الفندق الذي أقمت فيه عند زيارتي إلى برلين في خريف عام2009، هو في الحقيقة "بيت المجر"، أي أن جلّ المقيمين فيه من هناك، أي من المجر. ولعله يعود إلى الحقبة الشيوعية التي كان خلالها شعب ألمانيا الشرقية، وشعب المجر يرتبطان بعلاقة صداقة في ظل الراية الحمراء المحروسة بالمنجل والمطرقة...جميع غرف الببت المجري تحمل أسماء عواصم عالمية... أنا نزلت في غرفة تحمل اسم "بودابست"، وصديقي صام الآشوري العراقي المقيم في لندن حَطّ رحاله في غرفة تحمل اسم العاصمة اليابانية طوكيو...

يقع البيت المجري في شارع "دوروتي" الذي يمتدّ إلى مقرّ "الرايشتاغ" غربا، مُخترقا "فريدريكشتارسه" الذي كان يُشَكّلُ الحدّ الفاصل بين ما كان يُسَمّى في الحقبة الشيوعية "برلين الشرقية"، و"برلين الغربية". والآن هو شارع تجاريّ عريض، وطويل، يَعجّ بالحركة في الليل كما في النهار بعد أن كان شارعا كئيبا تغْمُرُهُ وحشةُ الانفصال، والفُرْقَة بين أبناء الشعب الواحد...

شرقا، على بعد بضعة أمتار من الفندق، "مسرح غوركي" الفخم حيث كانت تُقدم مسرحيات تُرضي أحباء "الواقعية الاشتراكية". بعد اجتياز الجسر، ينتصب متحف "باراغمي" الشهير الذي يَعْرضُ كنوزا من الحضارة الفرعونية والبابلية والاغريقية والرومانية. وتكفي سبع دقائق سيْرا على القدمين للوصول إلى "ألكسندر بلاتز"، التي خلّدَها ألفريد دبْلن في روايته ذائعة الصيت، والتي حملت عنوان الساحة نفسها. وفي الحقبة الشيوعية، كانت هذه الساحة الكبيرة مَفْخَرةَ النظام الشيوعي...فيها تنتظمُ الاحتفالات الضخمة في المناسبات الرسمية على أنغام "النشيد الأممي"، وفيها ترتفع الأعلام الحمراء اعتزازا بالاشتراكية، وبالوحدة بين عمّال العالم.

في أول زيارة لي إلى ما كانت تُسمّى "برلين الشرقية" ، وكان ذلك في خريف عام1986، التقيت في الظهيرة شبانا سُمْر الوجوه، قصار القامة ميّزت من لهجتهم أنهم من اليمن...أثناء الحديث معهم، راحوا يُمجدون الشيوعية، مُعبرين عن فخرهم بالانتساب إلى الحزب الاشتراكي الذي يتزعمه آنذاك عبد الفتاح إسماعيل. ومنهم علمتُ أيضا أنهم جاؤوا إلى برلين الشرقية ليدرسوا مبادئ الماركسية-اللينينية. استمتعت إليهم من دون ان أعلق على كلامهم ثم غادرتهم من دون تحية لأعود عند الغروب إلى برلين الغربية. ولم أتذكر أولئك الشبان إلاّ عندما تقاتل الإخوة الأعداء في عدن، ودمّروا في بضعة أيام ما كانوا بنوه على مدى سنوات ى طويلة، فكانت حربهم ضد بعضهم البعض شبيهة بحروب زعماء القبائل العربية القديمة...الآن أقفرت "ألكسندر بلاتز" من كل ما يمتّ للشيوعية بصلة، لتصبح ساحة عادية بها محلات "كباب"، وأخرى لبيع صور وتحف صغيرة للسياح الراغبين في الاحتفاظ بذكرى عن برلين، وعن معالمها التاريخية.

في الصباحات الخريفيّة المشرقة، يحلو التجوّل على ضفتي نهر "السبري". على مدى الأيام الخمسة التي أمضيتها هناك، دأبت على القيام بذلك وأنا في كامل الانشراح والبهجة. حالما أستيقظُ من النوم، أتمشّى بهدوء، مُتَوقّفا من حين لآخر أمام مشاهد تورقُ لي، ولا أعود إلى الفندق إلاّ عندما أتيقّنُ أن صديقي صام قد استيقظ من نومه الطويل دائما...

