السلطات لا تعترف به، والأطباء ينشطون دون ترخيص
التداوي بالأعشاب في الجزائر .. صناعة زاحفة تفتقر إلى تنظيم

كامل الشيرازي من الجزائر: يعدّ التداوي بالأعشاب صناعة رائجة في الجزائر، لكنها لم تأخذ حجمها الحقيقي بسبب عدم الاعتراف بهذا (الطب البديل)، ولا يزال المئات من أطباء الأعشاب هناك ينشطون من دون ترخيص أو اعتماد قانوني، رغم الشعبية التي يحظى بها هذا النوع من الطب، والإقبال المتزايد للجزائريين على اختلاف مستوياتهم وفئاتهم للخضوع إلى العلاج الطبيعي بدلاً من الكميائي.

انتعاش يكبحه تعتيم
يقول المختص بطب الأعشاب يحيى شلالو في مقابلة خاصة مع quot;إيلافquot;، إنّ طب الأعشاب يسعى حالياً إلى النسج على منوال ما فعله الطب الشعبي في الجزائر منذ عشرات السنين، خصوصاً وأنّ المهنة توارثوها عديدون أباً عن جد، كما انتسب إليها كوكبة من الأطباء والدارسين، ويشير شلالو الذي يمتلك محلاً لطب الأعشاب في ضاحية باباحسن (20 كلم غرب العاصمة الجزائرية)، إلى أنّ التداوي بالأعشاب في الجزائر لم يرق بعد إلى صناعة رائجة، لكن في العامين الأخيرين ومع بروز الفضائيات وكثرة الحديث عن الطب البديل، بدأت تلوح مؤشرات انتعاش، رغم تداخل غياب الكفاءات بنقص أهل الاختصاص.

بلغة الأرقام، وفي غياب بيانات رسمية، تذهب إفادات تلقتها quot;إيلافquot; من مشتغلين بحقل طب الأعشاب إلى إحصاء بضع مئات من أطباء الأعشاب، وتكمن صعوبة تحديد الرقعة الحقيقية لصناعة التداوي بالأعشاب، بكون السلطات الجزائرية لا تعترف بالعلاج الطبيعي في منظومتها الصحية، وتبعا لهذا quot;التجاهلquot;، تدور هذه الصناعة بالكامل في فلك quot;اللاتنظيمquot;، حيث لا يزال التداوي بالأعشاب خاضعاً للعشوائية والاجتهادات الفردية، على حد تعبير عبد الحميد صديقي، أحد أشهر ممارسي هذا العلاج في شرق الجزائر.
ويوضح يحيى شلالو أنّ الممارس لمهنة التداوي بالأعشاب يتعيّن عليه أن يمتلك رأسمالاً لا يقل عن الأربعمائة ألف دينار جزائري (ما يعادل 4500 دولار) وباحتساب أعداد الناشطين في مهنة الطب البديل والمقدّرين بالمئات، فإنّ ذلك معناه أنّ مليارات الدنانير جار استثمارها في سوق الأعشاب المحلية، تبعاً للتكاليف الباهظة لكثير من الأعشاب الطبية، واحتكاماً لعامل التهافت على هذه الأعشاب، كثيراً ما تحول طب الأعشاب إلى تجارة وصولية لدى البعض ممن يمارسون هذه المهنة تحت مظلة الشعوذة.

أعشاب أوكرانيا الأكثر حضوراً .. وأدوية الجهاز الهضمي الأكثر مبيعاً
ويشير ثلاثة من ممارسي الطب البديل، باديس مصطفى، ويوسف مجكقان، ويحيى شلالو إلى بروز الأعشاب المستوردة من الصين والهند في سماء التداوي الطبيعي في الجزائر، علماً أنّ أعشاب أخرى يتم جلبها من أوكرانيا، وروسيا، وبلجيكا، وألمانيا، والصين، وسوريا، والإمارات. ويوضح شلالو أنّ بورصة الأعشاب تفوق التصور أحياناً الطب الآخر، إذ إن هناك عشبة تباع بـ20 ألف دينار (ما يعادل 2200 دولار) للكيلوغرام الواحد.
بيد أنّ مجكقان يلتقي مع باديس وشلالو في أنّ معدل أسعار الأدوية يدور في حدود ستمائة دينار (في حدود ثماني دولارات)، علماً أنّ أسعار المواد المستوردة من أوكرانيا أكثر جودة وأقل سعراً، ما يجعلها الأكثر تداولاً، مع الإشارة إلى أنّ ثمن الشاي العشبي يقدّر بـ250 ديناراً (3 دولارات)، لكنه في حالات الندرة يرتفع سعره إلى أربعمائة دينار (4.5 دولار).

