أبوظبي - إيلاف: حين تقود سيارتك في طريق الكورنيش في مدينة أبوظبي الجميلة سيلفت انتباهك مبنى مرتفع وعصري، إنه مبنى quot;هيئة أبوظبي للاستثمارquot;، وعلى بعد أربعة بنايات فقط يرتفع مبنى آخر هو quot;غرفة تجارة و صناعة أبوظبيquot;، وبين هذين القطبين تكمن القوة الدافعة لاقتصاد إمارة أبوظبي الحديث لتقود الإمارة الغنية بالنفط نحو عصر ما بعد النفط.

وقد حققت إمارة أبوظبي في السنوات الخمس الماضية قفزات نوعية في إنشاء بنية تحتية ممتازة تعتمد على الاتصالات الحديثة و طرق مواصلات عصرية ومدن ذكية واعتماد الطاقة البديلة الآمنة بيئيا، كما في مشروع rdquo;مصدرldquo; وتكامل أقوى مع اقتصاد العالم من خلال استثمارات خارجية طموحة في مختلف بلاد العالم مع تنسيق و تبادل تجاري حيوي وقوي مع القوى الكبرى المؤثرة في التجارة العالمية.

ولا يتخيل الانسان العادي أن كل هذه الانجازات تتحقق في مدينة لا يتجاوز عدد سكانها المليوني نسمة أي أنها في حجم مدينة rdquo;اوتاواldquo; عاصمة كندا من حيث عدد السكان.
و لكنما زالت هناك خطوات ضرورية لتحسين بنية الاقتصاد الداخلي ليواكب الرؤية الاقتصادية الطموحة التي تقود البلاد نحو عصر اقتصادي جديد، ويتناسب مع حجم تبادل الإمارة الاقتصادي الخارجي. فنمو الدول و المدن لا يعتمد على المبادرات الفردية كما أنه لا يتحقق من خلال اقتصاد النخبة بل يتطلب المساهمة الفاعلة لكل فئات و قطاعات السكان. وهذا يعني دوراً أكبر للاقتصاد المحلي للإمارة في دعم واستمرارية النجاح الاقتصادي للبلاد.

والفارق بين مبنى ADIA و مبنى ADCCI لا يكمن في البنايات الأربع التي تفصلهما أو في فارق الحجم والارتفاع، لكنه يشكل الفرق بين رأس المال الضخم الذي تملكه حكومة أبوظبي وبين رؤوس الأموال الخاصة الأكثر تواضعاً (بالمقارنة) والتي تساهم في تنمية اقتصاد الإمارة المحلي من خلال التجارة والخدمات والصناعة التي تسير بخطى نامية قوية.

والانتباه الى دعم هذا القطاع ضرورة حيوية لاستمرار الإمارة في تحقيق نجاح اقتصادي متوازن ومتكافيء داخلياً وخارجياً، و استمرار تحقيق أبوظبي للنجاح في رفد قطاع التجارة والخدمات والصناعة بنوعية عالمية المستوى ومنافسة من حيث القيمة.

فالنمو السريع للإمارة وارتفاع أجور السكن والطعام والطاقة وتكلفة الخدمات الحياتية (الصحة والتعليم وتسجيل الشركات والتأمين) جعل تكلفة الأعمال في الإمارة عاليا وربما يشكل عائقا حقيقيا في استكمال خطط الإمارة في تحقيق طموحها بأن تكون المدينة الأولى في الخليج لاستقطاب رؤوس الأموال العالمية والمشاريع المتميزة. وهذه الأخيرة ضرورة أكيدة بل وركيزة حيوية في تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة لعصر ما بعد النفط.

لقد تحقق عمل جبار في وقت قياسي وقصير جدا بفضل رؤية و مثابرة المؤسس الأول لإمارة أبوظبي الحديثة وهو القائد الحقيقي لشعب أبوظبي الشيخ الراحل زايد بن سلطان آل نهيان. ولا زالت المسيرة مستمرة في عهد سلفه الشيخ خليفة بن زايد وولي العهد الشيخ محمد بن زايد وعلى نفس النهج الطيب.

