إيلاف من بيروت: صدر حديثًا عن دار رياض نجيب الريس (آب/أغسطس 2025) العمل الروائي الأول للكاتب السوري – السويدي خلف علي الخلف بعنوان «الحرّاني». يقدّم المؤلف عبر هذا العمل رواية تاريخية واسعة الأفق، تزاوج بين الدقة البحثية والخيال الروائي، وتعيد الاعتبار لمدينة حرّان ودورها في الفلسفة والعلوم في القرن التاسع الميلادي، وللجماعة التي عُرفت في المصادر العربية بالصابئة الحرّانيين.
تبدأ الرواية بزيارة الخليفة المأمون إلى مدينة حرّان في طريق حملته الأخيرة على الروم، حيث توفي قبل أن تبدأ ودُفن في طرسوس، في تركيا الحالية. اللقاء الذي جمع بين المأمون وأعيان الحرّانيين ورئيسهم قرّة بن مروان شكّل لحظة مفصلية في تاريخ الجماعة الحرّانية التي كانت على ملة الأحناف، إذ يجد الحرّانيون أنفسهم مضطرين لإثبات "توحيدهم" وأنهم ليسوا وثنيين ولا عبدة نجوم كما يتهمهم جيرانهم السريان، بل أحناف يتبعون "ملة إبراهيم". من هذه اللحظة يتسع السرد ليكشف عن دور هذه الجماعة الصغيرة في لحظة وجودية في قلب الخلافة العباسية، وعن جدل ديني وفلسفي يعكس تعددية المواقف داخلها.
الرواية تتناول شخصية ثابت بن قُرّة الحرّاني، الفيلسوف والعالم والفلكي والموسيقي كذلك، الذي يمثل رمزًا لجهد المدينة في التوفيق بين العلم والعقيدة الحرّانية، قبل رحيله إلى الرقة ثم بغداد. لكنها لا تقف عند الأفراد وحدهم، بل ترسم لوحة كاملة عن أبناء حرّان، وتكشف أثرهم التأسيسي في الفلسفة اليونانية. فهي تقلب السردية الشائعة، لتظهر أن حرّان لم تكن متلقية فقط، بل مصدرًا أثّر في فيثاغورس وأفلوطين وغيرهما من فلاسفة اليونان. كما تعرض لدورها لاحقًا في ترجمة العلوم والفلسفة اليونانية إلى العربية، حيث يكشف المؤلف عن قراءة جديدة مدعومة بالمصادر ترى أن الترجمة تمت مباشرة من اليونانية إلى العربية دون المرور بالسريانية كما هو شائع.
تُظهر الرواية الدور الذي لعبته الجماعة الحرّانية المستعربة في الثقافة العربية، فآل قُرّة خرج منهم أجيال من الفلاسفة والأطباء وعلماء الفلك وحافظوا على عقيدتهم على مدار عقود، وآل هلال الذين أسلم معظمهم خرج منهم فقهاء اللغة العربية أبرزهم أبو إسحاق بن هلال الصابي، بينما آل حيان خرج منهم اثنان من العلماء الذين ما زال العالم ينظر إليهم بتقدير؛ جابر بن حيان أبو الكيمياء، ومحمد بن سنان بن حيّان البتاني عالم الفلك الشهير.
يتنقّل النص بين مدن وحواضر كبرى: حرّان حاضنة العلم والفلسفة، الرقة التي كانت عاصمة ثانية للحرّانيين وللدولة العباسية، وقرطبة عاصمة الخلافة الأموية في الأندلس التي كانت في أوج ازدهارها الفكري واضطرابها السياسي، غرناطة، ملقا، الإسكندرية التي تستكشف الرواية فيها واحدة من أشد الدول غموضًا في العصر العباسي "دولة الأندلسيين في الإسكندرية"، أثينا في أشد عصورها ذبولًا، القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، كريت التي أقام العرب الأندلسيون فيها في تلك الفترة إمارة مستقلة "إمارة إقريطش" دامت قرنًا ونصف قرن تقريبًا، وصقلية حيث أقام فيثاغورس مدرسته قبل الميلاد.
