دفعت عملية التمدن في الصين بعجلة التنمية الاقتصادية إلى الأمام، إضافة إلى اهتمام البلاد باقتصاد مناطق الغرب والوسط ما أدخل البلاد مرحلة نمو جديدة، إلا أنها لا تزال تواجه 3 تحديات رئيسة في هذا القرن.

إيلاف: يتخذ كتاب "التمدن في الصين" للبروفيسور لي بيي لين نائب رئيس الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، ومدير مركز البحوث التابع للأكاديمية، من التمدّن عنوانًا رئيسًا له، ليعمل من خلال الاستهلاك، العمالة، التعليم، الضمان الاجتماعي، الطبقية الاجتماعية، الدمج الاجتماعي، وغيرها من الزوايا المتعددة على بحث كل أنواع القضايا التي تواجه الصين خلال مسيرة التمدن وتحليلها، وطرح السُّبل الممكنة كافة لحل هذه القضايا.

عصر النضج
تكشف صفحات الكتاب الصادر من دار صفصافة ضمن سلسلة "قراءات صينية" التي يشرف عليها د.حسانين فهمي حسين أستاذ اللغة الصينية والترجمة المساعد في كلية الألسن جامعة عين شمس، أن حدود استهلاك الطبقة المتوسطة تتمتع بمرونة أكبر، وليس ذلك بسبب تأثير الدخول وحسب، بل له علاقة كذلك بمفهوم وأنماط الاستهلاك، والضمانات الاجتماعية، ومستوى الخدمات العامة وغيرها، لذلك يمكن القول إنه لو تحقق ما تطمح إليه الصين من تكوين قوة دافعة كبيرة لدفع النمو الاقتصادي، وهي الاستهلاك المحلي، لوجب عندها الاستمرار في توسيع حجم الطبقة المتوسطة، ولهذا علاقة وطيدة بالتغيرات الطارئة في الهيكل المهني، وارتفاع مستوى التمدن، وتوسيع حجم تغطية الضمانات الاجتماعية، وزيادة المساواة في الخدمات العامة وغيرها.

 دخلت الصين مرحلة نمو جديدة

يدور "التمدن في الصين" حول حالة التمدن ومرحلة النمو الجديدة للصين، والذي يوضح كاتبه تخطي الصين مرحلة الانطلاق، ودخولها مرحلة الاتجاه نحو النضج. كما يعرض أهمية عملية التمدن وراء دفع عجلة التنمية الاقتصادية للصين، إضافة إلى ما شهدته الصين في السنوات الأخيرة من ريادة اقتصاد مناطق الغرب والوسط للنمو الاقتصادي في الصين، مما كان له بالغ الأثر في زيادة اتزان الهيكل الإقليمي للنمو الاقتصادي، وكذلك الازدياد السريع للفجوة بين المدن والقرى في المجالات الاجتماعية كافة.

يتطرق الكتاب الذي ترجمته مروة السيد محمد ومحمد السيد عبدالعزيز إلى الأحوال العامة لبناء التمدن والمستوي المعيشي، وذلك من خلال قيام معهد البحوث الاجتماعية التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية للمرة الثالثة بإجراء "استبيان شامل لأحوال المجتمع الصيني" (CSS 2011)، من أجل معرفة المشاكل الاجتماعية والوضع العام لأحوال معيشة السكان أثناء عملية التمدن الحالية. إضافة إلى استعراض الأحوال المعيشية لسكان المدن والقرى وتحليل قضية التمدن، ودراسة السلوك الاجتماعي لسكان المدن والقرى.

فخ الدخول المتوسطة
وأكد البروفيسور لي بيي أن التمدُّن يشكل القوة الدافعة الكبرى للتنمية المستقبلية في الصين. وقال "بالتزامن مع التنمية الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة، دخلت الصين مرحلة نمو جديدة، في هذه المرحلة، عملت كل من الخصائص المرحلية للتنمية، والقضايا والتحديات التي تواجهها الصين على إحداث تغيرات عميقة، حيث ارتفعت تكاليف القوى العاملة، وانخفضت العوائد الاستثمارية، ووُضِعت العراقيل أمام التصدير، وطرأت تغيرات كبيرة على إمداد العمالة، وتسارع معدل الشيخوخة في المجتمع، واشتدت القيود على الموارد والبيئة، وأُرهِق الاستهلاك المحلي في تعزيز الاقتصاد، عملت كل هذه القضايا والتحديات على تقييد استمرارية التنمية الاقتصادية والاجتماعية بشدة، وفي الوقت عينه شهدت فرص التنمية وزخمها كذلك تغيرات كبرى، وبمواجهة هذه الظروف والتغيرات الجديدة تساءل العديد من الناس، هل ستدخل الصين في "فخ الدخول المتوسطة" مثل بعض بلدان ومناطق أميركا اللاتينية؟، وكيف ستخرج من هذا الفخ وتتغلب عليه؟.