وبالنسبة إلى الأعشاب الطبية الأكثر مبيعاً في الجزائر، فتنقسم إلى ثلاثة أصناف كبيرة هي الأعشاب الخاصة بمشاكل الجهاز الهضمي، والقولون والقرحة المعدية: البابونج، عرق السوس، الشمر، الينسون، القصبر، قشر الرمان، بذر الكتان، الريحان، الحلحال، المريمية أو القسحين، الزنجبيل، الحلبة، والزعرور، وأعشاب التقوية الجنسية: الجنسينق، شرش الزلوع (العشبة الجنسية)، حب الرشاد، حب الصنوبر، حب الزلم، وسائر منتجات النحل (العسل وحبوب الطلع)، والمهدئات: الزيزفون، المليسا، لسان الثور.
كما تشهد الحجامة إقبالاً مطرّداً، خصوصاً بعد ثبوت فعاليتها على صعيد مداواة السرطان، وكذا الحساسية والتهابات الجيوب الأنفية والانزلاق الغضروفي.
ويعتبر المتعلمون الأكثر إقبالاً على شراء الأعشاب الطبية، بفارق بسيط عن غير المتعلمين، كما إنّ النساء يتغلبنّ على الرجل في هذا الجانب، خاصة بسبب اقتنائهنّ لمواد التجميل الطبيعية خصوصاً مع فاعليتها الأكبر، لا سيما تلك المستوردة من تايلند وبعض الدول العربية كسوريا والإمارات.

ويتفوق كبار السن على الصغار في التصنيف الخاص بأكثرية زبائن الأعشاب خصوصاً مرضى السكري. وذاك منطقي لكون المخضرمين المتمسكين بعادات أجدادهم عاشوا في زمن الابتئاس والتقاليد المحلية التي كانت ترتكز على الطب الشعبي بالدرجة الأولى.
واستناداً إلى أطباء الأعشاب، يبلغ معدل صرف العوائل الجزائرية على أدوية الأعشاب معدل 2500 دينار لكل أسرة في الشهر (ما يقارب 270 دولار). ويربط شلالو هذا (الشح) من طرف مواطنيه في الإنفاق على أدوية الأعشاب، باستمرار غياب الدولة وعدم إدراجها الأعشاب الطبية ضمن لائحة الأدوية القابلة للتعويض من طرف مصالح الضمان الاجتماعي، لذا يفضل كثيرون التوجه إلى الطب الكلاسيكي، إلى جانب افتقار الطب البديل لعاملي الترويج والدعاية.

لكن الملاحظ خلال جولة لإيلاف قادتنا إلى عدد من محلات طب الأعشاب في العاصمة، أنّ الإقبال الذي كان ضعيفاً قبل سنتين، بدأ يتسع وهو في وتيرة متزايدة، حيث بات الطب البديل مجرد ملجأ أو منفذ، وقد يعرف منحنى تصاعدياً في غضون الأعوام القليلة المقبلة، خصوصاً بعد تفاقم مخاطر تعاطي الأدوية الكميائية واكتساب الطب البديل صفة أكثر جدوى في معالجة السرطان، عن طريق مكمّلات دوائية بأعشاب طبيعية.
وخلافاً لما شهدته دول غربية وعربية، لم تصل الجزائر إلى مستوى منافسة الأعشاب للأدوية، رغم أنّ كثيراً من الجزائريين صاروا يفضلون اقتناء الأعشاب بكثرة، في ظل وضعهم المعيشي الكارثي الذي زاده فداحة إلغاء العلاج المجاني وانتشار الأمراض وتراجع القدرة العلاجية، وهو ما يجعل الاختصاصي يحيى شلالو يتكهنّ بأنّه في المستقبل المنظور، قد تنافس الأعشاب الأدوية، quot;لأنّ الناس هناك تريد العلاج بأقل كلفة ودون أضرار جانبيةquot;.
على صعيد أبرز اللاعبين في سوق الأعشاب الجزائرية، يبرز اسم الدكتور يحيى محمودي الذي لمع بريقه بحكم أنّه كان طبيباً كميائياً، ثم غيّر تخصصه إلى الطب البديل، وصار يقدّم حصص توعوية في الإذاعات المحلية، وهناك أيضاً د/شيخ مقران، لكن أكثرية الأسماء تظلّ غير معروفة وطنياً، ويقتصر صداها عبر الجهات والبلدات.

