نصوص الشاعرة التونسية فضيلة مسعى في ديوانها: "رحيق الوجد" (دار الإبداع للطباعة والنشر والتوزيع، تكريت، العراق) هي نصوص شعرية قصيرة جدًا، ترتكز على وعي الكثافة، والتشكيل عبر البنية الشعرية المركزة التي يصبح فيها الحذف بديلا عن الاستطراد والتفصيل، ويصبح فيها الاختزال عنوانا للأداء الشعري.

حينئذ نحن حيال كتابة تصبو إلى تشكيل واقع عباريّ شعريّ مكتنز، ومشحون، ومحتشد بكثافة عرمة، ذلك لأن الجمل الشعرية هنا هي جمل مختزلة تلعب على بنية الحذف أكثر من تشكيلها ببنية الكتابة. تصبح النصوص منوطة أيضا بقراءة متأملة تركّز على المفردات، لأن المفردات القليلة هنا سوف تصبح محل اعتبار ونظر وتأمل كثيف، وهو ما يجعلها تشف وتشعّ بمختلف طاقاتها الدلالية.

الديوان
يتشكل الديوان من ( 86) نصًّا شعريًّا قصيرًا جدًّا ، تترواح النصوص ما بين سطرين إلى أربعة أسطر، لكن الكمية الغالبة الإيراد تتجلى في ثلاثة أسطر.

وقد تصدّرت الديوان قراءة قصيرة كتبها الناقد العراقي د. خليل شكري هيّاس، ربط فيها بين القصيدة القصيرة جدًا وقصيدة (الهايكو) اليابانية، وجاء فيها: "إن هذا المنحى الجديد في الشعر العربي بركوب قارب قصيدة الهايكو يجعلنا أمام تحدّ جديد على الصعيدين الإبداعي والنقدي معًا، يفرز معه تساؤلات وتساؤلات، ما الجديد الذي تحويه هذه القصيدة لنضيفه إلى إرثنا الشعري الثرّ؟ وما الفارق بينها وبين القصيدة العربية القصيرة جدًا بمختلف مسمياتها (القصيرة جدًا، المركزة، التوقيعة، الضربة، الدفقة، الومضة، اللمحة، المفارقة، النفس الواحد، الصورة، الفكرة، الخاطرة، البرقية وغيرها)" .

نصوص قصيرة
ومع تقديري لهذه المسميات فإنها مسميات وصفية – على الأغلب – لا تتحدد بمفاهيم نوعية منهجية من جهة، ولا ترتبط بشكلٍ أو بآخر بالهايكو القصيدة اليابانية ذات المبنى المختلف طولاً وقصرًا وتوجهًا. كذلك فإن ما تقدمه الشاعرة في ديوانها: "رحيق الوجد" هو نصوص قصيرة، كتبت كثيرًا في التراث العربي وفي شعرنا المعاصر، وليس بالضرورة أن نجلب لها اسمًا خارجيًّا كي تحصل على شرعيتها الإبداعية الحداثية أو ما بعد الحداثية، خاصةً أننا في المشهد الإبداعي والثقافي، نفتقر إلى معرفة اللغة اليابانية وهي لغة غير متداولة في المشهد العربي، وبالتالي لا يتسنى لنا معرفة ما يدور في قصيدة (الهايكو) فضلا على أن ترجمتها للغات منتشرة نوعا ما في بيئتنا العربية كالإنجليزية والفرنسية لا تفي كثيرًا بتعرفنا على مكامن الهايكو.
هي شعرية ( شذرات) كما يصفها الشاعر العراقي عبدالقادر الجنابي، وهي نصوص مكثّفة برقية كما يصفها الناقد الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه (قضايا الشعر العربي المعاصر). وهذه الشعرية لها ظواهرها وملامحها التي ينتجها الوعي الشعري العام.

رحيق الوجد
يفضي انتماء نصوص الديوان إلى البنية القصيرة المكثّفة إلى سرعة قراءتها، وإلى تلقي الشفرات النصية بيسر، لكن هذا قد يحيل فاعلية التلقي إلى بعد آخر يتمثل في التركيز النوعي على جماليات النصوص ومكنوناتها خاصة أنها ترتكز على الصورة المفارقة، وعلى القول الكثيف بأقصر الجمل وأقل الكلمات، وهو ما يعزز لدينا كقراء مفاهيم التلقي العميق الذي لا تخاتله قصر النصوص أو اعتيادية هذا القصر طوال مرحلة القراءة.
إن هذا القصر الرواغ يحفّزنا على التأمل والتمثل، تأمل الكلمات وتمثل معانيها، وهو الأمر الذي تصبو أن تقدمه قراءتنا هنا بجلاء.

