الشاعرة في نصوص تبدو فيها الحرب خلفية دلالية لها، خلفية لتعبيراتها وهو ما ترصده الشاعرة في عدد من المشاهد الكثيفة ، كما في نص: "في وداع شاعر"&
فهو يرشي السماء بقصيدةٍ مجنونةٍ عن عشتار
ويرسمُ للربّ قامةَ زنوبيا ..فخرا
ويحدّثُ الملائكةَ عن نسائه الجميلات
ليدخلَ جنتهم بلاحساب
لكنّهُ عبرَ الصراطَ مطأطأ الرأسِ
متهدّل القلبِ
&
سألوه عن قدسهِ وشامنا&
وبغدادنا&
صمتَ كثيرا وبكى&
قال : دعوني أموتُ الآن &/ ص 13&
هنا تتلاطم الأشياء، وتتخلى عن بعدها الحسي/ العقلي الذي يوحي ببهجة الكتابة على الأقل البهجة التي تحدث عند قراءة صورة ما أو معنى ما، فيتشيأ كل شيء بغض الطرف عن قيمته الجمالية أو الوجدانية ، كما في هذا المشهد:
لا لشيءٍ
سأغسلُ غدًا الأشجارَ والواحاتِ والساحات
لا لشيءٍ
سأكتبُ اليومَ عن عينيك&
لا لشيءٍ&
سأعودُ الأمسَ إليك ...
لا لشيءٍ
سأفكُ جدائل اللغةِ على كتفيك
......
لأنّك رجلٌ غارقٌ بالرمز&
ولأنّي امرأة تتضحُ فوقَ ضبابِ الحنين&
&
الحرب والوعي المفارق:
من اليقيني أن المأساة السورية جاثية في الخلفية الإدراكية لنصوص عواطف بركات، على الأقل في نصوص مثل: ( تحية لعيون إلزا، غرباء وتعب قديم، إلى رجل آنف الذكر، حط على دمه وطار، امرأة على قصعة أمنية، خروج من نصوص الحرب) تمثيلا، حيث تتجلى أصداء الحرب التي تهيمن على الخلفية الإدراكية لبنى النصوص.&
وفي الشعر لا تعبر الشاعرة بشكل مباشر عن المأساة، لكنها تستنطق آليات أخرى مثل: التمرد على اللحظة، مخاصمة المسلمات، نقد الواقع وقبح العالم، المفارقة الموغلة في قراءة الذات والحدث العام أحيانا، وهنا تتكرر مفردات الموت، الجثث، التوابيت ، وتعبيرات مثل: الشرق ينمو على توابيت أحلامنا الشهيدة/ على فراش موتي المؤقت ينحني مبضع الجراحة عليّ.
وفي نص :" إلى رجل آنف الذكر" تتشح الأجواء الدلالية للنص بأجواء الحرب، كأن صور الحب غُمست في دلالات حربية، الحب لامسته يد المأساة. مأساة الحرب السورية. الشاعرة تنقل برهافة هذه الأجواء ، تحاول أن تعفّي على آثارها لكن تخذلها الكلمات:
قلت عنك للصباح
هو رجل لا مسبوق
سيقتلني أخيرا على سرير الكلمات
أموت بك أخيرا .ز أخيرا
بهدوء بلا جنازة .. بلا ورد
بلا قبر .. بلا خيمة عزاء
وأكتفي ب:
شفتيك تطعناني في الصميم
آه.. آه من فمك الشهيد / ص 17&
وفي مشاهد متكثرة نلمح هذا الفقد المأساوي والحنين إلى واقع لا يأتي لأن مفردات الحرب تجلله وتمارس خرابها اليومي، حتى الحب نفسه لم يعد موسما للخلاص، فيموت ساعي البريد الذي يوصل رسالة من عاشقة دمشقية لحبيبها في العراق كما في قصيدة:" حط على دمه وطار" وتمارس المرأة انتحاراتها:" أي شيء أكثر من الانتحار بك يثيرك؟" كما أن الكلمات تحاول الانبعاث مرة أخرى:
بالشعر أحاول التجذيف معك
في صحراء اتشحت بأمصال القتلى&
بلعاب القاتلين
بالشعر أحاول البدء معك
في آخر الموت في أول البعث الجديد / ص 32&
وقد تلجأ الشاعرة للموروث العربي &والغربي والأسطوري كنوع من الخلاص من مأساوية الواقع فتستدعي شخصيات ومواقف وأحداث، فيظهر دون كيشوت وطواحين الهواء، وزنوبيا، وأورفيوس،وإيروس، &وشهرزاد، وأفروديت، ونرسيس ، ودون جوان ، جنبا إلى جنب مع الدلالات التي تكتب المأساة وحوافها، وجنبا إلى جنب مع حالة الفقد العارمة التي تتكلل بها النصوص:&
إيروس
لا غنائم لك
أفروديت هذا المساء لا تبادلك الحب
هي متعبة ومرهقة
ومصابة بفرط الجاذبية للقمر المعلق
في سقف غرفتها الصغيرة / ص 48&
لاأنباء تأتي من المعركة!
في كفة الهزائم وضعت قماشا مضمخا بالدم
وفي كفة الانتصارات&
دققت مسمارا&
وعلقت عليه أملًا &حتى إشعار آخر
&
خلاصٌ يطهى على نار هادئة
طاقتي فذة على الحزن
مآذن وأجراس كنائس&
مواء عال يخترق جدران الصوت
&..
جثتي هامدة&
عليها يشير الزمن&
للواحدة إلا أنا&
&
إن تكوين مشهد شعري مكثف يعطي أن الشاعرة تواجه حشدا من الكلمات التي تتواتر على مخيلتها وقت انفعالها الكتابي، وتواجه حقولا دلالية متسعة تضغط ربما على المخيلة حال كتابتها نصها، وهذا الحشد والضغط من الأهمية بمكان بحيث يحفزها إلى أن تنتقي لنصها الأصوب دلاليا والأكثر تأثيرا في الوعي القارئ، لذا فإن هذه الكثرة الدلالية تقودها إلى كثافة شعرية مكتنزة – إذا صح التعبير- وإلى ما يسمى ب:" كتابة الحذف" والسعي إلى محو التفاصيل وقص الزوائد. إن الشاعرة تقدم ذلك بشكل جلي في معظم نصوص الديوان، وإذا كانت فكرة العروج الشعري تهيمن على رؤية الشاعرة ورؤاها، فإن هذا العروج يتضمن دلاليا فكرة السرعة الزمنية، تسريع النص وقصره وكثافته.&
إن الكثافة الشعرية هنا ليست معناها تقديم كلمات قليلة ، أو السعي المدرك الواعي لتقديم هذا النمط، ولكنها كثافة الرؤية التي تجعل لا العبارات &وحدها أكثر إشراقا واكتنازا بالمعنى والصورة ولكنها تجعل الكلمات نفسها أكثر قدرة على تقديم طاقاتها الدلالية، وعلى صنع الحدث الشعري المكثف.&
&