بعدَ يومين من القاءِ القبضِ عليّ في عام ١٩٧٩، وأنا في مديريةِ امن بغداد، جاءَ الى زنزانتي الانفرادية شخصٌ طويلُ القامة، قويُّ البُنية ببدلة ذاتِ لونٍ اخضر ـ زيتوني. مظهرُه والطاعةُ التي قدّمها لهُ شخصانِ رافقاهُ أوحتْ لي بأنه ضابطٌ عالي الرتبة. طلبَ منّي ذو البدلة الزيتوني ان أقفَ في مكانٍ أشّرَه امامَ جدارِ الزنزانة، وقفتُ، فالتقط لي صورةً من جهاز تصوير بولورايد ذي الصور الفورية. ثم طلبَ منّي بأن التفَّ حول نفسي ٩٠ درجةً، فالتقط لي أخرى جانبية. حرّكَ الصورتين في الهواء حتى ظهرتا فتطلع لهما وغادر، اما انا فلم ارَ الصور. لم تكن خلفي اية لوحة متدرجة لتحديد الطولِ كما اعتدتُ ان أشاهدَ في أفلامِ الجريمة الامريكية. طولُ المعتقل لم يكنْ حينَها مهماً لرجالِ الأمن.
كانتْ ثمّةَ كدمةٌ زرقاء داكنة قد أحاطتْ بعيني اليسرى من ضربة تلقيتها من يُمنى رجلِ امنٍ أطارتْ نظارتي وحطّتْ على عيني فصدر منها شررٌ حين قاومتُ القاء القبض وحاولتُ الإفلات. افترضُ انني حين ادرتُ جسمي الى اليمين، اصبحتِ الكدمةُ بمواجهة جهاز التصوير وإنها بانتْ بجلاءٍ في الصورة. الصورة بالتأكيد رائعة وأتوق لرؤيتها! ربما تكونُ اُتلفتْ أو ضاعتْ بين الاقدام بعد اجتياحِ الناسِ لكلِّ مديرياتِ الامنِ بعدَ حربِ عام ٢٠٠٣ واتلاف الأرشيف. او انها قد تكونُ الآنِ بيدِ جامعٍ للتحفِ والتذكارات مع ملاحظة ربما كتبها على خلفيةِ الصورة "صورة لمعتقلٍ مجهولِ الهوية ". سأدفع ثمنا جيدا للحصول على الصورة إذا ما حدثَ وعُرضت عليّ.
باستثناء هذا الشخص ومرافقيه، زار زنزانتي شابٌ من قوى الامن كانَ يجلبُ لي الطعام يوميا. اما اثناء التحقيق فكانتْ عيناي معصوبتين دائما. عدا الطعام، كانَ الشاب يجلب لي الشاي أحيانا. كنتُ انتظرُ الشايَ بفارغ الصبر، لكن لم يتحقق انني حصلتُ عليه دائما. لبضع مراتٍ جلبَ الشاب لي أيضا صحيفة "الجمهورية" او "الثورة". كان يخافُ ان يتبادلَ الحديث معي، لانَّ هذا مخالفٌ للتعليمات. بل ان حصولي على صحفٍ كان مخالفا لقواعد الاعتقال حتى لو كانت هذه الصحف ناطقة باسمِ الحكومة.
في أحد الأيام أوصلَ الشاب إليَّ طبعة لجريدة "الثورة" فيها تقريرٌ مصورٌ كادَ أن يغطي صفحةً كاملة عن مؤتمرٍ لحقوق الانسان عُقد في بغداد. القى موظفٌ حكوميٌ كبير كلمةً نفى فيها بلهجةِ الواثق وجودَ سجناء سياسيين في العراق. وفي ختام المؤتمر خرج المؤتمرون بتوصياتٍ وقراراتٍ تدينُ التعذيب وتعتبرُه جريمةً لا تسقط بالتقادم.
كان التقريرُ مناسبة ًلكي اشعرَ بسعادةٍ غريبة أولدتها مفارقة صارخة. "هؤلاء المؤتمرون ومضيفُهم يكذبون بشكل رائع". ضحكت كثيرا واحتفظت بنسخة الصحيفة، بعد ان قرأت التقرير مراتٍ ومرات. وحين جاءني من يأخذني لحفلات التعذيب او الصدمات الكهربائية، أخفيت الصحيفة تحت فراشي المتهالك لكيلا يراها أحدٌ فيتحمل الشاب مسؤولية ايصالها اليّ.
وإذا ما جَنَّ عليّ الليلُ وقاربَ منتصفَهُ سمعتُ صراخا وعويلا لسجناء ضُربوا وعُذبوا بقسوة في زنازين مجاورة. ماكينة التعذيب لم تتوقف ليلَ نهار، لكن الليلَ فضّاح. الصوتُ يخترق الجدران، يمر في المسالك ويذلل في طريقه الصعاب. كان ثمة معتقل تابعته. كنتُ اشحذُ اذني واجعلني كمن يرى عبرَ الصوتِ صورتَه. شاهدتُه يكزُّ على اسنانه اثناء التعذيب، يتجلد ولا يصرخ. لبضعِ دقائقَ لا اسمعُ سوى أصواتِ الضرب. ثم على حين غرّةٍ يُصدر انينا مكتوما كأنما منبعثٌ من هاوية سحيقة. ما يلبث الأنينُ ان يتصاعدَ ثم، وفي لحظةٍ ينفجر عويلا مُرّا.
لم يكنْ هذا السجينُ ولا الموجودون في هذه الاقبية والزنازين ضحيةً لسلطةٍ قاسية وجهاز قمعي فقط. كنّا جميعا وفي عينِ الوقت ضحية أحزاب ربّتِ الشباب على القسوة وقدمتْ لهم نصائحَ بأن يتجلدوا تحت التعذيب ولا يصرخوا. كم اغلظ هذا الشخص بحق نفسه حين امتنع عن الصراخ اثناء التعذيب؟ الصراخ يخفف من الألم كثيرا.
ليس سوى كيلومترٍ او نحوه ينعقد عن زنازيننا شمل ممثلين لعالم منافق ليناقشوا في بلد التعذيب والاغتصاب حقوق الانسان.
كان المؤتمرُ منعقداً في زنزانتي والمؤتمرون يساهمون في حفلات التعذيب.

برلين ٢٢ ـ تموز ـ ٢٠٢١