إتسمت أوضاع العمال في الجزائر خلال الربع الأول من العام الجاري، بطابع استثنائي صنعه الآلاف من موظفي قطاعات التعليم والصحة والدفاع المدني، ورغم إقرار السلطات زيادات محدودة على صعيدي الرواتب والمنح، إلاّ أنّ التضخم ابتلعها، تماما مثل إشكالية العاطلين، على نحو قد يقود إلى قادم أسوأ.

كامل الشيرازي من الجزائر: كان انتفاض النقابات المستقلة الشتاء المنقضي، نقطة تحوّل ومؤشر إلى الغليان الذي ساد الآلاف من مستخدمي القطاع العام في الجزائر، جرّاء هزال الرواتب وما فعلته موجة الغلاء بجيوبهم، والمتأمل في الواقع الراهن للعمال الجزائريين يجده مرادفا للغة الاحتجاج التي أضحت العملة الأكثر رواجا في ظلّ حوار الطرشان المستمر بين الحكومة ومجموع النقابات.

قطاعا التعليم والصحة اللذان يستوعبان العدد الأكبر من الموظفين في الجزائر، شكّلا بؤرة التوتر الكبرى بالإضافة إلى ميدان الحديد والصلب وصناعة وسائل النقل، واتى تسويغ جميع الإضرابات التي استمر بعضها إلى حدود الشهرين، ببلوغ وضع العمال مستوى كارثيا، رغم البحبوحة المالية التي تعرفها البلاد وامتلاء خزانتها العامة، علما أنّ الجزائر لم تتأثر بالأزمة المالية الدولية بالقدر الذي مسّ دولا أخرى، وهو ما جعل تأثير هذه الأزمة محدودا على سوق العمل في الجزائر.

ويشرح quot;مزيان مريانquot;المتحدث باسم تنسيقية نقابات الوظيف العمومي، إنّ شبكة الرواتب quot;مليئة بالتناقضاتquot; على حد تعبيره، ويضيف في تصريح خاص بـquot;إيلافquot;، إنّ النقطة الاستدلالية المعتمدة في شبكة الرواتب quot;مجحفةquot;، ولا تستجيب لتطلعات جمهور الموظفين الجزائريين، تبعا لعدم ممايزتها بين خصوصيات بعض الوظائف، وإدماجها المنح بشكل مراوغ في الرواتب، مثلما قال، ودعا مريان إلى رفع النقطة الاستدلالية من 0.45 إلى 0.70 يورو، وهو أمر غير معقول أيضا بمنظار النقابي quot;إلياس مرابطquot; الذي يستهجن أن تكون رواتب موظفين في الجزائر أقل بثلاث مرات عن رواتب نظرائهم في تونس والمغرب.

واستفاد المدرسون كما الأطباء من زيادات في الرواتب، إلاّ أنّ هالة التضخم المتفاقمة في البلاد ابتلعت هذه الزيادات، وهو أمر لا يفصله الحقوقي quot;حسين زهوانquot; عن افتقاد قطاع الشغل في الجزائر إلى التنظيم وتأرجحه بين سوء التسيير وفوضى الميدان، علما أنّ الحكومة الجزائرية لا تزال منذ عقود مصرة على التعامل مع quot;اتحاد العمال الجزائريينquot; الموالي للحكومة، والذي يعيب عليه المراقبون والعمال على حد سواء عدم تمثيليته، خلافا للثقل الجماهيري الذي تتمتع به النقابات المستقلة ودفعها إلى تأسيس كونفيدرالية مستحدثة قبل أيام كتنظيم موازٍ للاتحاد المذكور المثير للجدل.

ويستهجن نقابيون كيف أنّ الحكومة الجزائرية سارعت قبل نحو عام إلى إقرار زيادات خيالية في رواتب نواب البرلمان، كما لم تتردد عن رصد المليارات لفائدة عناصر المنتخب الجزائري لكرة القدم، بينما (تتأفف) الحكومة ذاتها من الاعتناء بعمالها وحاجياتهم المعيشية الملّحة، وهو وضع غير سوي بحسب كل من د/محمد يوسفي، ود/إلياس مرابط، رئيسي نقابتي الأطباء المختصين وممارسي الصحة على التوالي، على طرف نقيض، يرى الأستاذ عبد القادر جمال الخبير في علاقات العمل، أنّ واقع العمال في الجزائر أفضل حالا مقارنة بدول أخرى.

وبينما استنجدت السلطات بجهاز القضاء لإرغام الأطباء والمدرسين وغيرهم على إيقاف الإضراب، ترى حركة مجتمع السلم أحد أضلاع الائتلاف الحاكم، أنّه لا بدّ من ضبط شبكة جديدة للرواتب وفق محددات اقتصادية اجتماعية تنموية تتناغم مع القدرة الشرائية، فضلا عن معالجة التوترات الاجتماعية وتطويقها عبر فتح قنوات الحوار بما يسهم في التهدئة الاجتماعية.