تستهل الشاعرة نصوصها بهذه النصوص القصيرة التي تقودنا في إطلالة أولية إلى قسمات رؤيتها الشعرية في الكتابة المكثفة، تقول النصوص:

قيامة:
خنفساء متبرجة
دبابةٌ تفلجُ نوايا الفلوجة
إنها المجزرة . / ص 15

ضياع:
الخيطُ أُفلتَ من الإبرة
قطة تموء
ثقب الأوزون اتسع / ص 16

حلم:
شهرُ مارس الطويل
ورقة خريف تبكي
فستان أبيض أمام المرآة يرقص . / ص 17

المشاهد الأولية تطل على العام، على قضايا الواقع – بشكل ضمني – على ذات شاعرة معذبة، في النص الأول تقوم القيامة حيث تتفجر الحرب، والآثار التي تتركها على الوعي، قبل أن تتركها على البيوت والشوارع. ستكون المشاهد هنا مفارقة مأساوية تلتقط بعض الأحداث المكثفة ما بين الخنفساء والدبابة والمجزرة، وما بين المتناهي في الصغر الإبرة والخيط والكائن العضوي ( القطة) والكون المتسع في ثقب الأوزون، ثم حركة التجاور بين المفردات والجمل المتباعدة التي لا تتلاقى إلى في وعي سوريالي متباعد، تتباعد فيه الأشياء وتتواتر من دون وجود علاقة دلالية يمكن العثور عليها عبر القراءة السطحية الأولية، لكن ربما توجد وشائج علاقة في أعماق الوعي القارئ أو في أعماق التأويل كما في نص: "حلم". فلا علاقة بين شهر مارس الربيعي، وورقة الخريف والفستان الأبيض الذي يرقص أمام المرآة إلا ربما العلاقة الزمنية قصيرة أم طويلة.

المفارقة اللغوية
إن الشاعرة بهذه النصوص القصيرة تشارف موضوعات شتى لأن النصوص تذهب إلى مختلف الأشياء لا لمجرد رصدها بشكل عبثي سوريالي غرائبي ولكن بتكوينها وتجميعها في نصوص تبعث على المفارقة اللغوية والاستعارية والتصويرية، ومن ثمّ يمكن تحميلها بطاقات إشارية ورمزية لتحتضن الوعي، فيما تحتضن الذات والواقع والعالم.
وتستمر الشاعرة في نصوصها القصيرة في مشارفة الواقع بشكلٍ كثيف محوّلة إياه إلى حالة حيوية راكضة من طاقات الوعي المبدع، بغض النظر عن واقعيته أو رومانتيكيته أو سورياليته، مستفيدة من الحراك التقني أحيانًا والأجواء والمصطلحات التي يصنعها هذا الحراك، ومن حيوية الواقع بالإشارة إلى بعض مسمياته ودواله الحادثة الجديدة، كما في نص ( لايك)
كانت حبيبته
صارت لايكًا
يرقص على إيقاعها مارك / ص 28
وفي نصوص متتالية تعبر الشاعرة عن دالة واحدة أو مسمى واحد ، وتصفه بعبارات موجزة قصيرة كما في نصوص: ( انهيار/ اشتياق/ اقتناص/ نزق/ جرح/ سيل/ وحشة ) ( ص.ص 18-24) حيث تصطفي دالة واحدة من المشاهد اليومية أو المتخيلة، وتستطرد في توصيفها بجملتين أو سطرين شعريين، معبّرة بشكلٍ مكثّف عن مضمون متسق مع هذه الدالة أو مفارق أو متباعد عنها، فتعبّر عن: (النافذة، والغيمة، والبومة، والفراشة، والوردة، والخريف، والليل) وهي تعبيرات تصبّ في صلب الدالة أو في البعيد القصي منها، كأنها حالة حلم، أو حالة كابوسية، أو حالة يتسرب فيها الوعي إلى طاقاته القصوى التي تحتفي بالمتضاد والمفارق والساخر أحيانا، أو تحتفي باللا مألوف بعلاقات اعتباطية كأنها رموز تتجلى بلا معان نهائية.

