كادت الشمس تتوارى خلف الستائر المكشوفة عن النافذة التي تحتل نصف مساحة الجدار المواجه لديفيد، أو تكاد. يبدو أن ظلمة ما ستلتحق بأجواء لم يكن نور الشمس الكاسح خلال الساعات الماضية لينير الكثير من ملابساتها على كل حال.

.. ثمة عثرة ما.. شيء أشبه ما يكون بحلقة مفقودة في مقاربة الإنسان للزمن: ماض، ومستقبل، وبينهما حاضر. لكن، يُشْكل هذا الهيكل الكلاسيكي شيئا ما، ما إن نرتفع شيئا ما عن المستويات الأولى والتقسيمات الأولية، إذ يصير الإنسان هو نفسه الحاضر، في انتقاله بين الزمنين الأخريين.. ها قد حيدنا واحدا! لكن لِم تَظَل كل من البداية والنهاية عصية على التحديد، وأكثر استعصاءً على التحييد؟ ولماذا يتذكر ديفيد جزئية كهذه، وبهذا التفصيل بالذات، مستحضرا نقاشا عمره في ذاكرته تسع سنوات.. أيكون هو نفسه الآن؟!

- .. ما رأيك في التسليم الأخير بمقامك الدائم بيننا؟

- أمر يثير بعض السخرية، ولا شيء من الغرابة.

- هل نستطيع القول إنها نهاية مرحلة أولى.. مقدمة كما تسميها؟

- .. لنقل إنها كذلك. والأمر هذا أخبرتك به منذ البداية، لكن ضجيجكم منعكم من التسليم بحقيقة كهذه. تماما كما يمنعكم في هذه الأيام التي تتأهبون فيها لاجتياز حقل من الألغام، في بهرجة لا تنم إلا عن انقطاع الرجاء المزمن في أن تنصتوا مجرد إنصات للدرس، فكيف بأن تستوعبوه! فأنا لست وحدي في الساحة، ثمة أقربائي وبعض من أسلافي، حمى الضنك والملاريا والكوليرا، يقتلون بعضا منكم في قرنكم هذا، أولئك الذين لا يملكون ترف- أو شرف.. سمه كما شئت- أن أكون أنا، وحيد زماني، من يأخذ حياتهم إلى حيث يكونون بلا شك في ظرف سعيد، حيث العدالة ليست أبدا غلة مطر القذائف على رؤوسهم في كل ميقات باسم السماء وهي من كل ذلك براء. في وقت ما فتئ فيه الشماليون يحذرون الجنوبيين من مخاطري المحتملة عليهم، بلسان حال يقول: أليس من "المفترض" أن نتبادل أعداد الوفيات.. ثمة "خطأ" ما في كل هذا السيناريو، أليس كذلك!

- أن نتعايش معك يعني أن نستحضر الخوف منك في كل وقت وحين، أفلا يكون هذا عاملا مشوشا وبشدة على ما تعتزم أنه درس مهم جئت لأجل إلقائه؟

- هذا صحيح نظريا، وإلا فكيف سألقنه لمن ظنوا في البداية أن سأرحل بعد أسبوعين أو ثلاثة.. بل ونفوا حتى وجودي قبل ذلك؟!

- .. يبدو جليا، إن تحفظنا وبشدة على الوفيات والضغط الممارس منك الذي يرقى إلى التعذيب، أن ثمة منطقا من وراء كل هذا، إلى الحد الذي جعل أكثرنا اليوم يعترف لك بما لو أنك لم تأت لما كنا في زحمة عيشنا لنلتفت إليه. فكيف تنظر إلى الأمر؟

- بأن أقول بداية صباح الخير لهؤلاء! ثم بالكثير جدا من النسبية والتفاوت. فأمر كهذا، وإن كان جيدا في الظاهر أو يحمل إشارات جيدة لمستقبل لن يكون أبدا أكثر إشراقا- حتى لا نقول أقل ظلمة- فهو جزئي جدا.

- وما بعد؟!

- أن تسلموا بأن تراكم القرون والمراحل في اجترار الأخطاء، التي تمسي أكثر بشاعة كلما صرتم أكثر "تقدما"، لا يمكن أن ينقلب في فترة قوامها أشهر معدودة. في يدكم رزمة مفاتيح، غير أنكم تصرون في تعنت عقيم على تجريب المفاتيح نفسها التي لم تفلح يوما في فتح القفل.. الأمر ليس أبدا أكثر صعوبة من ذلك.

- إن أضفنا إلى الخوف عامل تواصل تزايد إجمالي عدد الوفيات، وإن بوتيرة أقل الآن، فهذا عامل ضغط آخر. أتكون ظروف كهذه مثمرة حقا في درسه لربما تكون عبرته الأخيرة؟!

- هي كذلك.

- جسد ينزف سينتهي به المطاف لا محالة إلى السقوط صريعا، أليس كذلك؟!

- .. على أنه إذ ذاك سيعي يقينا، ولو لمرة، أنه لطالما كان جسدا واحدا.. لا مجموعة أعضاء مستقلة بذاتها، هاجسها الوحيد هو الإكراهات المادية!

- وما تكون حينها الفائدة؟!

- إجابة صحيحة أخيرة.. وإن متأخرة.