ويقول إسماعيل (33 سنة) الموظف في إحدى الإدارات العمومية:quot;أنت هنا تلهث بشكل دائم وراء لقمة العيش، وسط ظرف اجتماعي سيئ وانغلاق أفقquot;، وتؤيده نسيمة (41 عاما) ربة بيت والمستخدمة في مصنع مملوك للحكومة:quot;لن أخفي عليكم سرا، إذا قلت لكم أني أقترض كثيرا، طالما أنّ راتبي يتلاشى خلال أيام بسبب فواتير الكهرباء والغاز والماء، وما يتصل بالإيجار والمواد الواسعة الاستهلاك التي باتت أسعارها باهظة للغايةquot;.

وفي حي بن طلحة الفقير، قال محمد العامل في سكك الحديد:quot;مرتبي لا يكفي بتاتا لإعالة عائلتي المشكّلة من تسعة أفراد، سلم الأجور لا يوفر حياة كريمةquot;، بينما ترى جميلة (45 عاما) الأستاذة في إكمالية quot;زبيدة ولد قابليةquot;:quot; الحياة صارت صعبة، وحالتنا ليست وليدة اليوم، وكل المؤشرات تقود إلى العدمquot;، بينما يعلّق ناصر (37 عاما) وهو موظف لا يتجاوز أجره الدولارين ونصف يوميا:quot;صرنا لا نتحمل المعاناة، الحكومة تتفنن في اختلاق الضرائب الجزافية والاقتطاع من الرواتب، في حين تتعرض الإضرابات لقمع مقنّن، ولسنا ندري إلى أين تتجه الأمورquot;.

وتُثار عدة محاذير بشأن الشركات الأجنبية الناشطة في الجزائر، حيث تميل بعضها ndash; لا سيما النفطية - إلى تشغيل فئة النساء فحسب، مع منحها رواتب زهيدة لمستخدميها الجزائريين لا تمثل سوى عُشر الأجور الممنوحة لنظرائهم الأوروبيين، كما حفلت الفترة السابقة بعدة حالات طرد تعسفي لعمال جزائريين،على أن يفصل القضاء المحلي في وضعياتهم.

بالمقابل، تشهد الجزائر تواجد 60 ألف عامل أجنبي مقيم بطريقة قانونية في البلاد، وينتمي هؤلاء إلى 105 جنسيات بينها عربية وآسيوية وأوروبية، ويستفيدون من الحماية التي يكفلها القانون الجزائري لليد العاملة الأجنبية.

وتقول كشوفات رسمية اطلعت quot;إيلافquot; عليها، إنّ العمال الأجانب يعانون مشكلات بالجملة، حيث أحصت وزارة العمل الجزائرية، 2401 مخالفة لقوانين العمل الخاصة بالعمالة الأجنبية من طرف 1999 مؤسسة، كما أنّ 314 منها وظّفت أجانب دون حيازتهم ترخيصا للعمل أو تجاوزت مدة صلاحية رخصهم.
في الشق المتعلق بالبطالة، لا تزال معدلات الأخيرة قوية، وحتى وإن كانت السلطات تتباهى بوجود مليون عاطل (يمثلون نسبة 10.2 بالمئة في مجتمع محلي قوامه 36 مليون نسمة)، إلاّ أنّ معطيات الميدان تكذب ذلك رأسا.

حيث تبقى نسبة البطالة عالية في أوساط الشباب الذين يمثلون ثلاثة أرباع المجتمع الجزائري المتسم بمعدل عمري يقلّ عن 25 سنة لدى نصف سكانه، وسط تنامٍ ملحوظ لأعداد العاطلين من حملة الشهادات الجامعية، حيث انتقلت البطالة بين خريجي مؤسسات التعليم العالي من 11% سنة 2000 إلى 20% في عام 2008، رغم إنفاق الحكومة أموالا ضخمة على رهان التشغيل، واستحداث سبعمائة ألف منصب عمل منذ انطلاق البرنامج التكميلي للإنعاش الاقتصادي (2005 ndash; 2010).

في وقت تشير إحصائيات غير رسمية إلى أنّ إجمالي عدد العاطلين عن العمل يصل إلى ثلاثة ملايين شخص، ويصل عدد طالبي العمل إلى 230 ألف كل سنة، وينفق غالبية هؤلاء 24 شهرا للحصول على وظيفة.

وتظهر تحقيقات ميدانية أنّ البطالة في عالم الريف سائرة إلى ارتفاع، بحدود 37.8% من سكان الأرياف، علما أنّ أغلبية هؤلاء يتراوح سنهم بين(16 ـ29 سنة)، مع الإشارة إلى أنّ الذكور هم أكثر العاطلين، ولا تمثل نسبة الإناث سوى 20.4% من طالبي العمل.

وفي ظلّ وجود إجماع على أنّ السلطات الجزائرية لم تنجح في معالجة جوهرية ذكية لأزمة التشغيل المطروحة بحدة، يتساءل شبان عن أفقهم، في صورة كريم (24 سنة) خريج كلية تجارة، الذي لم يحظ بوظيفة، ويقول جميل (27 عاما) لـquot;إيلافquot;:quot;ما جدوى إنفاق السلطات أموالا طائلة على التدريس في الجامعات، ما دام مصير الكفاءات هو التهميشquot;، وأضاف كريم (28 سنة) أنّه رفقة 4 من أصدقائه أودعوا ملفات لدى الوزارة طلبا لقروض بنكية بهدف استحداث مشاريع، دون جدوى، ما يلقى بظلال كثيفة على معضلة استثمار القوى النشطة في الجزائر.