صباح الخفاجي من بغداد: شهدت الحياة الاقتصادية للعراقيين خلال السنوات الست الماضية تغييرات كبيرة، خاصة في وضعهم المادي المعاشي، الذي ارتفع ارتفاعاً فاحشاً، أو ماجناً عند البعض، وانخفض انخفاضاً كبيراً عند البعض الآخر. ومابين الاثنين ثمة طبقة ثالثة تناضل للمحافظة على وضعها المعاشي الذي يبقيها في الوسط. ذاك الوضع الذي يظل مهدداً بالهبوط إلى خانة الفقر لارتباطه بظروف البلد غير المستقرة.

الحكومة لا تدعم المواطن
فتحت الحدود العراقية أبوابها، فتدفقت السلع بمختلف مناشئها وأنواعها، وبفضل تراخي الحكومة وقوانينها، فإن التجار والمستوردين والباعة ينفردون

وحدهم في صنع قرار البيع والشراء. ولأن الحكومة لا تقدم دعماً للمواطن من حيث توفير الأسواق والجمعيات المدعومة من قبلها، فإن المواطن مجبر شاء أم أبى على التعامل مع أمزجة التجار وأسعار الباعة التي ترتفع يوماً فآخر دون أن تقدم الحكومة على نصرة المواطن واتخاذ خطوة جدية وحاسمة لإقرار وتثبيت تلك الأسعار عند حدود ثابتة.

ومن الطبيعي أن يحتاج المواطن إلى شراء المواد الغذائية، الأجهزة الكهربائية، الكسوة وحتى الكماليات. لهذا فإن الحمل يبدو ثقيلاً جداً على المواطنين، خصوصاً وأن الأسعار في ارتفاع مستمر. فيما يبقى الأجر الشهري للمواطن الموظف ثابتاً.

البطاقة التموينية وشبكة الرعاية
اعتمد نظام توزيع المواد الغذائية، أو ما يعرف بنظام البطاقة التموينية في العراق، بعد غزو صدام حسين للكويت في عام 1990. وتم العمل بنظام البطاقة التموينية بإشراف الأمم المتحدة. وذلك باعتماد وإرادات النفط مقابل الغذاء. واستمر العمل بالبطاقة التموينية من عام 1990 حتى اليوم. وتعتمد 90% من العائلات العراقية على هذه البطاقة بشكل تام، فيما تعتمد 10% الباقية (ذوي الدخل المرتفع) عليها بشكل جزئي. وتوزع في البطاقة التموينية مواد مثل الرز والشاي والسكر والحليب والطحين وغيرها.

وشكلت البطاقة التموينية ملاذاً غذائياً آمناً للعراقيين في زمن صدام حسين. بل إن البطاقة التموينية حمت العراقيين من مجاعة شديدة عصفت بهم طوال فترة حكم صدام حسين، تلك الفترة التي تميزت بتوقف الاقتصاد والتعامل التجاري الخارجي، وارتفاع معدل البطالة بشكل حاد وتفشي الكساد وسيادة السوق السوداء.

والمفارقة تكمن في استمرار بقاء البطاقة التموينية ملاذاً غذائياً آمناً للعراقيين إلى يومنا هذا، رغم التحسن الطارئ على الدخل المعاشي للفرد في العراق، الأمر الذي يثير تساؤلات وشكوك، مفادها أن الوضع المعاشي للعراقيين لم يشهد تحسناً أو تغييراً حقيقيا نحو الأفضل. وإلى جانب البطاقة التموينية يوجد نظام شبكة الحماية الاجتماعية، وهو نظام هدفه التخفيف من حدة الفقر والويلات النفسية والمادية للمواطن في ظل ظروف صعبة يمر فيها العراقيون. وتتراوح المعونة المادية بين 120-200 دولار توزّع على المشمولين كل شهرين أو ثلاثة .وفي بعض الأحيان تتجاوز الأربعة أشهر.

إحصاءات
وحسب إحصاءات غير مؤكدة صادرة من وزارة الهجرة والمهجرين، فإن في العراق مليونين ونصف مهجر داخل العراق. ويوجد قرابة أربعة ملايين يتيم: إذا كان معدل العائلة العراقية من 4 إلى 6 أطفال حسب تقديرات وزارة التخطيط. وحسب إحصاءات وزارة حقوق الإنسان، فان 40% من العراقيين تحت خط الفقر. إضافة إلى وجود مليون أرملة عراقية حسب إحصائية رسمية صادرة من وزارة المرأة العراقية عام 2008. ورغم أن لا أحد يستطيع الجزم والتسليم بدقة هذه الأرقام، إلا أن ذلك لن يعوق الإقرار بوجود أعداد كبيرة جديدة من الأرامل والأيتام والمطلقات، والعاطلين عن العمل والعاجزين والشيوخ والعوانس. ومن المؤكد أيضاً ضعف المستوى الاقتصادي المعيشي لهذه الشرائح التي يصفها ناشطون بحقوق الإنسان طبقات المجتمع المسحوقة.

لمياء ناظم أرملة تعيل 6 أطفال وحدها، وهي تعتمد بشكل أساس على المعونة التي تقدمها شبكة الحماية الاجتماعية. لكنها تعاني ضآلة المبلغ الذي لا يوفر احتياجات عائلتها. تقول لمياء: دفعت ابني البكر للعمل في الشارع. راتب الرعاية يتبخر في الخمسة أيام الأولى من الشهر. وأعاني الفقر الشديد. منذ سنتين وأنا أحاول الحصول على عمل كمنظفة في المنطقة الخضراء، لكن دون جدوى..