إن الشاعرة تجيد اللعب الشعري في هذا المجال، ومن هنا تقدم غوالي طاقاتها في هذه النصوص القصيرة التي تحتمل تأويلات كثيرة، وتلعب على وتر الحلميّ والمغاير واللا معقول، من مثل:
"فراشة ربيع/ حطت بالكأس الفارغة/ جرف الفيضان المدينة"
"إنه الخريف، سقطت دمعة في فنجان، جرف السيل البيت"
الفيضان يجرف المدينة إلى جوار فراشة الربيع، والسيل يجرف البيت من أجل دمعة سقطت في فنجان. هذا التجاور المتوحش يتكرر كآلية تعبيرية في نصوص الديوان، من أجل تحقيق هذا الانتقال المشهدي المفارق من الصغير للكبير ومن الجزئي إلى الكلي، ومن الذاتي الداخلي إلى الخارج الكوني. كأن الشاعرة تصنع حوارية ما بين الصغير والكبير، بين الشيء ونقيضه المتسع.

مدارات النصوص
تستلهم النصوص مداراتها الدلالية من الواقع الصغير البسيط إلى الأفق الكوني، ومن كينونات وأيقونات وصغائر الأشياء في المعجم الأرضي وتقابلها بالكبير من المعجم السماوي، هو ما يمكن تسميته هنا بـ:" حوارية الأجواء" لأن الشاعرة تبعثر الوعي وتقدم مداراتها النصية بشكلٍ مبهر ينتقل من الجزئي للكلي ومن الصغير البسيط إلى الكبير المتعاظم.
وتتجسد بالديوان جملة من النصوص التي تعبِّر عن الذات الشاعرة مباشرة، وهو تعبير يصبو إلى تسمية الذات وقراءة ورصد همومها وإشاراتها المركّز جدًا. حتى إن الجمل تكثر لتفيض المعاني، كأنها كتابة بحسٍّ سوريالي وصوفي وروحي معًا. وهذه بعض النماذج المعبّرة عن الذات:
" رائحة احتراقي، إنها نكهة غيابي، سلام عليّ غدًا أكفّن بمدادي" / ص 27
" نافذتي مفتوحة، صوت بعوضة، حصان جامح يسقط في أرجوحة" / ص 82
" أشعر بالبرد، ثمة كوب حليب دافئ، سأتكوّرُ في الأسفل" / ص 88
إن الذات تحضر هنا لتنقل وعيها الداخلي، بيد أن هذا الوعي يتحرك بشكلٍ صادم أحيانا لينقل عذابات اللحظة وعذابات التأمل بالإشارة إلى، وتوظيف الفراشات والطيور والحيوانات والكائنات العضوية لابتكار دلالات نصية جديدة.

قيم تعبيرية
من القيم التعبيرية البارزة بالديوان اختيار عناوين النصوص، والقطع الزمني والدلالي للجمل الشعرية بحيث لا يوجد سياق محدد مكتمل، فثمة بعثرة، وتشتيت للمعنى، بحيث لا يدركه إلا من كان خبيرًا في قراءة المعاني بشكلٍ نوعي، وأن تكون محدداته النقدية مدفوعة عند القراءة بالركائز النوعية لمتابعة قصيدة مميزة حتى لو كانت قصيرة وصغيرة.

وتلعب المفارقة، وصيغ التنكير، وتلبيس العام الخاص وبالعكس، دورا رهيفًا في إنتاج شعرية النصوص، وتشكيل عوالمها المكثّفة.
إن النصوص تتحرك في جدلية العلاقة بين معجم أرضي ملموس، حسي في حضوره، وبين معجم سماوي، كما تتحرك أيضا حركة جدلية بين فرضيات حضور الذات في الأشياء أو غيابها.
في "رحيق الوجد" قدر كبير من العناية باللغة وسلامتها، بيد أن شعلة الذات المتفجرة تبقى هي الإطار الدلالي النوعي الذي يحيط بالمشاهد الشعرية ولو بشكلٍ رمزي، ويصبو إلى تقديم طاقاته بكل شغف، وإضاءة وإشراق.