يقول الطبيب الأميركي الهندي سيدهارتا موخيرجي، الفائز بجائزة بوليتزر، في كتابه "الجين: تاريخ حميم" أن العالم غير مستعد لولادة أول إنسان بجينوم معدّل كليًا في المختبر.
إيلاف: حين توفي غريغور مندل في عام 1884، نوه نعيه الذي نُشر في الجريدة المحلية بعمله عشرات السنين راهبًا ومعلمًا في دير سانت توماس في مدينة برنو التشيكية، من دون ذكر لتجاربه التي تطلبت منه جهودًا مضنية في حدائق الدير. مرت ثلاثة عقود قبل أن يُعترف ببحوثه في انتقال سمات مثل الطول والشكل واللون بين أجيال من نبات البازلاء للإجابة عن أسئلة صارع معها العلماء والفلاسفة طيلة قرون.
فهم الوراثة
غلاف كتاب "الجين: تاريخ حميم" |
مندل معروف اليوم بأنه أبو علم الوراثة، وأول من يقدمهم إلينا الطبيب والعالم البيولوجي الأميركي المتحدر من أصل هندي سيدهارتا موخيرجي في سِفره "الجين: تاريخ حميم" The Gene: An Intimate History (منشورات سكريبنر. 592 صفحة؛ 32 دولارًا. بودلي هيد. 25 جنيهًا إسترلينيًا) مع تاريخ المحاولات الرامية إلى فهم عملية الوراثة البيولوجية والتأثير فيها.
يشكل كتاب موخيرجي هذا استهلالًا لكتابه الأول الذي فاز بفضله بجائزة بوليتزر، ويعتبر سيرة حياة لمرض السرطان بعنوان "إمبراطور العلات كلها" Emperor of All Maladies. وبه نجح موخيرجي مرة أخرى في تقريب علم معقد إلى فهمنا بكتابة أنيقة وسرد متدفق.
يعود السجال حول توريث "الشبه" بين الأجيال إلى زمن المفكرين اليونانيين مثله مثل العديد من القضايا المتعلقة بالوضع البشري. ورأى فيثاغوروس أن الجنين البشري لا ينبع إلا من حيامن الرجل على الرغم من أن أرسطو لفت بذكاء إلى أن مادة الأنثى أيضًا يجب أن تقوم بدور. وفي هذه الأثناء، رصد أفلاطون مطبات أخلاقية على الطريق، مقترحًا تطبيق "قانون الولادات" لإنجاب أطفال أصحاء أقوياء.
مرت ألفيتان أُخريان قبل أن توضع هذه الأفكار الأولى على أساس أرسخ، حين أثبت مندل ومن جاءوا بعده أن الجين هو الوحدة الأساسية التي تُحفظ فيها المعلومات البيولوجية وتُنقل منها. ويصف موخيرجي هذه الفكرة بأنها "من أقوى الأفكار وأخطرها في تاريخ العلم"، بسبب الإمكانات الطبية التي أتاحها.
سلالات جديدة
في غضون 50 عامًا، بعدما عرف مندل كيف يزرع سلالات معينة من البازلاء، حاول علماء وسياسيون أن يكرروا الشيء نفسه مع البشر. وجرى تعقيم عشرات الآلاف من الأشخاص بالإكراه في الولايات المتحدة خلال القرن العشرين بدعوى أنهم يحملون جينات معطوبة، لكن ألمانيا النازية هي التي بلغ تحسين النسل نهاياته المنطقية القصوى فيها بقتل ربع مليون رجل وامرأة وطفل في الأقل، بوصفهم "مرضى وراثيًا".
انهزمت حركة تحسين النسل بعد الحرب العالمية الثانية، لكن علم الوراثة كان يدشّن عصرًا ذهبيًا. وفي حين أثبت مندل وجود الجينات، لم يعرف أحد كيف تبدو أو كيف تعمل. ويقدم عرض موخيرجي للسباق من أجل سد هذه الثغرات، بدءًا بكشف فرنسيس كريك وجيمس واطسن عن شكل "السلم الحلزوني" للحمض النووي في عام 1953 وانتهاء بانجاز خريطة الجينوم البشري في التسعينات، ترياقًا مسليًا ضد أهوال الفصول التي سبقت ذلك.
