رغم ثورتها الصناعية إلا أن الصين لم تهمل البيئة، بل رأت أن التنمية الخضراء توجّه حتمي في عصرنا، محددة لها أهدافًا ومتطلبات، ووضعت استراتيجية للتنمية الخضراء في المدن الصغيرة والمتوسطة.
إيلاف: يقدم كتاب "التنمية الخضراء في الصين" البروفيسور لي شويه فينغ، الذي يشغل نائب مدير مركز أبحاث تنمية المدن والدراسات البيئية التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، والأستاذ في أكاديمية الإدارة الوطنية، التجربة الصينية في مجال التنمية الخضراء والحفاظ على البيئة، ويستعرض نماذج من المدن الصغيرة والمتوسطة، التي طبقت هذه التجربة، وكيف استلهمت الصين تجارب الدول الأخرى - اليابان والدول الأوروبية في هذا المجال؟.
لم تهمل الصين الإنسان أثناء تحديث مخططاتها وتطويرها |
فقد رأت الصين أن التنمية الخضراء توجّه حتمي في هذا العصر، ومن ثم حددت لها أهدافًا ومتطلبات ومجالات، ووضعت استراتيجية للتنمية الخضراء في المدن الصغيرة والمتوسطة، وحددت لها نماذج معينة.
التثقيف يعزز التنمية
عملت الصين كذلك على سنّ التشريعات لتنظيم استخدام الأراضي في المدن والريف وتحسين أداء استغلال أراضي الحضر وابتكار آلية علمية لتقويم هذا الأداء، ووضعت سياسات تحفيزية لابتكار نظم جديدة لاستغلال الأراضي وإنشاء نظام للرقابة الشاملة على استخدامها.
سعت الصين كذلك إلى تحديث التخطيط الحضري ومفهوم التنمية الحضرية، ولم تهمل أبدًا الإنسان أثناء تحديث هذه المخططات وتطويرها.
يستعرض الكتاب الدراسات التي أجرتها الصين حول طرق التنمية منخفضة الكربون في المدن الصغيرة والمتوسطة وإعادة هيكلة الصناعات التقليدية والحدّ من الانبعاثات الكربونية وتنمية الصناعة منخفضة الكربون والتوسع في الدعاية لبناء مجتمع منخفض الكربون والمشاكل والتحديات التي تواجه التنمية منخفضة الكربون وكيفية التغلب عليها.
كما يعرض أهمية التعليم والتثقيف الأخضر في تعزيز التنمية الخضراء والتعليم الأخضر في العالم بين النظرية والتطبيق وأشكال التعليم الأخضر ومحتواه في الدول التي سبقت الصين بالسير في هذا الطريق. ويقدم كذلك أحوال التعليم الأخضر في المدن الصينية وأهم المشكلات التي يواجها ومقترحات وإجراءات تعزيز التعليم الأخضر من تحسين الاهتمام واستثمار الأموال ووضع نظام لنشر قواعد وسياسات التعليم الأخضر ومنظومة تدريب كوادر تدريسية وتحسين مهارات المعلمين وتوسيع مجال التعليم الأخضر والعمل بأساليب فعالة لتعزيز الوعي البيئي لدى كل المواطنين.
نماذج مدن متحولة
يقدم الكتاب الذي ترجمته د. منى الجمل، الأستاذ المساعد في قسم اللغة الصينية، كلية الألسن في جامعة عين شمس، وصدر من دار صفصافة، خبرات التنمية الحضرية الخضراء في الداخل والخارج، واستلهامها والاستعانة بالخبرات المحلية والدولية في مجال التنمية الخضراء. إضافة إلى تأسيس الصين نظام الاستخدام المدفوع للموارد والتعويض البيئي والممارسات الفعلية والتجارب المستفادة من تطبيق النظام والمشاكل والتحديات.
كما يقدم الثغرات والتناقضات في القوانين واللوائح المعنية والحاجة الملحّة إلى إصلاح النظام المالي والضريبي وتعديل وظيفة الإدارة الحكومية لتطبيق النظم الجديدة بلا عقبات إدارية وحكومية ووضع كل القوانين والتشريعات المعنية وتحسين السياسات الضريبية الحالية لحماية البيئة وتبسيط أساليب الإدارة وإرساء اللامركزية والابتكار في الخدمات العامة وتحسين آليات السوق.
