أحمد عبدالمنعم : لم يكد اهل مصر quot;يستفيقونquot; من فاجعة قطار قليوب حتى كانوا على موعد مع فاجعة أخرى أقل عددا من حيث أرقام الضحايا ولكنها أكبر من ناحية مدلولها .الفاجعة التى تمثلت فى غرق 40 شابا مصريا وهم على متن قارب متهالك كان في طريقة الى الشاطئ الشمالي للمتوسط زادت من الشعور بالمرارة لدى قطاعات واسعة من المصريين خاصة الشباب ..ليس فقط لأن مشهد عويل نسائهم وأطفالهم كان يدمي القلوب ،ولكن لأنها ليست المرة الأولى التي يبتلع فيها البحر شبابا من عمر الزهور وهم في رحلة البحث عن الرزق فى بلد اخر بعد ان ضنت بها بلادهم .

فلا يكاد ينقضي أسبوعا أو شهرا حتى تكون قرية مصرية قد استيقظت على فاجعة من هذا النوع لتفقد بضعة عشرات من أبنائها وهم في رحلة البحث عن الرزق بعد أن حزموا أمتعتهم وودعوا أهلهم وهم يحلمون بحياة افضل لأسرهم التى طحنها الفقر لسنوات .. فالقوارب من هذا النوع عادة ما يكون quot;ركابها quot; من أبناء القرية الواحدة أو على الأقل محافظة واحدة اتفقوا مع أحد مكاتب السفر على شحنهم الى بلد آخر مقابل مبلغ من المال اشتركوا في جمعه بالتساوي .. وكما كان الفرح في وداعهم جماعيا كان الحزن أيضا عندما ابتلعهم البحر فى أعماقه السحيقة .

وعلى الرغم من عدم وجود احصاءات دقيقة عن أعداد المصريين الذى قضوا خلال محاولات التسلل الى أوروبا الا أنها بالقطع ليست بالقليلة خاصة في ظل تضاعف أعداد الحالمين بالهجرة والذين لا يترددون فى خوض المغامرة مهما كانت عواقبها .

وما يزيد من الشعور بالمرارة لدى المصريين أن الشباب الذي يقدم على تلك المغامرة يدرك جيدا أن الفشل فيها يعني الموت ويدرك أيضا أن الفشل هو الاحتمال الأكبر لتلك المغامرة .. الى هذه الدرجة ضاق الشباب المصري بوطنه وبات يفضل المغامرة بحياته للهروب منه ؟!

يجيب محمد سعيد بتلقائية شديدة تجعل من يستمع اليه يشعر وكأنه كلمات حفظها عن ظهر قلب حيث بدأ اجابته بسؤال استنكاري قائلا : وهل سيحزن الوطن لفقدان أحد أبنائه ؟! فأعدادنا تجاوزت السبعين مليون ولن تكون هناك مشكلة كبيرة في حال فقد الوطن بضعة آلآلآف من أبنائه قدمهم قربانا لأسماك القرش الجائعة في البحر وربما تكون مثل تلك الكوارث أقل حدة من مثيلاتها التي تقع على أرض الوطن نفسه من حوادث قطارات وتصادم حافلات وحرائق شملت البنايات وامتدت لتصل الى المستشفيات أيضا .. فما الفارق بين الموت فى مثل تلك الحوادث التي تقع بشكل يومي وبين الموت غرقا فى قارب متهالك ؟!.. الفارق الوحيد أن النجاة من الحادث الأول تعني البقاء على قيد الحياة لحين التعرض لحادث آخر بينما النجاة من الحادث الثاني يعنى بداية حياة جديدة في عالم مختلف ووسط أناس مختلفين وهو هدف يستحق بالفعل المغامرة .