الرقابة المخبرية غائبة
ويؤكد أطباء الأعشاب أنفسهم أنّ الرقابة المخبرية غائبة في الجزائر، وذلك راجع بحسب د/حكيم فرطاس إلى (السكوت المزمن) للدولة، وهو ما قد يعرّض الناس للخطر، لذا يقتني كثيرون الأعشاب الطبية بناء على عامل الثقة في الطبيب المعني لا أكثر.
ويقحم شلالو عامل غياب معاهد مؤهلة لتكوين اختصاصيين، وهو ما جعل الأمر برمته متروكاً للعبث، خصوصاً، مثلما قال، مع لعب الدولة دوراً في التعتيم على الطب البديل، فليس هناك لا تقنين ولا تكوين، ويعترف شلالو أنّه كغيره من الأطباء المختصين بالأعشاب غير مرخص لهم بالعمل، رغم حيازتهم شهادات معترف بها عالمياً، إذ ليس هناك إطار ينظم عمل هؤلاء، بداعي أنّ الجزائر ليست من كوّنت أطباء الأعشاب.

قانونياً، تفادى المشرّع الجزائري إقرار أي مادة خاصة بطب الأعشاب، رغم اعتراف منظمة الصحة العالمية به منذ العام 1993، والظاهر أنّ الجزائر ارتضت اتباع النظام المعمول به في فرنسا، فباريس تمارس منذ سنة 1941 حظراً على ممارسة طب الأعشاب هناك، والنتيجة أنّ الجزائر لا تستطيع أن تتدخل في مهنة طب الأعشاب وتمنع ممارسيها، خصوصاً بعدما أثبتوا نجاعتهم بالأساليب العلمية.
وينقل رئيس الجمعية الأميركية للطب التقليدي البروفيسور أمير صالح الذي سعى إلى إقناع المسؤولين الجزائريين بجدوى الطب البديل، أنّ وزير الصحة الجزائري السابق quot;عمار توquot; أجابه بالاستفسار عن مصير الأطباء في حال شيوع الطب البديل (..)، بينما ذهب رئيس المركز الجزائري لمعالجة السرطان، البروفيسور بن بوزيد، إلى حد وصف الحجامة بـquot;الشعوذةquot; رغم آثارها الإيجابية جداً، التي وصفها لطفي (38 سنة) وزوبير(45 سنة) بوضوح عندما قالا إنّ الحجامة مكنتهما من نيل علاج جدي عجزت عشرات الوصفات الطبية الكميائية عن تحقيقه.

وبشأن قانونيَّة هذه المنتجات، يلاحظ المحامي عبد الحميد غرنوطي أنّ عديد المنتجات غير خاضعة للرقابة، وليس لها أي علامة مسجلة أو علامة جودة، وهذا الغياب في التنظيم فسح المجال أمام ممارسة عشوائية للمهنة. في وقت يشدد الدكتور يحيى شلالو على أنّ المؤهلات التي ينبغي على أطباء الأعشاب امتلاكها، تتركز في ضرورة المعرفة العلمية بأسس ومبادئ وقوانين الطب، وخضوع الطبيب المعني لتكوين أكاديمي وامتلاكه شهادة معترف بها، ومعرفة تكوين الجسم البشري، ومعرفة مكونات الأعشاب وتصنيفها، ومقاديرها، وكيفية حفظ الأعشاب وتخزينها.

لطب الأعشاب أضراره أيضاً
عكس النظرة السائدة بأنّ التداوي بالأعشاب لا ينطوي على أخطار، يؤكد د/يحيى شلالو أنّ ثمة أضراراً جانبية مختلفة قد تؤدي إلى الوفاة، ويشير إلى وجود أعشاب متداولة لكنها سامة، كعشبة quot;خيّاطة الجرحquot;، quot;الدفلةquot;، وquot;المثنانquot; الخاصة بالبواسير، إذ تحتوي الثلاث عشبات على مواد سامة، لكن الناس يستهلكونهما بكثرة وهو ما يعرضهم لأضرار غير مأمونة ناتجة من الجهل باستعمال الأدوية، فهناك أناس تكون لهم حساسية جراء مكونات بعض الأعشاب، فيحدث لهم إحمرار جلدي، وتشنجات هضمية، لأنّ استعمالها بالمقادير لا يُحدث أضراراً.
وتؤثر الأعشاب على الأدوية العادية، إذ إن هناك تفاعلات كميائية، خاصة الأعشاب المعروفة بتحفيز الدورة الدموية، حيث لا تتماشى مع الأسبرين مثلاً، مثل الزنجبيل، والجنسينق، والكركدية، والزعرور، وهو ما يفرز أعراضاً جانبية، لكن أطباء الأعشاب في الجزائر يركّزون على أنّ الحالات المتضررة من الأعشاب شاذة وقليلة، مقارنة بالأخطاء الطبية المرتكبة في المستشفيات.