.. حسنا، لنفترض أن كل هذا نتيجة لخلاف بين القدر وبين هذا الذي يحتل جثة البروفسور إ.أ. إذ لا بد من التمثيل الموازي لأصل إلى شيء ما.. وكلنا يعرف أساليب القدر، تلك المغرقة في الكلاسيكية، والتي ظلت هي نفسها منذ بدأ التأريخ بشتى عصوره. ثم هنالك سلالة هذه "الجثة الحية القاتلة"، والتي بدورها تتميز بأسلوب وحيد.

لم يكن القدر مستغنيا يوما عن سخريته، ذلك هو أسلوبه في التعاطي معنا، كل على حدة، ولطالما ألهمت وأعجزت سخرية القدر الكثير من بني البشر.. في مقابل دخول هذا القاتل وأمثاله على خطي التاريخ والجغرافيا، معيدا خلط الأوراق، قالبا الطاولة، متطاولا طولا وعرضا على تواطئنا مع القدر وفق قاعدة الأقوى، وسنة الحياة والعيش، من أوله.. إلى آخره...

أفلا يكون الخلاف يومها خلافا حول التاريخ والكيف؟! بل ربما حول التنفيذ من عدمه بلا شك.. على أني أذكر جيدا أن الجو كان هادئا جدا، لم يعكر صفوه إلا فتحي المباغت للباب. لقد أبرم الاتفاق يومها بلا شك، لكن ما علاقة ذلك برسالة صديقي الملغزة جدا، الحمالة للأوجه، الحبلى بالتأويل، والتي تلقيتها ثلاثة أشهر قبل موعد الاجتماع؟ ثم إن كل هذا سيغرق في المزيد من الالتباس باستحضار عامل المكان أيضا.. فماذا؟ وإلى أين...

كان ديفيد مولعا بالكتابة.. لكن على طريقته، وفق نظرته، أي: لا إلى هؤلاء الذين ينصحون بأخذ ورقة وقلم وخط الخطط التي ستنير لهم أزقة الحياة! ولا إلى أولئك الذين يُنَظرون من عل.. وإن أبدعوا. لا، أبدا. بل ينتمي إلى مدرسة "تدوير الألم"، وطبعا ليست المدرسة الكلاسيكية من أنار دربه ههنا، إذ لطالما اعتقد اعتقادا مستقرا في أعماق نفسه، لا يطفو إلى سطح الشك، أن المسألة مسألة تمكن من التقنيات بعد "ملء الرأس" بالمعلومات. ليكتشف فيما بعد، في مدارس لا تضم رحابتها أسوار، أن الأمر ليس أبدا كذلك. ثمة أشياء من فرط بساطتها رُفضت، وأبى الإنسان أن يعترف لها بشيء، فكيف مثلا ينسى الإنسان أن الحدس قاده إلى أعظم الاكتشافات العلمية.. أفيعجزه إذن أن يقوده في دروب حياته اليومية؟!

تطلبت خلاصة بسيطة كهاته الكثير من السنوات حتى تستقر في وجدان ديفيد: من يكتبون جيدا، يتألمون جدا، ومن يبتسمون بعذوبة قد تعذبوا قطعا ببشاعة.

.. السجن من المدارس التي مر منها ديفيد قبل سنوات، في مراحل متفرقة، أي أنه دخل هذه المؤسسة عدة مرات لم يسهم تعددها في كسر وحدة السبب، والذي لم يكن له طبعا أية صلة بالحياة المهنية لديفيد.. بل بحياته الشخصية.

يعلم ديفيد علم اليقين أن السجن قد يهدي لصاحبه شيئا قد يكون أثمن من الحرية، إنه النضج. هذا ما خلص إليه من تجربته الشخصية، ومن تجربة زملائه الذين كان بعضهم يحرك مصائر من هم خارج أسوار السجن ببساطة وسهولة مثلما يحرك أصابع يده.. فمن هو حقا السجين في المسألة؟ ومن الحر!

هنالك، في السجن، سخر المساجين كثيرا من ديفيد.. لا من تهمته التي وجد من يواسيه فيها ويتفهم داخل الأسوار أكثر بكثير مما وجد خارجها، بل من اسمه المركب، ومن تنوع أشكال الصلوات التي كان يؤديها. حيث يذكر جيدا أن أحد أباطرة السجن قال له ذات يوم ساخرا: يبدو أنك تهوى السياحة، لذلك اخترت أن تزور بعد الحياة ثلاثة مواقع مختلفة من الجحيم!

لقد خبر ديفيد أيضا من تجربته الكثير عن نفسية المجرمين ومنطق تفكيرهم، لا سيما أولئك الذين تزعموا عصابات الجريمة المنظمة. كما يعي جيدا أن كل إدانة لفرد مجرم متضمنة بالضرورة إدانة للمجتمع ككل، وأن من بلغوا في الإجرام مقام "النظام" يعبرون عن ذلك بشكل ساخر- بلا شك- وساحر أيضا. لذا فقد كان ديفيد مهوسا بمحاورتهم وباقتفاء أثر كتاباتهم على قلتها والتي لا تقل، بحسبه، روعة عن أدب السجون.. إن لم تكن تتجاوزه جرأة وعمقا.

