لن يكون إعداد قانون المالية للسنة المقبلة في المغرب مهمة يسيرة. فتداعيات الأزمة لاتزال تلقي بظلالها على الاقتصاد المغربي، والإنتاج الصناعي والخدماتي ينمو ببطء شديد، والصادرات تواصل التراجع، والاستثمارات الخارجية تسجّل الهبوط تلو الآخر. كما أن حوالات المغاربة في الخارج متمادية في منحاها التنازلي، ولاتظهر حتى الآن أي إشارات توحي بدنو الخروج من النفق. من المتوقع، في ظل هذا المناخ، أن تحتاج الحكومة إلى جهد أكبر من أجل إعداد هذا القانون المالي، وإلى ساعات عمل أطول مقارنة بالوتيرة التي ألفت الاشتغال عليها. إلا أن الأهم من هذا وذاك، هو أن هذا الإعداد قد يتطلب جرأة في اتخاذ القرارات المناسبة، وقد يستدعي الكثير من الحنكة من طرف الحكومة لتقنع مختلف الأطراف بصحة اختياراتها، ولتعترف أن الظرف عصيب ويتعذر فيه الاستجابة إلى مطالب الموظفين برفع الأجور، ومطالب أرباب العمل بخفض مستويات النسب الضريبية والزيادة في الإعانات المخصصة للشركات المتعثرة، ومطالب المستهلكين بمواصلة دعم السلع الأساسية، ومطالب الشباب العاطل بالزيادة في التوظيف الحكومي.

من المؤكد أن الحكومة أمام تحدٍ صعب للموازنة بين مختلف أطراف هذه المعادلة. فالإيرادات الحكومية تشهد تقلّصاً هاماً ناهز 10 بالمئة حتى الآن، ومن المرجّح أن تستمر على هذا النحو خلال الشهور المتبقية من السنة الحالية. فتراجع النشاط الإنتاجي، والاستيرادي، أضعف الحصيلة الضريبية في مختلف مكوناتها؛ كما أن استمرار الحكومة في برامجها الاستثمارية زاد من حجم النفقات. وبعد أن ذاقت الحكومة طعم فائض الميزانية، تعود مجدداً إلى دائرة العجز. ومن المتوقع أن يتفاقم هذا العجز ويستمر خلال السنوات المقبلة.إن القانون المالي للعام 2010 ستتم صياغته في زمن الشدة. فمن الواضح أن الحكومة لاتتوفر على أي هوامش مالية مريحة تمكّنها من إسكات الأصوات المتصاعدة، هنا وهناك من أجل إسماع مطالبها، ناهيك عن أولئك الذين يصيحون ولايصل دوي صراخهم إلى آذان الحكومة. كيف ستتدبّر الحكومة أمر هذه الشدة، التي ليست لها يد فيها، كما تقول باستمرار، وكيف ستجتازها من دون أن تعصف بآخر أوراقها؟

تحتاج الحكومة في مثل هذه الظروف إلى القيادة المبادرة لتدير الحوار في شكل جدي وحازم مع مختلف الفرقاء الاجتماعيين، فتُقدّم الخيارات الممكنة، وتلك القابلة للتنفيذ، وتُقنع الفرقاء على تأجيل جزء من مطالبهم، أو التخلي عنها لما قد يترتب عنها من آثار سلبية على الميزانية الحكومية، أوعلى الاقتصاد الوطني بشكل عام. فهل تنجح الحكومة فعلاً في أخذ زمام المبادرة لشرح الظروف التي تواجه الاقتصاد المغربي، ولتقديم خياراتها بشكل يقنع المواطن، طالبة من نقابات العمال وممثلي أرباب العمل أن يتفهموا أن الموارد المتاحة لاتسمح بزيادة الأجور، أوبالمزيد من تقليص الإيرادات الضريبة، أوالاستمرار في تقديم الإعانات من دون قيد ولاشرط؟ لو اعتمدنا على التقرير الذي أصدره المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية في بداية شهر تموز/يوليو من هذه السنة، فإن الجواب على هذا السؤال سيكون بالنفي. فالتقرير يعيب على الحكومة ضعف قدرتها على المبادرة، وعدم إقدامها على مهمتها التواصلية في شكل مرضٍ وفعال، ولاسيما في ظروف الشدة والعسر حيث يكون التواصل الشفاف جزءاً من المعالجة.

ولنفترض أن الحكومة كسرت صيامها عن التواصل مع المواطنين ونطقت، لتدعوهم إلى التحلي بالصبر والتريّث حتى تمرّ العاصفة، وآنذاك تستجيب لرغباتهم وتنكب على مطالبهم. حتى لو فعلت، فمن يُصدّقها، ومن يثق في خطابها؟ لُتقدِم الحكومة على هذه الخطوة بنجاح، تحتاج إلى مشروعية قوية تستمدها من قاعدة انتخابية عريضة، وإلى وسيلة لمحاسبتها إن هي أخلّت بالتزاماتها وتقاعست عن الوفاء بوعودها، كما تحتاج إلى فريق وزاري منسجم له رؤية موحّدة، وبرنامج حقيقي له أهداف واضحة ومعقولة، قابلة للتأجيل أو التعجيل حسب الإمكانات المتاحة؛ وهذه كلها دعامات هامة لاتتوفر هذه الحكومة عليها.

ولذلك، من المرجح أن تستمر الحكومة في محاولة إيهام الجميع أن في إمكانها أن تبت في المطالب كافة معتمدة على أساليب الغموض والمناورة، بدل الشفافية والوضوح. وقد تستجيب في خضم ذلك إلى بعض المطالب حتى لو اقتضى الأمر أن تُثقل ميزانية الدولة. فهي لايسعها إذا انقطعت بها السبل إلا أن تدفع من المال العام في سبيل شراء شيء من الشعبية والقبول، من دون أن تكثرت لما قد يترتب عن ذلك من عواقب.