وتضيف: أحياناً تتأخر المعونة 3 أشهر أو أكثر. لكني سأظل أسعى للحصول على عمل، وإلا سيضيع أولادي مني في الشوارع.

الشهادة لا تطعم خبزاً
في الفترة الممتدة بين العشرينات وحتى الستينات، كان يكفي المواطن الحصول على مؤهل علمي، حتى وإن كان بسيطاً ليحظى بفرصة عمل ومستوى معيشي جيد. وكان بمقدور الموظف شراء قطعة ارض وتشييد دار خاص به وعائلته، إضافة إلى قدرته على التمتع بالإجازات الصيفية في دول أوروبية، والعيش برغد.

ومع قدوم صدام حسين لسدة الحكم خسرت الشهادة والمؤهل العلمي مكانتها طوال عقود حكمه .وانقلب الأمر حيث ارتدت الشهادة وكأنها وبال على صاحبها. وصار راتب الموظف لا يتجاوز ما قيمته 5 دولارات شهرياً. فاضطرت غالبية العقول المرموقة، والشهادات والمؤهلات العلمية إلى الهجرة لتدبر معشيتهم وعائلاتهم، وكانت الهجرة إلى دول كاليمن، ليبيا الوسيلة الوحيدة لتدبر مستوى معاشياً مريحاً، إن لم يكن مرفهاً.

لكن بداية 2003 شهدت انتعاشاً ملحوظاً لأصحاب المؤهلات العلمية. وارتفعت أجور موظفي مؤسسات ودوائر الدولة. وحيث أصبح الأجر الشهري للموظفين يتراوح بين 200-900 دولار، حسب الدرجة الوظيفية وسنوات الخدمة. لكن تحسن الدخل الشهري لموظفي الدولة، قابله غلاء متواصل في المستلزمات الحياتية الطبيعية.

الشرطي ناصر جبير قال لإيلاف إن راتبه الشهري لا يكفيه إلى نهاية الشهر، فهو يستلم 650 ألف دينار شهرياً، ويدفع 200 ألف إيجاراً للمنزل حيث يسكن وعائلته، ويدفع 200 ألف أجور النقل والطعام.

وقال ناصر: لا يبقى في جيبي من الراتب سوى 250 ألفا، علماً أن لدي أربعة أطفال، أصغرهم رضيعة تتناول الحليب الذي اشتريه من السوق السوداء، والراتب لا يوصلني لنهاية الشهر.

وأضاف الشرطي: نقف تحت الشمس الحارقة صيفاً ونحتمل البرد شتاء. عملنا كشرطة يجبرنا على الوقوف قي الشارع، والراتب غير مجز. إذا وجدت فرصة رزق شريف أخرى، سأترك الوظيفة لأنها غير مجدية.

أما المعلمة رباب حسن فتشكو أنها رغم زيادة راتبها إلا أنه لا يسد احتياجاتها وعائلتها المكونة من 7 أفراد. وقالت: استلم 550 ألف دينار. لكن الراتب لا يكفي، فبناتي الخمس بحاجة إلى كسوة وأجور التدريس الخصوصي والطعام. إضافة إلى إيجار المنزل والكهرباء الذي quot;يأكلquot; من الراتب 350 ألف شهرياً.

واعترفت المعلمة أنها تعطي دروساً خصوصية لطلابها، إذ أصبح quot;التدريس الخصوصي مصدر رزقها الأكبر..!!

طبقات فاحشة الثراء-وطبقات مسحوقة
قبل 2003 كان المواطن العراقي يعيش في عوز وفقر وحرمان وجوع شديد. وفيما كانت الطبقة المحسوبة على نظام صدام حسين وحاشيته وعائلته وأقربائه، يعيشون ترف وبذخ الحياة ومباهجها ولذاتها، التي شملت أيضاً طبقة الضباط الكبار وأعضاء حزب البعث، فقد انسحق المواطنون وعانوا سياسة التجويع، بل كانوا أقرب إلى المجاعة الحادة طوال تلك العقود. ولم تتجاوز أجور موظفي الدولة ومؤسساتها الـ5 دولارات شهرياً. أما الغالبية العظمى من الشعب فقد عانت الهوان.

واليوم، بعد إزاحة صدام حسين ونظامه، ظهرت طبقات فاحشة الثراء، فالعراقيون العاملون مع السفارة أو الجيش الأميركي يتقاضون أجوراً لا تقل عن 3 آلاف دولار شهرياً. وتزيد ثروات المقاولين يوماً بعد آخر. إضافة إلى الأجور التي يصفها البعض بالخيالية، تلك التي يتقاضاها أعضاء مجلس النواب والوزراء والموظفون بدرجة مدير عام ووكلاء الوزارات والوزراء والمستشارين.

حيث أصبحوا يشكلون طبقة تتمتع بامتيازات العيش المرفه والباذخ، قياساً لمواطنيهم الذين يناضلون للعيش بكرامة. فيما تبقى الطبقات المسحوقة وحتى الوسطى بحاجة إلى يد ناجعة تنتشلهم من الفقر المدقع. وقد يبدو حصولهم على حصتهم من النفط وتوزيعها كأجور شهرية أسوة بما تفعله دول الخليج. وليبيا، خطوة من شانها إعادة الحق لأصحابه، ناهيك عن توفير سبل عيش كريم، هم أحوج ما يتوقون إلى الحصول عليه.