كيف ينشط الاقتصاد الداخلي ليواكب التحدي العالمي؟

ازدادت أهمية أبوظبي في العالم بعد الأزمة الاقتصادية العالمية وأصبحت محط أنظار الباحثين عن رؤوس الأموال للمشاريع العملاقة في العالم. كما أنها أضحت قبلة المستثمرين الذين يؤمنون بأهمية الامارات الاقتصادية ويبحثون عن ملاذ آمن لاستثماراتهم. ونتيجة لذلك فقد ازدحمت فنادقها برجال الأعمال الباحثين عن فرص جيدة في القطاعات الاقتصادية المختلفة.

لكن هذا النشاط والحيوية المتدفقة كانت تصطدم بركود مسيطر على سوق الأوراق المالية وخاصة في عام 2009. والسوق المالي هو السوق الأهم للمستثمرين المحليين كما أنه يعتبر ترمومتر النشاط الداخلي والمؤشر الرئيس لتوفر لسيولة في أيدي التجار ويعكس بصورة أساسية ثقة المستثمرين المحليين في حالة الاقتصاد الداخلي.

وفي القطاع العقاري هناك تراجع في الأسعار أيضا، رغم انفتاح شهية أصحاب الأراضي للبناء والتعمير والدخول في مشاريع عقارية مختلفة. إذ أن صعوبة التمويل والضمانات الصعبة للقروض العقارية في البنوك المحلية قد دفع ملاك الأراضي لبحث فرص التمويل المتاحة من البنوك الخارجية.

وكلا المؤشرين rdquo;الأسهم و العقارldquo; دليل مهم لكثير من الدارسين لسوق أبوظبي على حيوية السوق المحلي.

ومن المهم جدا أن تحاول الحكومة المحلية أن تضع خططا مستقبلية و مستمرة لتنشيط السوق الداخلي بتحفيز العناصر الأساسية فيه.

ومن ركائز التحفيز الأساسية: توفير سيولة مصرفية أعلى، وطرح مشاريع عامة للشركات بتنافسية متكافئة وشفافية. وهذه مسائل على الحكومة المحلية أن تفرض عليها رقابة أشد.

ومن الواضح أن التوجهات الحكومية تدفع بالقطاع العام الى الخصخصة ورفع الكفاءة و تخفيض النفقات وتقليص الهيكل الإداري و إزالة المعوقات بما فيها تسهيل الاجراءات وحوسبتها. وفي المجال الاداري دعمت الحكومة المحلية جهود الحوكمة في الشركات و تبنت الشفافية في كثير من الجوانب. ورغم أن المشوار لا زال طويلا حتى تصل الحكومة غايتها إلا أنها تسبق غيرها من الدول الأخرى في الشرق الأوسط، وأصبحت بذلك نموذجا يحتذى ويعتبر مثالا حيا على نجاحها في البيئة العربية لنجاح المباديء الأساسية في الإدارة الحكومية المعاصرة.

والمهم أن تركز الحكومة جهودها على مشاريع شراكة القطاع العام و الخاص، فهذه المشاريع محرك أساسي للتنمية وخاصة في سوق مثل أبو ظبي.

كما أن على الحكومة أن تفكر بجدية أكبر في موضوع التركيبة السكانية. إذ أن استقرار هذه التركيبة عنصر مهم في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة. فمعظم الاحصاءات السكانية تشير إلى أن 25% من سكان الامارات يتجددون باستمرار كل عام. وهذه نسبة كبيرة لا تساعد على استقرار الخبرات كما أنها مؤشر على تسرب العقول الى الخارج وخاصة أن الإمارات، كباقي دول الخليج، صارت بحكم الواقع محطة هجرة للكفاءات العربية الى كندا وأمريكا واستراليا ونيوزيلندا.

كما أن تخفيض تكاليف تأسيس الشركات و تجديد الترخيص التجاري وتبسيط اجراءات ورعاية الابداع و تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة هي كلها دوافع للنمو الاقتصادي الدائم. فالشركات الصغيرة والمتوسطة في القطاع الخاص توفر 80% من فرص العمل في أي اقتصاد رأسمالي ناجح.

