تبقى سلسلة الرتب والرواتب رهينة موارد الدولة اللبنانية المتضائلة، والسبب مردّه إلى غياب الرؤية الاقتصادية الواضحة عن الموازنة، وتقديم مشاريع القوانين قبل التفكير مليًا في مصادر تمويلها، كما يقول خبير اقتصادي لبناني.


لاتزال مسألة زيادة أجور القطاع العام في لبنان عالقة، مع الاستمرار في دراسة سلسلة الرتب والرواتب، والبحث عن موارد للدولة لتفي بتعهداتها لموظفيها.

فالنقاش حادٌ، داخل مجلس الوزراء وخارجه، خصوصًا أن السلسلة هذه تمسّ مصير أكثر من مئتي ألف موظف وأجير رسمي، في كل الأسلاك الإدارية والتربوية والعسكرية والقضائية، بالإضافة إلى ما يزيد عن ستين ألفًا من المتقاعدين.

وقد صرّح وزير الإقتصاد والتجارة نقولا نحاس قائلًا إن دراسة سلسلة الرتب والرواتب مستمرة في مجلس الوزراء، منذ إقرار السلسلة والموازنة، quot;وهذان الموضوعان مفصل أساس في عدد من القضايا الإقتصادية والإنمائية في البلدquot;، كما يقول.

ويضيف نحاس: quot;تمويل السلسلة وانعكاسها وموضوع تمويل الموازنة للعام 2013 والإنماء الإقتصادي والإستثمارات مطروحة كلها، في دراسة واردات الدولة على أن ننتقل إلى درس النفقاتquot;.

لا رؤية

في هذا الإطار، رأى غسان ديبا في مقابلة مع quot;إيلافquot;، أستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية، أن الضياع الذي أصاب البلد جراء دراسة سلسلة الرتب والرواتب حرم الموظفين الكثير من quot;القدرة الشرائية التي كانت أي زيادة ستؤمنها لهم، خصوصًا أن التأجيل الدائم يؤدي إلى أن يسبق ارتفاع أسعار السلع الأساسية أي زيادة، مع ظهور بدعة التقسيط في الأجرquot;.

وردّ ديبا هذا الضياع إلى غياب الرؤية الاقتصادية أصلًا عن مشروع الموازنة التي قدّمتها الحكومة. فتحسين أداء البلد اقتصاديًا مستحيل من دون هذه الرؤية، لأن ذلك يضع الاقتصاد اللبناني تحت أعباء كبيرة لفترة طويلة.

أضاف ديبا: quot;لا رؤية إقتصادية واضحة يعني لا دراسة كافية للسلسلة، ولغيرها من أوجه الانفاق غير الاستثماري، أو لسبل تمويلها ولانعكاساتها ماليًا وإقتصاديًا على الإنتاجية العامة. ولا رؤية إقتصادية واضحة يعني استمرار الحكومة في إرسال مشاريعها إلى مجلس النواب قبل تحديد آليات تمويل، تمامًا كما حصل في مسألة الموازنة وورقة الكهرباء قبلها، وزيادة أجور العمال في القطاع الخاصquot;.

من جانبه، لا يختلف نقولا شماس، رئيس جمعية تجار بيروت، مع ديبا في أثر هذه السلسلة على الاقتصاد. يقول لـ quot;إيلافquot;: quot;ستمتد انعكاسات إقرار سلسلة الرتب والرواتب 50 عامًا إلى الأمام، ولا يمكن القول إننا نريد تمويل السلسلة بغض النظر عن الوضع الاقتصادي المنهار أصلًا، والذي يتلقى الضربة تلو الأخرى، بدءًا بزيادة الأجور في القطاع الخاص، مرورًا بضرائب الموازنة، وانتهاءً بهذه السلسلةquot;.

من أين؟

يسأل ديبا: quot;من أين المال؟ ولمَ لم تسأل الحكومة نفسها هذا السؤال طيلة 7 أشهر وهي تدرس تفاصيل السلسلة؟quot; أسئلة يضعها ديبا برسم الحكومة، التي يقول إن كل ما تضمنته الموازنة، والورقة الاقتصادية التي صاغها فريق رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، من ضرائب لا تكفي لتمويل هذه السلسلة. معدّل الانفاق يزيد عامًا بعد عام، quot;فما الاجراءات الضريبية التي ستتضمنها موازنة العام 2013 يا ترى؟ وما أثرها في الشرائح الاجتماعية التي أفقرتها أصلًا بنود موازنة العام الحالي؟quot;، لا سيّما أن لبنان مقبل على استحقاق تطوير قطاع الكهرباء الذي يحتاج إلى نحو 5 مليارات دولار.