من أجل ذلك سفه ديفيد كثيرا رأي روبيرتو حول الموضوع، مدرجا موقفه ضمن موكب الانتهازيين الذين يبرعون هم أيضا في تدوير الألم.. غير أنه بداية ليس ألمهم، ثم هم يصيرونه سلعة يجنون من بيعها آلاف وربما ملايين الدولارات.. في الوقت الذي تنازع فيه الحقيقة أنفاسها الأخيرة على عتبة باب مذبح العصر.. ومن كل هذا، إلى هذا.. هذا الذي ليس أبدا إنسانا، وإن استوطن جسم بشري، إذ ثمة إنسان متوار خلف كل مجرم مهما بلغت درجة بشاعة جرائمه.. لكن ليس طبعا هذا، فالأمر هنا مختلف تماما:

- صحيح أنك تركت القارة السمراء تتنفس شيئا من الحياة إبان أسابيع الموت في القارة العجوز، لكن لِم تأتي الآن على قارة أخرى تستحق هي الأخرى اعتبارا وحياة، ألا وهي أمريكا اللاتينية؟

- يبدو لك الأمر كذلك لإصرارك على مقاربة الموضوع وفقا لنظرتك للحياة وللقيم التي تؤمن بها. لكن، لا تنس أني لست خليفة الله في الأرض لأملأها عدلا.. أنصر المظلوم.. وأضرب على يد الظالم.. هذه أمور لا تستهويكم إلا أنتم يا بني البشر.

- .. ماذا عمن يرون النور في ظلك، فأنت لم توقف كل الحياة على كل حال، أولئك الأطفال الذين سيولدون، وربما سيكبرون وسط حدائق الخوف التي زرعتها؟ أطفال سيحرمون من الانطلاق، ومن الركض ومن اللعب رفقة أقرانهم.. ماذا تقول عن هذا؟

- أقول إنك تبحث لي عن إدانة أخلاقية تلزمكم أنتم مرة أخرى، وليس أنا.. الحياة! الحياة هي أيضا مسألة اختيارية سيد ديفيد، وربما ألتمس لك عذرا ههنا، فنحن- على العكس منكم- نأتي إلى الحياة بعد أن نختار ذلك.. على ألا تجعل من ذلك ذريعة أخرى تصوركم مساكينا، وتصورني جلادا.. لا، الأمر ليس أبدا كذلك. ثم ما هو شكل هذه الحياة التي كنتم تعدونها لهؤلاء الأطفال؟! لا داعي لأن نكرر ما تقدم.

- .. تصرفاتك تجعل من تصنيفك شيطانا، أقرب وأسلم منطقا من وصفك بالملاك مثلا؟

- .. الشيطان.. المسكين.. ولا أقصدك أنت، بل أقصد هذا الكائن الذي تتحاملون عليه بشكل خرافي. حسنا، لنحيد الجانب الديني، فما يهم ههنا هو المثال، ولنتساءل: ما مشكلة الشيطان أساسا؟! ما سر هذا الصراع الأزلي القدم، السرمدي المستقبل؟!

كل مشكلة الشيطان أنه ظلم ظلما بواحا ليس إلا، ومن سوء حظه أن واحدا منكم- أنتم البشريون، السلاسة الأسوأ والأكثر إفسادا في الأرض بشهادة الملائكة أنفسهم- كان شاهدا على الامتحان- الكمين الذي نصب للشيطان فطاش صوابه غضبا ليقول بأعلى صوت "لا، في وجه من قالوا نعم"، ليكون عقابه أن يصير "روحا أبدية الألم"، أو كما قال أمل في "كلمات سبارتاكوس الأخيرة".. وحدهم الشعراء من أنصفوه من بين بني البشر الذين صيروه شماعة لكل وقاحاتهم الممتدة ما دام في روحه البريئة ألم.

الشيطان سيد التفاصيل وملكها المطلق، ههنا البشر أنفسهم اعترفوا له بذلك.. لكن بجرعة سوء نية طافحة كما هي العادة، جرعة تكفي لأن تردي فيلا إفريقيا صريعا في أقل من دقيقتين.

وعجبا أن البشر يعجبون من احتمال امتلاك الشيطان قلبا مفعما بالحب وبالإيمان حتى.. ألم تتأملوا في ماضيه قبل وقبيل الامتحان؟! لقد كان أحب من الملائكة وأعلم ممن علم، لكن.

هل تعلم معنى أن يمتلك كائن ناري قلبا، نحن هنا بعيدون جدا عن تلبد الطين وجموده؟! فالنار متقدة أبدا وكذلك الحب، ما دام قلب، إحساس افتقده الكثير من البشر، ولم ولن يعرفه منهم كثير أيضا، فلم يلومون على كائن حساس جدا وصادق جدا أن ذات يوم ظُلِم؟! ثم إن تلك مسألة ثنائية خاصة بينه وبين الله، فلِم يصر الكائن البشري في كل مرة على حشر أنفه فيها؟!

أن يكون أنفك قريبا من عينيك لا يعني أبدا ألا ترى أبعد منه.