صبيحة يوم سفري عائدا إلى تونس، قمت بجولتي العادية. وكان ضوء طلوع النهار بديعا، مُضْفيا على المدينة فتنة ساحرة. في الحديقة الصغيرة المُحاذية لمتحف "بارغامي"، لمَحْتُ غجرية شابة بملابس يختلط فيها اللون الرمادي الفاتح باللون الأسود الداكن. وكانت تدفعُ عربة ينام فيها ابنها الصغير...خلفها يمشي بتمهّّل ابنها الآخر الذي كان في حوالي الثامنة من عمره، وكان أسمر، بشعر أسود كثيف. بين الحين والحين، يتوقف عن السير، وينظر حوله بشيء من اللامبالاة. لكأن كل تلك المباني الفخمة، وكل تلك المعالم التاريخية الرفيعة لا تعني له شيئا...اقتربتْ مني الغجرية، وسألتني إن كنت أتكلم الألمانية فحركت رأسي بالنفي ...الإنجليزية؟ لا ...الايطالية؟ لا أيضا... عندئذ دفعت عربتها مُغْتاظة يتبعها ابنها...أما أنا فاستأنفتُ تجوالي في الحديقة الصغيرة المرتبة ترتيبا بديعا. ثم فجأة ارتفع صوت عذب حنون...كانت الغجرية تغني دافعة عربتها تحت شمس الخريف الدافئة وقد بدت سعيدة، مُتحدية ساركوزي الذي كان قد طرد في تلك الأيام الغجر من بلاده، وغير مُكترثة بمجلس الاتحاد الأوروبي الذي كان بصدد مناقشة قضية الغجر المنتشرين في العديد من البلدان الأوربية...

واصلت الغجرية غناءها راقصة على أنغام صوتها الجميل. ولعلها كانت تغني لتقول للقارة العجوز أن الغجر سيظلون يخترقون الحدود، ويدوسون على القوانين لأنهم شعب تعوّد على حياة التشرد، وعلى العيش مُترحّلا بين البلدان... لذا لن تقدر دول أوروبا على السيطرة عليه ، وتغيير نمط حياته...وإلى الأبد سيظل شعبا بلا أرض، وبلا وطن، وبلا جواز سفر مثلما هو حاله دائما...وسيظل الغجر يهيمون على وجوههم من تركيا إلى بلاد الأندلس غير مُكترثين لا بالحروب ولا بالأوبئة ولا بالكوارث الطبيعية ولا بالمعابر الحدودية ولا بالأسلاك الشائكة ولا بالقوانين الدولية ولا بالدساتير ولا بأنظمة الحكم ولا بالأديان ولا باللغات...والمرة الوحيدة التي اجتمع فيها الغجر لمناقشة قضيتهم كانت في التسعينات من القرن الماضي، أي بعد انهيار جدار برلين. وفي نهاية ذلك الاجتماع خرجوا بقرار توجّهوا به إلى الأمين العام للأمم المتحدة، وفيه يطالبون بأن يظلوا شعبا بلا وطن...