الرقي الحضري: التحدي و الاستجابة

يبدو للمراقب قليل الخبرة أن الاقتصاد العالمي قد بدأ يتعافى تماما وأن الأسوأ قد أصبح وراء ظهور الحكومات والمصارف و رجال الأعمال. و في الواقع فإن هذا التعافي ليس تاما و أن هناك قضايا أساسية و جذرية لا زالت تهدد البنية الأساسية للاقتصاد العالمي بسبب هيمنة دورات الرأسمالية ( في النشاط و الركود) على حركة التجارة العالمية و بالتالي الصناعة والخدمات و غير ذلك.

و بالاضافة لتحديات طبيعة النظام الرأسمالي فهناك تحدي التغير المناخي الذي يهدد بهجرة الأراضي الزراعية و انتقالها من مكان لآخر في العالم. وهذا سيؤثر أيضا على وفرة المياه و استبدال مواطن الكثير من السلالات الحيوانية و الزراعية في العالم كما عرفناها في الخمسمائة سنة الأخيرة. و هذا التغير بالذات هو تغير سريع و لا يمكن عكسه أو التخفيف من آثاره كما يظن البعض.

و هناك أيضا موضوع التلوث أيضا فحوالي 90% من سكان العالم لا يجدون مياه صحية للشرب. و لدينا احتباس حراري بسبب كميات ثاني أكسيد الكربون الناتج عن نشاط التصنيع البشري و خاصة في المائة عام الأخيرة.

و لكن ربما كان أخطر هذه التحديات جميعا هو الجهل و الفقر بسبب سوء توزيع الثروة و الموارد بين الناس، و حتى في البلدان التي تنعم برخاء اقتصادي. فنصف فقراء العالم يعيشون في بلاد غنية بالموارد الطبيعية. و حرمان الناس من المال يعني حرمانهم من الحياة، و هو قتل معنوي يلغي مساهمتهم في الحياة الاقتصادية و يهمش وجودهم كبشر في الأرض.

وقد خطت أبوظبي خطوات ممتازة في توفير الثروة في أيدي أبنائها و ضمان حياة مرفهة لهم يغبطهم عليها أكثر من 95% من سكان العالم. و كان هذا بفضل النظرة بعيدة المدى للشيخ زايد بن سلطان رحمه الله، و الذي كان نموذجا نادرا في الكرم و العطاء و في مد يد العون للدول الأخرى مهما كان انتماؤها العرقي أو الديني. و استمر وتجسد هذا الحس الانساني أكثر في نشاطات جمعية الهلال الأحمر التي ترعاها زوجته سمو الشيخة فاطمة، وتقدم الغوث العاجل و الذي يتفوق في نوعيته و سرعة وصوله للمحتاجين الجمعيات الانسانية الأخرى في الدول الأكبر و الأغنى.
و في ظل التحديات المالية و الغذائية في العالم تخطو أبوظبي بشكل ملفت للإهتمام في تحقيق الأمن الغذائي و توفير الطعام في ظل كل الظروف و التقلبات الممكنة.

كما و تعمل على توسيع المطارات و الموانيء و بناء المزيد من المخازن متعددة الأغراض و طرق النقل و منافذ التوزيع.

كما عملت على تحسين وسائل النقل العام كالحافلات و اعتماد المترو كحل مستقبلي فعال لمشكلة الزحام المروري و نمو عدد السيارات المترافق مع زيادة عدد السكان بسبب النمو الطبيعي وهجرة المهارات البشرية للعمل في أبوظبي.

و مع توسع البناء و امتداد العمران تخطو إمارة أبو ظبي عن دراسة و تصميم بثقة أكبر نحو المستقبل لتكون مدينة عالمية نموذجية في كافة المرافق و الخدمات و على كافة الأصعدة والمستويات. و يبدو هذا الفرق واضحا في ظل تراجع المستويات في مناطق أخرى في اعالم في حين أنها ترتفع بشكل لافت في أبوظبي و الامارات ككل، و خاصة الهدوء و الاستقرار الأمني رغم تنوع الثقافات و الجنسيات و الأديان في الإمارة و هذا انجاز ممتاز.