أوضح الكاتب أنه على مستوى الفرص الجديدة وزخم التنمية، يجب أن يتمثل معظم الفرص والزخم الحالي في التمدن، فبتأخر التمدن عن التصنيع، أصبح كلاهما محركًا جديدًا للتنمية في الصين، لتدخل الصين مرحلة نمو جديدة بمحرك دفع ثنائي هما التصنيع والتمدن، ويرى جوزيف ستيجليدز (Joseph E. Stiglitz) الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد أن الصين تواجه 3 تحديات كبرى في القرن 21، يمثل التمدن التحدي الأول من هذه التحديات الثلاثة، وذلك بسبب كون التمدن نقطة نمو مهمة يمكن أن تعمل على تعزيز متطلبات الداخل لفترة طويلة، وبالطبع تتمثل التحديات - أيضًا - في الفرص، فباستغلالها الجيد يمكن للتنمية الاقتصادية والاجتماعية أن تدخل في مرحلة جديدة، وباستغلالها السيء يمكن كذلك أن تؤدي إلى خلق تنمية مشوَّهة للتمدن، ويعتبر هذا درسًا وموعظة على الصعيد الدولي لكل الدول.

الديموغرافية والتمدن
ورأى البروفيسور لي بيي أن الصين شهدت نقطة بارزة في التحول الهيكلي بها، وهي التأخر التدريجي في مجالات التصنيع، التحويل من مجال الزراعة، التمدن، والتغيرات الديموغرافية. ففي البداية، نرى تأخر التحول من مجال الزراعة عن مجال التصنيع، وتأخر تحول هيكل العمالة عن تحول الهيكل الاقتصادي، فوصولًا إلى عام 2011، انخفضت نسبة القيمة المضافة في مجال الزراعة من إجمالي الناتج المحلي لتصل إلى 10% تقريبًا، إلا أن نسبة العاملين في مجال الزراعة احتلت 38% تقريبًا من إجمالي نسبة العاملين على مستوى الدولة. 

أما نسبة العاملين في مجال الزراعة في العديد من دول العالم فانخفضت جميعها لتصل إلى أقل من 25%، وذلك على صعيد مستوى التصنيع نفسه، ثانيًا: نجد تأخر التمدن كذلك عن التحول من مجال الزراعة، حيث يقل مستوى التمدن (51%) عن مستوى التحول من مجال الزراعة (38%)، وفي النهاية، نجد تأخر التغيرات الديموغرافية كذلك عن مسيرة التمدن، حيث يقل مستوى التغيرات الديموغرافية (بنسبة تعدت 30%) عن مستوى التمدن (بنسبة تفوق 50%).

وأشار إلى أن تقرير المؤتمر الشعبي الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني قدم حكمًا علميًا حول التوجيه التاريخي لتطوير الإصلاح في الريف الصيني، حيث أشار التقرير إلى "اعتبار حل القضايا المتعلقة بالزراعة والريف والفلاحين أهم أعمال الحزب، ويعد تكامل التنمية بين المدن والقرى مسارًا أساسيًا لحل تلك ’القضايا الريفية الثلاثة‘"، كما "يجب بلورة بعض المفاهيم كدفع التصنيع للزراعة، ومساندة المدن للقرى، وتبادل المنفعة بين المدن والقرى، وتشكيل نوع جديد موحد في المدن والقرى للعمال المزارعين، وخلق العلاقة بين المدن والقرى". 

ويمكن القول إن تحقيق التكامل بين المدن والقرى والقائم على التخلص من الهيكل المزدوج، وتطبيق نظم الإدارة فيهما من شأنه أن يحقق الإصلاح الكبير في الريف الصيني، وهو الرابع منذ تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح، ويقتضي بخلق نظام للمساءلة في ما يخص عقود الإنتاج المشترك بين الأسر، وتحقيق تنمية صناعية في المدن الصغرى والقرى، وإلغاء الضرائب الزراعية، وتأسيس نظام ضمانات اجتماعية يغطي كل المدن والقرى.

ارتفاع الوعي بالحقوق
حول تباطؤ عملية الدمج الاجتماعي للعمال المهاجرين للعمل في المدن، لفت البروفيسور لي بيي، إلى أنه في عام 2011 تجاوز عدد سكان المدن الصينية 690 مليون نسمة، ليقفز معدل التمدّن لأول مرة فوق حاجز 50% ويصل إلى 51.3% (وفقًا لما أعلنه المكتب الصيني الوطني للإحصاء 2012). 

وعلى الرغم من هذه النسبة التي حققتها الصين خلال 30 عامًا، في مقابل النسبة نفسها التي تحققت في دول الغرب المتقدمة على مدار أكثر من 100 عام، إلا أن الصين لم تتمكن في هذه المرحلة من إيجاد حلول جذرية للعديد من القضايا، أهمها قضية الدمج الاجتماعي، ففي الوقت الحاضر تعتبر الصين توطين العمال المهاجرين للعمل في المدن مهمة متطورة في غاية الأهمية، وذلك بسبب وجود مئات الآلاف من العمال المهاجرين المحتسبين كدائمي الإقامة في المدن، وهم في الواقع "نصف مدنيين"، وخلال مسيرة التمدن تعتبر قضية دمج المهاجرين للمدن اجتماعيًا قضية عالمية صعبة، فقد كنا نرى من قبل أن حل الصين لهذه القضية سيكون أسهل قليلًا مقارنة بدول الغرب المتقدمة، وذلك بسبب عدم وجود العوائق الكبرى أمام الدمج الاجتماعي والموجودة في دول الغرب المتقدمة والتي يجلبها كل من الدين، والقومية، واللغة، والعادات، إلا أنه من خلال الدراسة نكتف تباطؤ عملية الدمج الاجتماعي للعمال المهاجرين للمدن في الصين كذلك خلال مسيرة التمدن.