واصلت الغجرية الشابة طوافها في الحديقة مُطلقة أغانيها الجميلة غير عابئة بهدير المدينة الكبيرة الذي راح يَشتدّ مع تقدّم النهار... والطفل ذو الثمانية أعوام تابع سيره خلفها، وقد بدا مُغْتَبطا بغنائها، وفي عينيه السوداوين الواسعتين لمع بريق عجيب...لكأنه يريد أن يؤكد للعالم أن شعبه المشرد لن يندثر، ولن يموت...
وفعلا لن يموت الغجر إذ أنهم صمدوا أمام كل المخططات التي دُبّرت لإفنائهم وإبادتهم، وسخروا من "البيض الطهرانيين" الذين حاربوهم بشدة باعتبارهم "وصْمةَ عار" في قارتهم العجوز...وقي كل مرة يُعد هؤلاء خطة جديدة لمحوهم من الوجود، يتصدّى لهم الغجر بالمزيد من الغناء والرقص والعبث بهم وبقوانينهم ومخططاتهم، مُتحدين العواصف والثلوج والأمطار والمجاعات والايديولوجيات العرقية والعنصرية والطبقية، ومُبتكرين في كل مرة حيلا جديدة للإفلات من العقاب، ومن كل ما يُفْسد تيههم الدائم . وهناك شعراء وفنانون كبار أظهروا حبهم وتقديرهم للغجر، وعكست أعمالهم جوانب من ملحمتهم. ولوركا أحد هؤلاء . ومرة قال بإنه بحكم ابن غرناطة، فإنه مُتعاطف مع كل المضطهدين، ومع الغجر، والزنوج...وقد استوحى لوركا قصائد "الديوان الغجري" من أغاني الغجر الحزينة...وفي واحدة من قصائده، كتب يقول:
حينما يأتيني الموت
ادفنوني مع قيثارتي تحت التراب
حينما يأتيني الموت
ادفنوني إذا ما أردتم في وردة الرياح الدوّارة
وفي قصيدة أخرى يقول لوركا :
كان الفارس يقتربُ وهو يقرَعُ الطبّلَ
والطفلُ في المهْد ما يزال مغمضَ العينين
بين خميلة شجر الزيتون كان الغجر قادمين برونزا وحلما
رؤوسهم مرفوعة وعيونهم مُسْبًَلَة
آه من نعيب بومة الأطلال
آه من نعيبها فوق الشجرة ...

وأما المخرج اليوغسلافي أمير كوستوريكا فقد خَصّص للغجر فيلما بديعا حمل عنوان "زمن الغجر" وفيه يرسم صورة آسرة ومُدهشة لتغريبة الغجر مُترحلين من بلد إلى آخر، حاملين معهم خيباتهم وانكساراتهم في الحب وفي الحياة. وحين تبلغ مأساتهم ذروتها، يصبح من الصعب الفصلُ بين ما هو واقعي وما هو خيالي، وبين ما عقلاني وما هو جنوني، وتتخذُ الجريمة والحيلة صورةَ الفعل الجائز والمشروع... فالغجر لهم مقايس أخرى في الحياة نحن لا نتمكن من ادراكها إلاّ إذا ما اختلطنا بهم اختلاطا كليا، وتخلصنا من كل أفكارنا المُسْبقة عنهم، وعن نمط حياتهم، وعن طرق عيشهم...


واصلت الغجرية الشابة الغناء ...وعلى أنغام صوتها عادت بي الذاكرة إلى زمن بعيد...
وقتها كنت في الثانية عشرة من عمري... وكنّا في بداية الصيف...والصابة الوفيرة من القمح والشعير أنْستْنا السنة العجفاء التي عشناها قبل ذلك...فقد هاجمنا الجراد قادما من الجنوب وكأنه قطع من سُحب غبار كثيف. ولمواجهته أفْتَى الكبارُ في أكله قائلين بأن لحمه ألذّ من طعْم الخرفان الصغيرة فهاجمناه بدورنا بالعصيّ والهراوات والصيحات العالية التي ترددت أصداؤها في الهضاب، وفي الأودية الجافة. وفي كل يوم، نحصلُ على كمّيات وفيرة منه فنرمي بها في القدور الحامية، ثم نلتهمه بشراهة لا لملء بطوننا الخاوية فقط، وإنما للانتقام منه أيضا...وفي تلك السنة العسيرة، فقدنا الكثير من دوابّنا، وأنعامنا وندبت النساء خدودهن بحرقة توجّعا على رحيل الشيخ منصور، حكيمنا، ومُرشدنا في أوقات الشدة والأزمات، والحاكم العادل في الخصومات التي تنشب بيننا بين وقت وآخر...