أبوظبي في عصر ما بعد النفط

حين يستكمل مبنى جامعة السوربون الراقي و البديع في جزيرة الريم في مدينة أبو ظبي لن يكون وحده هو المعلم الفكري والحضاري الوحيد في المدينة. فالى جانب هذا الصرح التعليمي سيكون و بالقرب منه في الضاحية الثقافية جزيرة السعديات متحفي اللوفر و جوجنهايم و مسرح للفنون جنبا الى جنب مع متحف زايد الوطني و الذي يجسد الاعتزاز بالتراث الإماراتي المحلي مع استمرار التواصل الفكري العالمي.

وحتى الآن فهناك أكثر من 12جامعة في أبوظبي بالإضافة الى الكليات و المعاهد التعليمية الأخرى و التي تهدف لبناء العقول وصقل المهارات الانسانية لتسهم في بناء الإمارات. و تشكل لبنات البناء هذه ملامح وفكر أبو ظبي في عصر ما بعد النفط.

وبحسب رؤية القيادة السياسية في أبو ظبي فان التنمية الإنسانية من خلال التعليم تشكل حجر بناء الأساس في تقدم إمارة أبو ظبي.

و حجر الزاوية الثاني هو التنمية الاقتصادية الموازية للتنمية الانسانية. فهناك مدن صناعية و مناطق متخصصة و توسع في صناعة النفط و الطاقة النووية و صناعة الطيران.

وهناك أكثر من 17 من البنوك الوطنية و الأجنبية العاملة في الإمارات و لها فروع في أبوظبي، وتعكس التكامل و التنامي القوي لاقتصاد الامارة مع حركة التجارة العالمية و تداول رؤوس الأموال في العالم.

ولعل بدء دخول أبو ظبي لعصر ما بعد النفط سيبدأ في منتصف العقد الثالث من هذا القرن و بحدود العام 2025. ففي هذه السنة ستكون أبوظبي قد استكملت و شغلت العديد من مشاريعها التنموية المهمة ، و ابتدأت بتطوير و توسيع ما هو موجود فعلا من مشاريع سابقة. وسيكون عندها قد تم استكمال الشكل الأولي لمشروع Capital City District و بدأت المدينة باستيعاب حوالي ثلاثمائة ألف نسمة. في حين تكون rdquo;مدينة مصدرldquo; نموذجا مثاليا للمدن البيئية النظيفة و الذكية في العالم.

وسيكون على أبوظبي التوسع في المشاريع التنموية السياحية والصناعية و الزراعية لتنويع مصادر الدخل. و سيكون على العاملين في القطاع النفطي التكيف مع التنوع الصناعي الجديد أو الانخراط في القطاع الخدمي و هو قطاع واسع و يخدم شرائح مختلفة من الناس و الهيئات الحكومية.
و ستكون مدائن أبو ظبي متكاملة مع مدينة دبي في وحدة عضوية شبه واحدة و تمتد على شاطيء الخليج العربي من منطقة مارينا أبو ظبي و حتى جبل علي.

وسيكون التبادل التجاري الاقليمي الواسع في أبو ظبي الركيزة الأساس للتجارة العالمية في المنطقة، و يشكل بالتالي مصدرا مهما للدخل و قطاعا مهما في التوظيف و استقطاب الكفاءات.

كما ستكون موانيء و مطارات أبو ظبي و دبي محطات عالمية مفصلية و مهمة جدا لنقل للمسافرين و شحن البضائع في البحر و في الجو.

ومع وجود هذه الثروة العظيمة متركزة في مكان واحد فلا بد من وجود حماية و قوة ردع عسطرية تتناسب مع المخاطر المحتملة و خاصة في ظل تزايد التوترات الاقليمية و العالمية. وهذا يستدعي تطوير القوى العسكرية الدفاعية والأمنية لدولة الإمارات و أبو ظبي ركن اساس في تكوينها.

وهذه عناصر مهمة جدا في تحقيق التنمية المستدامة الآمنة في إمارة أبو ظبي وعصر ما بعد النفط.