ربما يبدو موخيرجي موزَّعًا بين كتابة علم شعبي للجميع وتقديم تقرير علمي مستفيض، لكن في كتابه الكثير مما يشد القارئ الاعتيادي، بما في ذلك كم من الفحوص يجب أن تُجرى قبل الولادة بحثًا عن وجود أمراض وراثية، وماذا يجب أن يفعل الوالدان إذا ظهر مرض من هذه الأمراض؟، وهل يجب فحص المرأة بحثًا عن جينات ترتبط بزيادة خطر الاصابة بسرطان الثدي وإذا وجدت انها تحمل مثل هذه الجينات هل يتعين اجراء عملية استئصال الثدي للوقاية من الاصابة؟ وأين يقع الخط الفاصل بين التلاعب بالمادة الوراثية لتفادي المعاناة وانتاج بشر بمواصفات "حسب الطلب"؟
معضلات أخلاقية
ما يجري اليوم من اختبارات وعلاجات بمشاركة متطوعين بعيد عن القوانين التي أُقيم برنامج هتلر لتحسين النسل على أساسها. لكن، مع تعاظم قدرتنا على تصحيح المادة الوراثية وتعديلها، من يستطيع أن يضمن أن المجتمعات كافة ستبدي انضباطًا في هذا الحقل العلمي الخطير؟، موخيرجي يشير إلى تجربة في الصين حين تمكن باحثون من تعديل الجينات في جنين بشري أول مرة، في محاولة لعلاج مرض في الدم، لكن العملية أسفرت عن جملة طفرات غير مقصودة.
يتوقع موخيرجي أن تزداد المعضلات الأخلاقية عندما يتيح الذكاء الاصطناعي إيجاد علاقات بين جينات معينة وأمراض معينة، وهو يشير إلى العالم الوراثي جون سالستون، الذي حذر من المأزق الفلسفي الناجم من نشوء كائن عضوي ذكي "تعلَّم أن يقرأ تعليماته هو".
ويرى موخريجي أن مأزقًا أعمق كثيرًا يمكن أن نواجهه في حال نشوء كائن عضوي ذكي "يتعلم كتابة تعليماته هو". ومع استمرار العلم في كشف مزيد من الأسرار عن وجودنا، يكون من المغري الاعتقاد بأن المادة الوراثية أصبحت الدين الجديد.
وفي مقابلة مع فايننشيال تايمز، يقول موخيرجي إن هناك اتجاهًا في الثقافة الشعبية بأن الحمض النووي يحدد كل شيء، "وحين نفك شفرة الجينات، نفك فجأة شفرة كائن بشري. وحري بنا تذكير أنفسنا بأن هذا ليس صحيحًا. فنحن نعرف من دراسة توائم أنه حتى الأشياء التي تشترك بمحدّد وراثي قوي لا تتبدى إلا بنسبة 50 أو 60 في المئة في التوأم الآخر. وبالتالي هناك شيء آخر، سواء أكان الصدفة أو البيئة أو شيئًا يطلق تفاعلات متسلسلة تغير سلوكنا الوراثي".
لا معنى لها
بحسب موخيرجي، الجينات مرصوفة في متواليات، وكل جين يُصدر الأوامر إلى الآخر، وهي تبني أصبعًا وتبني يدًا وتتعاون بعضها مع بعض، "وعلى الرغم من أن الجينات معروفة والشفرة يمكن أن تُعرف، فإن العملية تبقى غامضة بعض الشيء. ومن الضروري التشديد على أنها عملية".
انتقد موخيرجي الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسبب رفضه الإيمان بالعلم، وأشار إلى أن ترامب قال أشياء عن التغير المناخي لا معنى لها.
ولفت موخيرجي إلى أن كتابه يتضمن فصلًا كبيرًا ومثيرًا للجدل عن "العرق"، ولاحظ أن اتجاهًا يظهر في السياسة بشأن الحتمية العرقية، وبصرف النظر عما تقوله وبصرف النظر عما تكتبه، فإن القائلين بالحتمية العرقية سيتحكمون بما تكتبه ليبدو كأنك تقول ما يريدونك أن تقول".
يسوق كتاب موخيرجي حجة قوية مفادها أن قدرتنا على تطويع المنافع الطبية لعلم الوراثة مع تفادي مخاطره ستكون من التحديات الحاسمة التي ستواجهها البشرية في القرن الحادي والعشرين.
التعليقات