لم يكن المصريين من الشعوب المحبة للهجرة ولم بكونوا أيضا من الشعوب التي تهوى المغامرة .. فقد حال ارتباطهم الدائم بالأرض والنهر دون ذلك منذ آلآف السنيين حتى أن انتقال أحدهم من محافظة الى أخرى على بعد ساعات قليلة منها كان يعد في عرف المصريين سفرا وترحالا .. وبمرور الأيام ومضي السنيين تغيرت الأجيال وتبدلت الأحوال وبات السفر والترحال بمثابة طوق النجاة لكثير منهم حتى وان لاح لهم الموت من بين هذا الطوق .

رامي الذي خاض تجربة السفر الى الخارج مقابل ثمنا باهظا حيث ضحى بالشهادة الجامعية التى كان على بعد خطوة واحدة منها ليترك الكلية ويسافر ضمن مجموعة سياحية الى فرنسا وسرعان ما غادرها منفردا الى ايطاليا بحثا عن حياة أفضل .
ثلاث سنوات كاملة قضاها رامي فى ايطاليا قبل أن يعود الى القاهرة فى زيارة لمدة قصيرة كان يحلم خلالها بالحصول على الاقامة في هذا البلد الأفضل ndash; من وجهة نظره- للمهاجرين غير الشرعيين وبالفعل نجح فى ذلك بعد أن أمضى السنوات الثلاثة بين المطاعم والملاهى الليلية ومواقف الحافلات بحثا عن المقابل المادي الأكبر .


ينظر رامي الى تجربة سفره بنجاح ولا يعتبر التنازل عن الشهادة الجامعية ثمنا باهظا ويقول بهدوء quot; كثر هم هم الذين حصلوا على الشهادة الجامعية وقليل منهم نجح في الحياة العملية .. ووبساطة شديدة يمكن لأي شخص أن يدرك أن الشهادة الجامعية ليست سوى مرحلة تمهيدية للنجاح في الحياة العملية وليست هدفا بحد ذاتها .. وبدون الشهادة الجامعية نجحت في حياتي العملية في الخارج خاصة وأن المؤهل العالي الذي نحصل عليه من مصر وغيرها من البلاد العربية يكون بلا قيمة حقيقية فى أوروبا وسيضطر الشاب للعمل فى مهن لا تتطلب المؤهل الجامعي .

واذا كانت تجربة رامي قد توفر لها الحد الأدنى من النجاح فهناك الكثير من التجارب الأخرى التى لم تكن كذلك رغم نجاح الشباب في العبور الى البلد المستهدف وهي الخطوة الأولى على طريق النجاح .
يشير مصطفى السيد ndash; باحث بمركز حقوقي مهتم بشؤون الهجرة ndash; الى ان موجات الهجرة المتلاحقة للشباب المصري الى أوروبا وأميريكا جعلت تلك البلدان أكثر تحفظا في منح تأشيرات الدخول بالنسبة للمصريين بل وباتت مستحيلة في كثير من تلك البلدان ما جعل الشباب المصري يبتكر اساليب جديدة للهجرة تمثلت في التسلل بطرق غير شرعية عبر قوارب متهالكة يغرق اغلبها قبل الوصول الى الشاطى الاخر بينما يلقى القبض على من نجح فى الوصول الى الشاطىء.

تلك الطريقة التي لم يعد يستخدمها سوى الحالمين بالهجرة من القرويين أهل الريف تراجعت قليلا لتفسح الطريق أمام وسيلة اخرى وهي السفر الى احدى دول اوروبا الشرقية والتقدم بطلب لجوء لاسباب متباينة تمهيدا للعبور الى الجزء الارضي من القارة الاوربية وقد نجحت اعداد كبيرة من الشباب المصري فى السفر بهذه الطريقة والحصول على الاقامة الشرعية حتى انتبهت تلك الدول الى ذلك فاغلقت بابها امام حق اللجوء بوجه المصريين .. وما زال الشباب المصري حتى الان يبحث عن وسيلة اخرى لتحقيق حلم السفر الى الخارج بعيدا عن الطرق السابقة التي باتت مكشوفة !

[email protected]