أنا ورذاذ المطر .. معطفي الأسود ونسمة وحيدة مرت بجانبي وهي تخبئ في صدرها هدوء عميق , وبين يدي صحيفة تضم في قلبها الكثير من أخبار الفقد .. فقد الأرواح .. الحضارة والتاريخ .. الصحة ومستقبل مجهول الهوية , وبخط العريض كتب صاحبها عنواناً " هنا الموت يطرق جميع الأبواب ".&
كنت أسير هادئاً رغم أصوات النواح والأنين بين صفحات صحيفتي , الخطوات حولي سريعة &والجميع في عجلة من أمره كل يريد أن يلحق على ما تبقى من رصيده في هذه الحياة , إلا صوت الأشجار والسيارات وذلك الماء الذي يتجمع في الطريق ليعيق حركة المارة في حالة تدعو للتفاؤل , فقد اجتمعوا على عزف لحن جميل كأنهم يقولون هناك وجهاً آخر لهذه الحياة وأن هناك صوتاً جميلاً يجب أن نسمعه .
في طريقي كان هناك سلم قصير لم يكتمل بنيانه بعد فقد ترك بلونه الرمادي بين محل للحلويات وآخر يبيع القهوة فقط , كان يجلس عليه شاب في الخامسة عشر وهو يضع بجانبه مجموعة مناديل يخبئها تحت صندوق خشبي صغير , وبين يديه كتاب مزقت بعض أطرافه وتركته الألوان من شدة تنقله بين أيادي عدة , و بالرغم من أوراقه المتعبة &لكنه كان يبدو على ملامح قارئه بأنه أكثر قدرة على خلق عالم جميل له ولو من خلال خياله , الناس في عجلة تحت مظلات المطر وهو منفرد بمتعته , إنه في حالة سكون تحت هذا المطر , أوقفني انفراده بنفسه بعيداً عن هذا الصخب و الازدحام , وقفت أتأمله بصمت فانتبه إلي .. توقف سائلاً إن كنت أرغب بشراء المنديل , فأجبت مبتسماً بأنني أريد واحداً فقط , نظرت في عينيه ثم أخذت أتساءل بيني وبين نفسي " ألم ينزعج من حالة الطقس وما يحيط به &؟ " .. نظر إلي منتظراً أن أسأله عن المبلغ فسألته " ماذا تفعل ؟ " , فضحك قائلاً " أدرس .. فهذا المكان يجعلني أكثر إصراراً على التعلم , لأنني لا أظن بأنني خلقت لهذا الذي تراه الآن ".
أعجبت برده فلم أستطع إلا أن أمسح على رأسه , وبينما كنا نتبادل الابتسامات وأنا أدفع له وقعت عيني على عكازتيه , فسبق سؤالي له قائلاً " تلك الحرب إن لم تسرق أرواحنا , فهي تسرق أشياء أغلى " . لم أتمكن من التعليق فأكمل بوجه يشع منه النور وبثنايا يولد من خلفها الأمل " لقد بتروا ساقي اليمنى .. لكنهم لم يبتروا حلمي , سوف أحيا بما أستحقه ليس بما يريدونه لي " .
لم أستطع أن أترك حرفاً , بل على الرغم ذلك الشيب الذي يصبغ شعري لكنني لم أستطع إلا أن أضم كلمات ذلك الشاب الصغير إلى &صدري , و أكملت بعدها سيري تحت المطر لأغسل كل حزن تعلق في لحظة يأس على جدار قلبي , بعمره الصغير أهداني درساً مهماً و جعلني أرى وجهاً جديداً للحياة .
&