نورة البدوي/ تونس

من كل الجهات تتأتى لها المعاني، فتنقلها إلى لوحات تشكيلية مخاطبة بها عوالم الإنسان بلغة فنية جمالية غير منفصلة عن مشهدية الواقع.
هي الفنانة التشكيلية و الأكاديمية في فلسفة الجمال و الناقدة اليمنية آمنة النصيري، اختارت عالم الفن التشكيلي لبلورة رؤيتها تجاه الموجود بلغة لا تخلو من معان متعددة، معتمدة في ذلك على فضاء اللوحة بكل تفاصيلها من لون و شكل و موضوع .
قدمت النصيري العديد من المعارض الفردية و الجماعية، معارض جعلت فيها بصمتها الشخصية حتى في اختيارها لعناوين لوحاتها الناطقة فلسفة جمالية و وجودية، فنجد عناوين كـ: "حصارات والرؤية من الداخل وأبيض وكائنات"، و كلها حاملة في مضامينها لرؤى متنوعة كالانتماء إلى المكان أو الولادة المنشودة في عوالم الإنسان أو قضايا المرأة العربية التي جعلت منها رمزا منفتحا على مختلف معاني التفسير و التأويل.
فكان الفن التشكيلي بالنسبة إلى النصيري فلسفة متصلة بثيمات الزمان و دواخل الإنسان بمختلف تحولاته و اضطراباته و تشكيلاته .
عن هذا المزيج الفني و الجمالي و الفلسفي و الإنساني كان لإيلاف هذا اللقاء مع التشكيلية اليمنية آمنة النصيري:

- كيف كانت بدايات آمنة النصيري في عالم الفن التشكيلي؟
- أول معرض أقمته كان في العام 1986، في صنعاء، في المركز الثقافي اليمني، حينها قد تخرجت من المدرسة الثانوية، الأعمال التي عرضتها كانت عبارة عن لوحات واقعية ’ وبورتريهات لمجموعة من أدباء وشعراء عرب وأجانب، مثل مكسيم جوركي وبابلو نيرودا وبريخت وغاندي والبردوني ونجيب محفوظ، ووجدت اهتماما كبيرا من الوسط الثقافي لعدة أسباب أهمها: العدد القليل من النساء المشاركات في الحياة الثقافية والإبداعية والمستوى الفني للأعمال المعروضة الذي لفت انتباه المثقفين والمهتمين، بالإضافة إلى طبيعة الاختيارات والمعالجات الفنية التي كانت أكبر من عمري أنذاك.
هذا شجع على دعوتي للمشاركة في معارض الفنانين الجماعية التي شارك فيها معظم التشكيليين المحترفين في اليمن، وذلك فترة التحاقي بجامعة صنعاء لدراسة الفلسفة التي امتدت الى العام 89 حينها سافرت في منحة دراسية لدراسة الفن في روسيا، في أكاديمية الدولة للفنون (سوريكوف)من ثم عدت في العام 94 لتبدأ مرحلة جديدة في حياتي وتجربتي.
مارست خلالها الكتابة النقدية والرسم وإقامة المعارض، والتحقت للعمل في قسم الفلسفة كمتخصصة في الجماليات، وفي العام 98عدت إلى موسكو مبتعثة من الجامعة للتخصص في علم الجمالي، وبقيت هناك حتى العام 2001 حصلت خلالها على الدكتوراه، لأعود إلى صنعاء واسـتأنف عملي الأكاديمي في الجامعة إلى جانب ممارسة الفن .

- عشت فترة في موسكو، فهل انعكس ثراء الثقافة الروسية في فنك؟
- عشت في روسيا فترة الدراسة الأكاديمية ما يقارب العشر سنوات، منذ البداية وحتى سنوات الدكتوراه، وهي فترة غنية جدا بالنسبة إلي مكنتني من الإطلاع على كافة أشكال الفن والثقافة الروسية مسرح وموسيقى وفنون بصرية وأدب، كل ذلك أعتبره مصدر مهم في تكويني الثقافي .
وقد ظهرت تأثيرات هذه الثقافة المتنوعة في مراحلي الأولى بوجه خاص، وكتبت العديد من الدراسات والمقالات عن الفنون الروسية في الصحافة أيضا ومع مرور الوقت امتزجت هذه المصادر ببعضها فما عدت أجد مؤثرا بعينه داخل اللوحات.

