أدت حركة نزوح الملايين من شعوب تضم الكثير من البلدان الإسلامية إلى دول الغرب، من بينها ألمانيا، أدت إلى تعرف الشعوب التي حلوا عليها ضيوفاً إلى ثقافات كثيرة وعادات أكل مختلفة. فالأوروبيون لم يكونوا يعرفون الكثير من أنواع التوابل، التي أصبحت اليوم جزءاً مهماً في مطبخهم. كما وجدت مأكولات الكوشر اليهودية طريقاً إلى قطاع الأطعمة في ألمانيا. فمع قدوم مئات الآلاف من اليهود في أوروبا الشرقية إلى ألمانيا زاد التوجه إلى أكل الكوشر وهو الطعام المحلل أكله حسب الأحكام اليهودية.

برلين: أتاح إقبال الأوروبيين عامة، والألمان خاصة، إضافة إلى تلهف المهاجر لطعامه الاصلي، المجال أمام الجاليات الأجنبية، من بينها العربية والتركية، لفتح محال بقالة وحتى سوبر ماركت، حيث يجد المرء حالياً كل ما يريده من أنواع الأطعمة العربية أو غيرها إضافة إلى اللحم المذبوح على الطريقة الإسلامية، أي الحلال، كما يطلق عليه. لكن وراء انتشار محال المأكولات الشرقية والمطاعم والمطاعم السريعة، التي تعرفها تقريباً كل زاوية في المدن الألمانية الكبيرة، خاصة برلين، قصة لافتة للنظر، ففي ستينات القرن الماضي شهدت ألمانياً موجة بطالة عمالية في صفوف الأتراك الذين أحضرتهم شركات ومصانع كثيرة، كي يساهموا في إعمار ألمانيا المدمرة، بسبب الحرب العالمية الثانية.

كما سمح لشخص من الطائفة يسمى quot;مشكيحquot; بمراقبة الإنتاج في المصنع مباشرة. ومن أجل الحصول على لحوم وخضر وفاكهة طازجة كوشر، يقام في عدد من المدن الألمانية ما يسمى بسوق الأسبوع، وهو نهار الجمعة، كما زاد عدد مطاعم الكوشر بشكل لافت خاصة في برلين، التي تضم وحدها أكثر من 25 ألف يهودي. ولا توجد إحصائية معينة لحجم مبيعات طعام الكوشر في ألمانيا، لكن التقديرات الأولية تشير إلى حوالي مليار ونصف المليار يورو سنوياً، بعدما زادت مقارنة مع الأعوام الماضية بحوالى 30 %.

وتتميز المطاعم، التي تقدم وجبات كوشر بالفخامة، حتى إن هناك من يقدم وجبات عربية أيضاً، لسهولة تحضيرها، ولكسب زبائن عرب أيضاً.

ومن أجل جذب الزبائن، يضع مطعم شموك في مدينة ميونيخ الجنوبية مثلاً ممالح لها أشكال مشاهير العالم، مثل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ليس هذا فقط، بل وتزين إحدى جدرانه لوحة للعشاء السري (العشاء الأخير) الذي جمع السيد المسيح مع تلاميذه، لكن الأشخاص في الصور هم الرؤساء الدكتاتوريون في العالم، بدءاً من هتلر وصدام حسين، مروراً بستالين وحتى أسامة بن لادن.

ويذكر كولاتجي أن الشاورما (دونار كباب) والبيتزا التركية والنقانق، تدخل اليوم الكثير من البيوت الألمانية، وتضاهي المأكولات السريعة مثل ماكدونالد، وفي السنوات الأخيرة زاد عدد المطاعم العربية والتركية الفاخرة التي تقدم الطعام quot;الحلالquot; بشكل كبير ومن روادها الكثير من السياسيين الألمان.

ويؤكد أن إنتاج الحلال سوف يبقى مزدهراً، طالما أن المسلمين موجودون في ألمانيا، لا بل قد تزداد قوة شرائه، فليس هناك قطاع في السوق الغذائية ينمو بهذه السرعة مثل قطاع المنتجات الحلال، لكن مصانع المأكولات الألمانية لم تتخذ بعد خطوة بعض المصانع الفرنسية، مثل نستله، التي تعرض منتجات محضرة على الطريقة الإسلامية، وتضع عليها علامة quot;حلالquot; بالعربية والتركية.

وكان تقرير من الأونسيكو قد أشار إلى أن شعوب العالم تشهد تغيراً في معالم أطعمتها، ويحتل الطعام الحلال حيزاً لا بأس به، إذ قفزت مبيعات هذه الأطعمة من 150 مليار دولار إلى 500 مليار دولار عام 2008، أي ما يقارب من 12 % من مبيعات القطاع الغذائي في العالم.

والطعام الحلال، أي الكوشر، الذي يفرض على اليهود المتدينين، وجد له أيضاً طريقاً إلى قطاع الأطعمة في ألمانيا. فمع قدوم مئات الآلاف من اليهود في أوروبا الشرقية إلى ألمانيا زاد التوجه إلى أكل الكوشر أو الكشروت بالعبرية، وهو الطعام المحلل أكله حسب الأحكام اليهودية، خاصة مع وجود يهود أورثوذكس.

إلا أن اليهود في ألمانيا، وبعكس المسلمين، يذبحون منذ زمن طويلاً الذبائح حسب معتقداتهم الدينية، لأن الدين اليهودي هو أصلاً من الأديان السماوية، إلى جانب الديانة المسيحية في ألمانيا.