يعرض البروفيسور لي شويه فينغ في جزء خاص ومهم في الكتاب نماذج من المدن الصينية الصغيرة والمتوسطة التي تحولت إلى مدن خضراء تطبيقًا لسياسة التنمية الخضراء في الصين، والتي يفتخر بها الصينيون، مثل مدينة كونشان ومدينة سوينينغ ومدينة يانغ تشو ونينغ قوا وبيكسيان وتشين جيانغ ونان آن وهاي تشانغ.
بناء الحضارة الإيكولوجية
حيث يستعرض تجربة كل مدينة على حدة ومميزاتها والتجارب المستفادة من كل تجربة. مما ميّز مدينة كونشان الإسراع والارتقاء بالتحول والسعي إلى بناء منظومة صناعية خضراء. أما مدينة سوينينغ فتميزت ببناء منظومة مخططة بالكامل وقائمة على نظام إيكولوجي يركز على "التخطيط الأخضر" والتخلي عن مشروعات محددة من أجل الحفاظ على البيئة، ومدينة يانغ تشو بـ"غرفة معيشة خضراء" لكل مواطن، وتطبيق منظومة المباني الخضراء.
في حين تميزت مدينة بيكسيان بتنفيذ مشروعات تحسين التنمية الصناعية مع الحفاظ على البيئة الإيكولوجية وتحسينها، ومدينة تشين جيانغ بإعادة إحياء المناظر الطبيعية فيها وترميمها. وفي نان آن تم تنفيذ مشروعات صناعية وزراعية وسياحية إيكولوجية وتعزيز حماية مصادر مياه الشرب، وتميزت التنمية الخضراء في مدينة هاي تشانغ بالاهتمام المتساوي بالتنمية الاقتصادية والحماية البيئية واحترام الطبيعة والتشديد على المعالجة لخلق بيئة ملائمة للعيش وتنفيذ مشروعات "جبل أخضر" و"مياه صافية" و"سماء زرقاء" وتربة نظيفة".
يقول البروفيسور لي شويه فينغ إنه في نهاية عام 2012 بلغ عدد المدن الصغيرة والمتوسطة في الصين 530 مدينة طبقًا لنظام تنظيم المدن في الصين، أي تحتل بذلك 80.7%، ويبلغ إجمالي عدد سكان بلديات هذه المدن الصغيرة والمتوسطة 144 مليون و700 ألف نسمة، وهي بذلك تحتل 32.2% من إجمالي سكان بلديات المدن.
بينما تبلغ مساحة المدن المبنية والمجهزة بالخدمات من المدن الصغيرة والمتوسطة 19830 كيلو متر مربع، أي يحتل 43.3% من إجمالي مساحة المدن، وهي بذلك تحتل نسبة أعلى من نسبة السكان، وبالمقارنة فإن إجمالي عدد سكان البلديات بالمدن الكبرى والمدن السوبر والعملاقة بالنسبة إلى إجمالي عدد السكان في المدن جميعها، والنسبة التي تحتلها مساحة المدن المجهزة من إجمالي المدن كل على حدة 38.8% و32.3%، 19.3% و17.4%، 9.7% و7.0%.
ومن هنا يتضح أن كثافة السكان في المدن الصغيرة والمتوسطة تنخفض عن المدن الكبرى والسوبر والعملاقة، وتنخفض صلابة استخدام الأراضي في المدن الصغيرة والمتوسطة عن المدن الكبرى والسوبر والعملاقة. أما في ما يخص المدن الصغيرة والمتوسطة، فعلينا أن ندرك أن بناء الحضارة الإيكولوجية يتطلب تطبيق النظام أولًا، وإلا سيصبح حديثنا عن بناء الحضارة الإيكولوجية مجرد حبر على ورق.
الفيتو حقًا
ويرى أنه وفقًا لذلك يجب أن ينطلق بناء النظام الخاص بالحضارة الأيكولوجية من المجالات الآتية: أولًا التمسك الصارم بتنفيذ نظام حماية الأراضي الزراعية ونظام إدارة الموارد المائية ونظام حماية البيئة، فيجب اعتبار الخط الأحمر لحماية الأراضي الزراعية خطًا للضغط العالي، الذي لا يستطيع أي شخص، أو أي منطقة، الاقتراب منه أو الاصطدام به، ونشر نصوص القوانين الآتية المتعلقة بحماية البيئة والموارد على نطاق واسع: "قانون حماية البيئة "و"قانون حماية البيئة البحرية " و"قانون مكافحة تلوث الهواء" و"قانون مكافحة تلوث البيئة بالمخلفات الصلبة" و"قانون المياه في جمهورية الصين الشعبية"... إلخ، يطبق القانون على كل من يخالفه.