- نلاحظ حضور دائم للمرأة في لوحاتك، فمن هي هذه المرأة؟
- المرأة ثيمة أساسية في أعمالي، وان كنت أعتقد أنني لست نسوية تماما بالمعنى الاصطلاحي لكنني ربما مخلصة للتعبير عن المرأة من المنطلق الوجودي، فأنا قبل كل شئ امرأة تعيش هموم النساء وتشعر بمعاناتهن، ولذلك يصعب علي تخطي هذا الأمر إلى القضايا العامة دون التعبير عنه، المرأة في مجتمعاتنا لازالت تعيش مختلف أشكال القمع تحت مسميات مختلفة وهذا ماأهتم بتصويره، من جانب آخر المرأة تتحول في بعض أعمالي إلى حامل رمزي لقضايا أشمل: فهي قد تكون الوطن، والأرض، والعطاء، وهي قد تصبح نموذجا للكائن المقهور والمقموع والمكبل والمكافح ...

- ما الذي تغير في ملامحها بين الأمس و اليوم؟
- في اعتقادي لاشئ، وان كان هناك من تغيير في حياة النساء فهو للأسوأ، المجتمعات العربية عموما واليمن بوجه خاص حدث فيها مايشبه الردة الاجتماعية، ولعبت الحركات الدينية (المتشددة) التي تواطأت معها الأنظمة دورا رئيسا في تراجع أوضاع المرأة بل وتحقيرها في بعض الأحيان وبمقارنة بسيطة بين عقود كالستينات والسبعينات من القرن الماضي والسنوات التي تلت حتى اللحظة وهي الفترة الذهبية لسطوة الأفكار المتطرفة سنلاحظ التغير السلبي في حياة النساء . وتحجيم دورهن على كل الأصعدة، وبطبيعة الحال ساهمت الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في تعميق جذور الخطاب المسئ للمرأة، وتشجيع العدائية والقمع تجاه النساء، هذا موضوع يطول شرحه وفي حاجة لكتابة منفردة

- لاكيف تجدين فلسفة علم الجمال في البلاد العربية؟
- ربما السؤال يشمل وضع الفلسفة عموما في البلاد العربية، فعلم الجمال هو جزء من الدراسة الفلسفية، وهذا بلاشك سؤال يتعلق أيضا بالحياة الثقافية العربية، وطبيعة الحريات، فالفلسفة لاتنتعش إلا في شروط محددة منها ازدهار الحياة الثقافية وحرية الفكر والتسامح الفكري وأيضا الديني والانفتاح على ثقافات الآخر، ولذا في الوضع القائم نجد الدراسات الفلسفية محدودة والكتابة في هذا الشأن تمثل نوعا من المجازفة، خاصة تلك المشروعات التي تشتمل على الرؤى التأصيلية والنقدية، وتكاد الكتابات الفلسفية تعيش في حلقة صغيرة مغلقة معزولة عن القارئ العربي نتيجة لاكراهات كثيرة .
وفي الجماليات لايختلف الوضع كثيرا، حيث توجد اشتغالات متنوعة لكتاب مهمين مثل موليم العروسي، ومحمد بن حمودة وشربل داغر وفريد الزاهي وقبل ذلك لعفيف بهنسي وآخرين . وهي في عمومها كتابات مهمة تتوزع بين فلسفة الفن، والنقد الفني وعلم الجمال .
لكن المناخ العربي ليس مهيئا للاهتمام بهذه الدراسات، ولذا تبقى الدراسات المماثلة حبيسة الندوات المغلقة، والكتب المتخصصة، باختصار هي نوع من البحث مرتبط ببيئته يزدهر حين تزدهر الحياة وينكفئ على ذاته حين تعاني المجتمعات من الانحدار . لايفوتني الإشارة إلى أن منطقة المغرب العربي هي الأكثر اشتغالا في القضايا والإشكالات الفلسفية .
ومع ذلك أعود للقول بأن هذا أيضا سؤال واسع يحتاج لإجابة مطولة.