كنّا في بداية الصيف إذن...ومن طلوع الشمس حتى بلوغها كبد السماء، ترتفعُ من حقول القمح والشعير أصوات الرجال والنساء مُردّدة أغان يطربُ لها العباد والجماد...ذات ظهيرة، والقرية تنهض بصعوبة من خمود القيلولة وسكونها، أطلّت من الجنوب قافلة بدو رُحل. في مُقَدّمتها الإبل والأحمرة... خلفها كوكبة من الرجال والنساء والأطفال في ثياب رثة مُلطّخَة بغبار السفر الشاق في الفيافي المقفرة. على جانبي القافلة، كلاب هزيلة تلهث مادّة ألسنتها من فرط العطش...مُنْفصلة عن القافلة فتاة في حوالي الرابعة عشرة من عمرها، تسير حافية القدمين، وخصلات شعرها السوداء تنسدل على كتفيها... وكان وجهها الأسمر الجميل مُعَفّرا بالغبار...وعندما تجاوزتني القافلة، رَمَتْني الفتاة بنظرة عدوانية أربكتني...لكأنها كانت مُنزعجة من وجودي وهي على تلك الحالة البائسة...

بعد أن استشار رجالها كبار قريتنا، حطّتْ القافلة رحالها بالقرب من زيتونة "الجمل"، شمال القرية...في الليل، رأينا ألسنةَ النار ترتفعُ عاليا في السماء...وسمعنا أغان رتيبة حزينة تذيب القلوب الضعيفة... وعلى وقْع تلك الأغاني غرقتُ في نوم عميق...
ضُحى اليوم التالي، سَرَحْتُ في حقول الزيتون سابحا في الأغاني التي كانت تتعالى من كل مكان...وعندما جفّ ريقي، توجّهتُ إلى العين في قلب الوادي...وأنا أقترب منها، سمعت صوتا شجيا يردد:
قالت يا جوحي
أنا مريضة وغريت بروحي
توْ نكْبرْ ونْداوي جْرُوحي
ونولّي طيرة
ونحلق في الجوّا
(أي: قالت يا لوعتي...أنا صغيرة وغررت بنفسي...سأكبر وأداوي جراحي...وسأصبح طائرا أحلق في السماء )
على أطراف الأصابع اقتربت من العين...والمشهد الذي طالعني سمّرني في مكاني بين أشجار الدفلى، وأنساني عطشي وجوعي... كانت فتاة القافلة التي رمتني أمس بنظرة عدوانية تغني رافعة فستانها الرث إلى ما فوق الركبتين ، ونصف وجهها الصبوح مغطى بخصلات شعرها التي كانت تلمع في لهب الشمس، وعلى صدرها العاري يَنْتصبُ نهداها الصغيران...

واصلت الفتاة غناءها الحزين، وبقيتُ أنا في مكاني أنظر إليها مدهوشا ومسحورا بجمالها، وبانتصاب نهديها الصغيرين...ثم أغمضتُ عينيّ، وبدا لي أن جسدي يتبَخّرُ في الهواء فلم أعدْ أدري من أنا وأين أكون...وفي لحظة ما، عدت إلى نفسي فإذا بي في أحضان تلك الفتاة...وكانت تقبلني بجنون، وبيدي تُداعبُ صدرها العاري، وفخذيها...أغمضت عيني من جديد تاركا إيّاها تفعلُ بي ما تشاء وما تريد وأنا لا أعي إن كنت في يقظة أم في منام. ولم تتركني الفتاة إلاّ حين ارتفعَ لغطُ فتيات القرية وهنّ ينزلن مُنْحَدَرَ الوادي لملء جرارهن...

دائخا ومضطربا عدتّ إلى بيتنا، ولهبُ قبلاتها يحرقُ جسدي...امتنعتُ عن الكلام مع أهلي، ولم آكل إلاّ القيل...في الليل، نمت نوما مضطربا...وفي الصباح استيقظت وقلبي يدقْ بعنف. وقفت امام بيتنا...صوّبتُ نظري إلى زيتونة "الجمل" فلم أر أثرا للقافلة...انسابت دموعي غزيرة ساخنة... وطوال النهار انتابتني نوبات بكاء مرة...حاولت أمي استجلاء السبب إلاّ أنني واجهتها بمزيد من الشهقات والدموع...
تركت الغجرية تغني في الحديقة الصغيرة، وعدت إلى "البيت المجري" لأعد حقيبتي عائدا إلى تونس...