يعود ديبا ليسأل: quot;من أين المال؟quot; فلا يجد جوابًا إلا الاستدانة، وهذا ما سيراكم العجز في البلد، خصوصًا أن المعتمدين على أموال الدول المانحة في مؤتمري quot;باريس 1quot; و quot;باريس 2quot; سيعودون، بحسب ديبا، صفر اليدين. يقول: quot;صحيح أن هذه الأموال مخصصة للبنان، لكنّها مرهونة بحزمة من الاصلاحات الإدارية والضريبية التي لم ينفذ منها لبنان شيئًا حتى الساعة، لذا لا يمكن المراهنة على هذه الأموالquot;.

فلا وجهة تمويلية إذًا إلا الضرائب، إذ يكفي ndash; بحسب ديبا ndash; أن يولد كل طفل لبناني وفي ذمته نحو 15 ألف دولار من الديون، هي حصته من الدين العام الذي يرزح تحته البلد.

لا للتقسيط

من جانبه، عبّر رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن لـ quot;إيلافquot; عن رفضه كل الكلام الذي يدور حول تقسيط سلسلة الرتب والرواتب. وقال: quot;وهل العمال والموظفون في القطاع العام عمالة زائدة حتى تذهب حقوقهم فرق عملة؟ فالتقسيط يطيل عمر ضائقتهم المالية وعجزهم أربع سنوات، من دون أن تنسى الحكومة ارتباط السلسلة مباشرة بغلاء المعيشة، أي يمكن أن نضطر إلى المطالبة بتعديلها ثانية في المستقبل، إن بقي مؤشر الغلاء على هذا الارتفاع، فماذا ستفعل الحكومة؟quot;.

ورأى غصن أن هذه quot;سياسة الحكومة العاجزة عن الوفاء للناس بحقوقهم، خصوصًا أن كلام أرباب العمل والهيئات الاقتصادية يصوّر اقتصاد البلد وكأنه سينهار بين لحظة وأخرى، ويصوّر الدولة كأنها على شفير الافلاس، فما الضمانة إذًا لعملية التقسيط، وهل يُقبل تقسيط بلا ضمانة؟quot;.

ويضع غصن اللائمة في ذلك على تهويل القطاع الخاص. يقول: quot;عندما زدنا الأجور في القطاع الخاص، أقامت الهيئات الاقتصادية الدنيا ولم تقعدها قائلةً إن المعامل ستقفل والبطالة ستزيد، وهذا ما لم يحصل، وتوصلنا إلى اتفاق رضائي وقعناه مع ممثلي هذه الهيئات في السرايا الحكومي، على مبدأ لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم، واستمر البلدquot;.

الأجر مرّتان

إلا أن شماس أكد لـ quot;أيلافquot; أن الهيئات الاقتصادية لا تقف ضد زيادة الأجور للقطاع العام، quot;بل تعتبرها حلالًا بناء على غلاء المعيشة مع مفعول رجعي من أول شباط (فبراير) 2012، إسوة بالقطاع الخاص، وهذه الزيادة تكلف الخزينة 61 مليار ليرة كل أول شهرquot;.

يضيف شماس: quot;تكمن المشكلة في العلاوة التي ترتبها هذه السلسلة، وكلفتها 58 مليار ليرة شهريًا على الخزينة، فهل من الحلال أن تدفع الدولة الأجر الشهري مرتين، وتطلب من القطاع الخاص المساهمة في تمويل دينها الداخلي المتصاعد من خلال الاكتتاب بسندات الخزينة؟quot;.

والجدير بالذكر هنا أن جمعية المصارف في لبنان كانت قد حذّرت الدولة من مغبة المماطلة في تنفيذ الخطط الإصلاحية، للحد من الفساد الإداري ووقف الهدر في الإدارات الرسمية، وإلا ستبادر قريبًا إلى التوقف عن الاكتتاب في سندات الخزينة اللبنانية، وهي الطريقة التي يعتمدها القطاع الخاص اللبناني، وعماده القطاع المصرفي القوي، لتمويل الدولة ومساعدتها على الاستمرار في خدمة دينها العام.