- لقد ساهم التطور التكنولوجي في تطعيم الفن التشكيلي رقميا . فكيف خاضت النصيري هذه التجربة؟
- الفنان يفترض أن يمتلك الروح التجريبية وأن يفيد من كل الوسائط الممكنة لإثراء منتجه التشكيلي، شريطة أن يجد في الوسائل الرقمية ما يتوافق مع معالجاته أو ما يثريها.
بالنسبة إلي حاولت خوض التجربة في معرض (حصارات) الذي صنف كمعرض مفاهيمي، حيث قدمت أعمالا تتضمن التصوير الفوتوغرافين وفن الفيديو (فيديو آرت) والتراكيب الفراغية، وقد استمتعت كثيرا بالتجربة التي حظيت باهتمام كبير من الجمهور اليمني، وحركت المياة الراكدة، وأثارت الكثير من النقاشات كون هذا النمط من المعالجات البصرية كان لم يزل غير مألوف عند متذوقي الفن التشكيلي.
هذه المغامرة الفنية أردت فيها الخروج نوعا ما عن التقنيات النمطية وتجربة إمكانات أخرى للتعبيرأردت تمثل الحركة والفراغ والكتلة والموسيقى وقد كان ذلك .
أنا مع أن يخلص الفنان لأسلوبه ويطوره، لكن الفن في مجملة مغامرة، وذلك يستدعي التمرد على الأسلوب بين حين وآخر.

- هل بإمكاننا القول إن الرقمي قد أفقد الفن التشكيلي هويته؟
- هذا أمر غير ممكن، لم يفقد الفن هويته ولن يفقدها أيا كانت التطورات التقنية سوف تستمر اللوحة المتحفية التقليدية، وستكون الظواهر التكنولوجية مصدر ثراء في المحامل التشكيلية وليس العكس، أي أنها ستساهم في توسيع مساحات التجريب والانجاز لكنها لن تلغي التقنيات القديمة.
فمثلا اليوم أصبحت اللوحات الرقمية أو التي نسميها (ديجيتال آرت) متواجدة في معارض تشكيلية عالمية لكنها لم تنافس اللوحة التقليدية المنتجة بأدوات الفنان وبالخامات الزيتية أو الأكريلك أو المائية، و قديما في عصور سابقة ثار هذا الجدل عند ظهور التقنيات الطباعية لأعمال الحفر على الخشب والحجر والزنك (فن الجرافيك) .
واعتبر الفنانون والمهتمون في ذلك خطورة على أساليب التصوير الأخرى بالألوان، ولكن تقنيات الجرافيك مضت جنبا إلى جنب مع اللوحات الزيتية، ولم تتسبب اللوحات ذات التقنيات الطباعية في تراجع اللوحات المصورة .

- ماالذي تغير في نظرك وفي لوحاتك إبان الثورات العربية عامة، واليمن خاصة؟
-في الوقت الراهن، وبعد مرور ما يقارب التسع سنوات، بات جليا أن تلك الثورات حققت نجاحا نسبيا في بعض الدول، وإن كانت لا زالت تختبر مخاضات عديدة وتحولات ديمقراطية متأرجحة، بالإضافة إلى تركة ثقيلة من الإشكالات الاقتصادية، والاختلالات المجتمعية، بينما في مناطق أخرى مثل سوريا، اليمن، ليبيا يحتدم صراع بين القوى وحروب أهلية وإقليمية، بل إن الوضع المعتم تفاقم في هذه البلدان بسبب التفاف الأنظمة الماضوية على المد الثوري، وعودتها في رداءات متغيرة ظاهريا، فقد أعادت إنتاج نفسها وامتلكت زمام المبادرة، مستغلة العنف الكلي الهيكلي، ووجود لاعبون كثر، ومعارك الاستقطاب السياسي.
ويرى بعض المحللين مثل "آصف بيات " وأنا أوافق على هذه الرؤية بأن ثورات الربيع العربي عانت من غياب المرجعيات الفكرية التي توجه النشطاء، كما لم توجد رؤية بديلة للمؤسسات وللعلاقات الاقتصادية الجارية أعتقد أيضا إن الإشكال الرئيسي يتمركز حول أن ساحات الثورة لم تختر قيادة ذات كفاءات متنوعة تقوم بتسلم زمام الدولة وإدارتها بعد نجاح الثورة، وهو ما كان يحدث في الأزمنة الماضية، فحراك الشارع العربي حافظ على عفويته وحشوده التي خرجت دون رؤية مستقبلية، مكتفية بالفعل الثوري وبالحالة الثورية، وغاب عنها أي تصور قبلي لشكل النظام المنشود، ولذا آلت الأمور إلى الانهيار والالتفاف على الثورات، ويتبدى ذلك بصورة جلية في اليمن التي سقطت في لجة صراع دموي .
هذا فيما يتعلق بوجهة نظري الشخصية حول ماحدث لنا خلال الربيع العربي الذي كنت مشاركة فيه كمواطنة يمنية مؤمنة بالتغيير، أما على مستوى الفن فهناك انعكاسات غير مباشرة لمجريات الصراع على إنتاجي التشكيلي، حيث لم أصور الأحداث في تجسيد مباشر فأنا مؤمنة بأن الانفعال الشديد والمباشر يفسد النص، والأفضل أن تنضج التجربة على مستوى المعالجة الفنية أو الرؤية، واعتقد أن مجموعة التي عنونتها ب (الريبة) تختزل رؤيتي حول الحرب .