كما نجد تحسن أوضاع الجيل الجديد من العمال المهاجرين للعمل في المدن والمولودين بعد عامي 1980 و1990 عن أوضاع الجيل القديم منهم، وذلك على مستوى الدخل المطلق، وسنوات تلقي التعليم، ومهارات العمل، لكن الدراسة تكشف لنا أنه بمقارنة أحوال الدمج الاجتماعي بين الجيلين لا نجد أي فوارق جذرية بينهما، كما نجد ارتفاع مستوى الوعي بالحقوق والمطالبة بالمساواة في المعاملة عند الجيل الجديد من العمال المهاجرين للعمل في المدن. 

فجوة الاستهلاك
وعن الدور الرئيس الذي سيلعبه التمدن مستقبلًا في تعزيز الاستهلاك قال البروفيسور لي بيي "منذ وقت طويل، و"عجلات الدفع الثلاثية" المتمثلة في الاستثمار، والتصدير، والاستهلاك تعمل على تعزيز النمو الاقتصادي، من بينها يُعتبر الاستثمار والتصدير قوتي دفع رئيستين. أما في ما يخص استمرارية النمو الاقتصادي في الصين مستقبلًا، فسيصبح الاستهلاك المحلي قوة اعتمادية رئيسة، كما تعد مسيرة التمدن كذلك عملية قائمة على رفع مستوى الاستهلاك، وتغيير كل من الهيكل الاستهلاكي، والرغبة الاستهلاكية، وأنماط الترفيه. وفي الوقت الحاضر يمثل مستوى دخول سكان المدن الصينية أكثر من 3 أضعاف مستوى دخول سكان القرى، لكن بإضافة الفروق على مستوى التعليم، الصحة، والضمانات الاجتماعية، وغيرها، نجد أن الفروق على مستوى القدرة الاستهلاكية بين المدن والقرى متوقع أن يصل إلى أكثر من 6 أضعاف.

وكشف أن الفوارق تظهر جلية على المستوى العام لمستوى الاستهلاك والهيكل الاستهلاكي بين المدن والقرى، حيث تمثل غالبية الفلاحين فئة المستهلكين ذوي الدخل المنخفض نسبيًا، ولا تزال فجوة الاستهلاك تتسع بين المدن والقرى، حيث يستمر انخفاض نسبة الاستهلاك للفئة ذات دخل 20% على أقل تقدير من حجم الاستهلاك العام للسكان. أما إجمالي حجم النفقات الاستهلاكية للفئة ذات استهلاك 20% كأعلى تقدير فتجاوز أكثر من نصف إجمالي حجم الاستهلاك العام للسكان، لتزداد بذلك أكثر عدم المساواة في الاستهلاك. 

كما نجد النقاط المتشابهة كذلك بين سكان المدن والقرى على مستوى استهلاكهم، حيث نرى المستوى المنخفض نسبيًا لدرجة عدم مساواة النفقات الاستهلاكية على بعض السلع الاستهلاكية الضرورية. أما النسبة العالية نسبيًا للإنفاق على الإسكان، الصحة، والتعليم فتعد نقطة مشتركة للاستهلاك الأسري بين المدن والقرى، كما ظهرت اتجاهات متنوعة لأنماط الاستهلاك والترفيه لسكان المدن. أما أنماط الاستهلاك والترفيه لسكان القرى فلا تزال ذات اتجاه واحد.

لتقديم خدمات أفضل
ورأى البروفيسور لي بيي أنه لتحقيق المزيد من التحسين على أحوال استهلاك السكان في المدن والقرى، يجب في البداية تغيير وضع الانخفاض المستمر في نسبة دخول سكان المدن والقرى من نسبة الدخل القومي، يجب استخدام كل الطرق والوسائل لرفع مستوى دخول جموع الفلاحين. 

ثانيًا: يجب تقديم خدمات تعليمية أفضل، حيث يجب استخدام الاستثمارات التعليمية أكثر في تخفيض تكاليف تعليم أبناء وبنات الأسر، ففي الوقت الحالي تعاني الأسر الصينية من ارتفاع المصاريف الدراسية، خاصة الأسر ذات الدخل المنخفض، مما أدى إلى تأثر مستوى استهلاكها الأسري بشدة. 

ثالثًا: يجب توسيع تغطية الضمان الاجتماعي، لتقليل التكاليف التي تتحملها الأسر المقيمة في المدن والقرى عند الفحص في المشافي، حيث يتأثر مستوى الاستهلاك الأسري بشدة كذلك بسبب إنفاقها الخاص على العلاج، وفي النهاية يجب حل قضية الإسكان للأسر ذات الدخل المتوسط – المنخفض في المدن.