وفي هذا الترحال لشخوص الرواية يقدم النص بانوراما عن العالم آنذاك وممالكه؛ الخلافة العباسية والإمبراطورية البيزنطية والدولة الأموية في الأندلس، حيث يُلقي الضوء على الواقع الفكري في تلك الممالك، وتداخلات السياسة بالفلسفة، والعلوم بالعقائد. وتبرز الرواية تفاصيل دقيقة عن الحياة اليومية: الأسواق، المآكل، العمارة، الأزياء، الموسيقى، والطقوس الدينية، ما يمنحها بعدًا توثيقيًا حيًا للقرن التاسع الميلادي وأنماط العيش والعمران.
تبرز الرواية فترة من أشد فترات الحضارة العربية إشراقًا، وتستكشف التسامح الديني الذي كان قائمًا حيث ساهم في "دار الحكمة" مركز الإشعاع العباسي؛ علماء وفلاسفة من شتى الأديان والطوائف، مسلمون ومسيحيون ويهود وحرّانيون أحناف صابئة.
كما تتقصى الرواية العقيدة الحرّانية وتبرز طقوسها وشرائعها وعباداتها، وهذا يقدم لأول مرة تعريفًا حياتيًا للحنيفية التي ينص الإسلام على أنه انحدر منها. ويبرز العمل كذلك علاقة المسلمين بأصحاب الديانات الأخرى والتسامح الذي كان سائدًا، فالرواية تقدم أحد أبرز البطاركة المسيحيين اليعاقبة المؤرخ دينيسيوس التلمحري وعلاقته بالمأمون والمعتصم وفق أسانيد تاريخية.
في قراءاته المبكرة للعمل، كتب الشاعر العراقي سعد الياسري: «هذا عمل مختلف، شرفت بالاطلاع عليه قبل نشره؛ ورأيي فيه، أنه سفر في التراث والتاريخ والأزياء والعمارة والعقائد، وسِفر لقراءة (الحرّانية) وإنصافها في أشد لحظات المرحلة العباسية حسمًا وخطورةً. عمل روائي طويل ومتخم بالتفاصيل ليس للقارئ العادي ولا للدارس العادي».
أما المخرج السينمائي غطفان غنّون فقد وصف الرواية قائلًا: «لم أشعر منذ زمن طويل بقدرة على التلذذ بعمل روائي ضخم دون عناء، ربما لما نمر به من ظروف تثقل النفس وتشتت الانتباه. لكن هذه الرواية البديعة أعادت إليَّ الثقة بالأدب الذي أشتاقه وأحبه. رواية تتسم بالسلاسة والرقي، مهذبة في لغتها، ثرية في مضمونها، تفتح لك أبواب عوالمها حتى تجد نفسك بين شخصياتها كأنك ترافقها وتراقب تفاصيل حياتها عن قرب، متنقلًا من مكان إلى آخر ومن زمن إلى زمن، وكأن المشهد كله ممتد أمامك على رقعة واحدة بلا أي عناء».
بهذا العمل، يفتتح المؤلف مشروعه الروائي التاريخي، مؤكدًا أن الأدب قادر على إعادة الحياة إلى مدن وأفكار ووقائع غيّبتها السرديات، وعلى مساءلة الماضي لفهم الحاضر وصراعاته. وقد ذُيّلت الرواية بأكثر من ثلاثمئة مرجع عربي وإنكليزي ويوناني وسرياني.
المؤلف من مواليد الرقة في الجزيرة الفراتية عام 1969، وتنحدر عائلته من حرّان. يقيم اليوم في مسقط ويحمل الجنسية السويدية. عُرف منذ التسعينيات كشاعر وكاتب مسرحي وصحفي وباحث، وله تسعة دواوين شعرية وثلاث مسرحيات مونودرامية، أبرزها «گلگامش بحذاء رياضي» التي حازت جائزة الفجيرة الدولية للمونودراما. كما أصدر كتبًا ودراسات بحثية بالعربية والإنكليزية، منها مؤلفه المشترك مع قصي مسلط الهويدي: «الحرانيون السومريون: في أصول ومعتقدات العشائر الزراعية في الجزيرة والفرات». تُرجمت أعماله إلى الإنجليزية والألمانية والسويدية والإسبانية والفرنسية.






















التعليقات