- حصارات والرؤية من الداخل وأبيض وكائنات، كيف تختار النصيري عناوين معارضها؟
-كل معرض أقدمه أعتبره مشروع يجسد رؤية ما، وأحاول أن يحمل بعض التجديد على المستوى التقني، ولذلك عندما أعمل على اللوحات يكون المسمى حاضرا في ذهني فعندما قدمت معرض حصارات، كنت مستغرقة في التعبير عن ثيمة القمع والحصار الذاتي الذي نمارسه على أنفسنا وشتى المخاوف التي تكبل الكائن البشري ومن هذا المنطلق جاءت التسمية ومن ذات المنطلق أيضا أسمي بقية معارضي اعتمادا على الثيمة الأساسية فأنا لا أسمي لوحاتي منفردة، وإنما أسمي المعرض أو المجموعة كاملة .

- لا يغيب اللون الأخضر عن لوحات النصيري، فهل هو ترجمة لما تحمله النصيري من نظرة تجاه الحياة؟
-أعتقد أن عامل التفضيل هو الأقرب إلي، وليس العامل الرمزي فأنا غير مهتمة بالتصنيفات الرمزية والإسقاطات التي وضعها علماء النفس للألوان بحيث صنفت كمحرض على الأمل و مهدئ للأعصاب، وأخرى معبرة عن الحزن، أو باعثة على التوتر. بالنسبة إلي اللون علاقات جمالية بحتة ودرامية في آن واحد . تربط عناصر الشكل بل وتخلقه . وفي النهاية تنتج هارموني خلاق .

- ما هو جديد امنة النصيري في عالم الفن التشكيلي؟
- كنت أعد لمعرض في جاليري في برلين، لكني أظنه سيتأخر حتى يتضح موقف الكون من كورونا. حاليا أعمل على مجموعة فنية بعنوان (الريبة) ومستمتعة بذلك، كما أشتغل دراسة حول التقانة المعاصرة وتأثيراتها على لغة الفن التشكيلي .

- ختام اللقاء، أية لوحة تقدمها فنانتنا اليوم للإنسانية في زمن الكورونا؟
- من وجهة نظري الفن الجاد مهما مر عليه الزمن يبقى في خدمة الإنسانية، لاتوجد لدي لوحة بعد تعبر عن معاناة الإنسانية في زمن كورونا، فكما ذكرت سابقا أعتبر أن الفنان يحتاج إلى أن تنضج الفكرة لديه لتصبح ذات عمق رؤيوي وجمالي، أما الانفعال الآني فقد ينتج عنه بعض الفجاجة في التعبير .
ولهذا أنا مشغولة حاليا بمشروعي الخاص (الريبة) والذي سأعتبره إنساني ومرتبط بالهموم الإنسانية وقد يأتي يوم أنجح فيه في التعبير عن كورونا، لكني الآن لازلت أحاول استيعاب الحاصل فحسب كإنسانة وكفنانة.