لكن وبعكس المسلمين، فإلى جانب لحم الخنزير، هناك أنواع من الأسماك والطيور الجارحة محرمة على اليهودي أكلها، ومن أجل شراء أي نوع من طعام الكوشر، عليه أن يحمل أيضاً ختم quot;هخشاريمquot;، كبرهان على أنه محضر بشكل حلال. وإلى جانب ما يستهلكه اليهود، الذين يلتزمون بأكل الكوشر، ويحضر في ألمانيا، تستورد العديد من محال المواد الغذائية الكوشر من إسرائيل سنوياً بأكثر من 100 طن من اللحم البقري، وقرابة 20 طنا من لحم الخروف. ولقد أدى تزايد عدد اليهود الذين يأكلون الكوشر إلى إمكانية شراء أنواع أخرى منه، عن طريق الانترنت أون لاين، إلا أن أسعار اللحوم مثلاً، وبعكس الأسعار في المحال التركية والعربية مرتفعة، ويصل ثمن الكلغ الواحد للحم البقر المفروم إلى 14 يورو و29 يورو للكوتليت.

ومن أجل الترويج للكوشر، يقام في برلين حالياً معرض بإشراف الجالية اليهودية في المتحف اليهودي، يعرض كل أنواع الكوشر إن في الشرق أو الغرب، إضافة إلى أنواع معينة من نبيذ كوشر والخبز والحلويات، والجديد حالياً هو مستحضرات تجميلية الكوشر أيضاً. وواجه الكثير من اليهود، خاصة الآتين من أوروبا الشرقية في البداية مشاكل عند الحصول على حليب كوشر، لكن أحد المصانع في ولاية براندنبورغ حل لهم هذه المشكلة، ويصدر إلى كل أنحاء ألمانيا يومياً أربعة ملايين ليتر حليب محضر حسب الطقوس اليهودية.

إلا أن طول فترة البطالة، دفعت بعضهم للبحث عن حلول، من بينها فتح كوخ صغير لبيع الأطعمة التركية للعمال الأتراك القلائل من أجل كسب الرزق. لكن الفكرة لاقت إقبالاً منقطع النظير، وها هي المحال التركية تنافس في عروضها والسلع التي تبيعها المحال الألمانية. وانضم إلى الركب الكثير من اللبنانيين والفلسطينيين الآتين من لبنان في مطلع الثمانينات، فزاحموا الأتراك في استيراد المواد الغذائية من بلادهم، مثل معلبات الحمص والفول والحلوى الشرقية على أنواعها.

لكن مسألة اللحم الحلال وبعض المنتجات الغذائية من المسائل التي بقيت بعيدة المنال للمسلمين، لأن قرار الذبح على الطريقة الإسلامية تتعارض مع القانون الألماني، وترفضهاً تماماً جمعيات حماية الحيوانات. مع ذلك، حل الكثير من المسلمين هذه القضية بشراء خراف، وذبحها بعيداً من أنظار الرقابة الحكومية.

لكن بعدما أصبح عدد المسلمين في ألمانيا حوالى أربعة ملايين، وشكلوا جمعيات إسلامية، طولبت المراجع العليا الألمانية بالسماح بالذبح الحلال، ومع أن القضية أخذت وقتاً طويلاً، إلا أن المحكمة الدستورية العليا أصدرت في عام 2008 قانوناً يسمح بموجبه ذبح الماشية على الطريقة الإسلامية، ولكن ضمن نطاق ضيق، بمنح أشخاص محددين إذناً للقيام بهذه المهمة، ودمغ منتجات اللحوم في بعض المتاجر الإسلامية بختم quot;حلال أوروبيquot;، وهي الجهة الرسمية التي تمنح شهادة الذبح الحلال تجنباً لدخول المستهلك المسلم في متاهات كثيرة تحول دون إقباله على الشراء.

وإلى جانب تحريم اللحوم المذبوحة بالطريقة الألمانية، وهي التخدير ثم القتل، توجد أيضاً بعض السلع التي تدخل في تكوينها مواد محرمة على المسلمين، مثل الشوكولاته المحشية بالكحول والجيلاتين، وهي مكونات من الخنزير، وكانت في السابق تنتج من البقر، وفضّل منتجو الجيلاتين الخنازير عن البقر لتدني أسعارها، لكن هذه السلع لا تعرض في المحال التركية أو العربية تفادياً لإثارة الشكوك حول المنتجات الأخرى المعروضة. وما يثير الانتباه أن بعض الألمان أصبحوا من محبي اللحم المذبوح على الطريقة الحلال، والسبب في ذلك حسب شرح المدرسة في إحدى المدارس البرلينية أنجيلا لوثر لإيلاف هو أن الطريق الألمانية تحبس الدم في الذبيحة، لأنها تقتل الماشية عن طريق الصعق، بينما على الطريقة الإسلامية يخرج الدم من الذبيحة. عدا عن ذلك تحب كثيراً كل التوابل، وتستعملها في مطبخها، مع أنها تأكل في الكثير من الأحيان الطعام الصيني.

وحسب قول بوراك كولاتجي لإيلاف، كان صاحب محل تجاري في برلين، حيث تقطن نسبة كبيرة من العرب والأتراك، ويعمل اليوم في وكالة تسويق المنتجات التركية، عندما فتح المحل قبل 26 سنة كان عدد المحال أقل من عدد أصابع اليد، وزاد الآن أكثر من 80 %، لكن التطور الأكبر في حي نيوكولن حيث النسبة الأعلى من المسلمين هناك. ويقدر كولاتجي حجم مبيعات المحال التركية وحدها في ألمانيا بأكثر من سبعة مليارات يورو سنوياً، حيث توجد اليوم مصانع تعليب اللحوم وتحضير أسياخ الشاورما التركية، وتصدر حتى إلى اليابان.