ثانيًا التطبيق الصارم للمعايير الوطنية لاستغلال الأراضي والموارد المائية، ووضع معايير لقوة الاستثمار ومعايير صرف الملوثات والانبعاثات وفقًا لواقع كل منطقة، وتطبيق العقوبات على كل من يتخطى هذه المعايير، وأمره بتصحيح الخطأ في وقت محدد، وإذا كان من الصعب تصحيحه، فيجب وقفه في المهلة المحددة وإزالته، كما يجب تحديد سقف للاستثمار وسقف للملوثات والانبعاثات للمؤسسات الجديدة، وترفض بحزم المؤسسات التي لا تحقق هذه المعايير.
ثالثًا تحسين منظومة تقييم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وضعف تقييم إجمالي الناتج القومي ومؤشرات استهلاك الموارد والإضرار بالبيئة والعائد الإيكولوجي، وبناء آلية محاسبة تتوافق مع منظومة التقييم، والعمل بحق الفيتو تجاه المؤشرات الجوهرية للبيئة الإيكولوجية (يكون تقييم الأشخاص والوحدات التي لا تستطيع تحقيق المعايير للمؤشرات الجوهرية هو الرفض وعدم قبولها)، والعمل بنظام الملاحقة والمساءلة في ما يخص الحوادث البيئية الخطيرة والضخمة.
دعم الابتكار التكنولوجي
ويلفت البروفيسور لي شويه فينغ إلى أنه لتعزيز بناء الحضارة الإيكولوجية، والتمسك بالمدن الصغيرة والمتوسطة ينبغي الإلزام بنواح عدة لدعم الابتكار التكنولوجي فيها، وهي:
أولًا وضع خطط وبرامج للابتكار التكنولوجي، وسياسة واضحة لتشجيع الابتكار التكنولوجي، والتشجيع على التقدم للحصول على براءة اختراع ومنح مكافآت تشجيعية لبراءات الاختراع التكنولوجية، وإنشاء صندوق خاص لدعم الابتكار التكنولوجي والجهود المبذولة، ودعم البحوث التكنولوجية المحلية وتخصيص جائزة كبرى لتطبيق الابتكارات التكنولوجية.
ثانيًا الجمع بين السمات البيئية المحلية وخصائص التنمية الصناعية، وتعزيز الخصائص الإقليمية والاكتفاء الذاتي من التكنولوجيا الصناعية المتميزة؛ لتلبية احتياجات الاقتصاد المحلي والتنمية الاجتماعية كنقطة انطلاق، بناء على استيعاب التكنولوجيا، ويوفر الدعم التكنولوجي للصناعات (الاقتصاد) ذات الخصائص المناطقية (الإقليمية) والارتقاء بها. نأخذ منطقة شيباي مثالًا على ذلك، فهي من ناحية منطقة شحيحة المياه، ومن ناحية أخرى تتمتع بوفرة أشعة الشمس، ومن هنا يجب دعم تكنولوجيا الصناعات الموفرة للمياه، والصناعات التي تستغل تكنولوجيا الطاقة الشمسية.
ثالثًا تعزيز الابتكار التكنولوجي والعلمي ودوره النموذجي والقاطر، وتعزيز تصنيع التكنولوجيا التقليدية المحلية الفائقة والصناعات المتميزة، والتركيز على المؤسسات القائمة على الابتكار والمشروعات النموذجية العلمية كنقطة مهمة، ورفع المستوى العام للابتكار في الصناعة تدريجيًا وتعزيز هيكلة الاقتصاد وتطوير الابتكار.
رابعًا العمل الجاد على بناء القدرات الابتكارية الإقليمية، والبناء التدريجي لآلية كاملة تساير الابتكار والبيئة الاجتماعية، وتحسين منظومة الابتكار التكنولوجي المؤسسي ككيان فاعل، والمشروعات الموجهة نحو السوق وتنظيم الترويج الإنتاجي والعلمي والبحثي والربط بينها وتحسين منظومة الخدمات العلمية والتكنولوجية.
يذكر أن الكتاب يصدر ضمن سلسلة "قراءات صينية"، التي تصدرها دار صفصافة للنشر، بإشراف د. حسانين فهمي حسين الأستاذ المساعد في كلية الألسن جامعة عين شمس، وأن مترجمته منى الجمل صدر لها عدد من الترجمات من الصينية إلى العربية، وشاركت في ترجمة الموسوعة الإسلامية والاقتصاد الصيني – الإصلاحات والتحولات وغيرها من الأعمال.
التعليقات