عرض وقراءة موجزة لمجموعة "ولا أحد غيري" للشاعر صفاء ذياب

يبدو أن من اليسير أن تقوم بدراسة ولو موسعة عن قصيدة واحدة على أن تقدم عرضا وصفيا عاما وقصيرا لمجموعة شعرية ما، هذا ما أحسست به وأنا أقلب قصائد مجموعة "ولا أحد غيري" البالغة 26 قصيدة للشاعر صفاء ذياب، الصادرة مؤخرا عن إتحاد الأدباء العراقيين بدعم من مؤسسة البابطين الكويتية. ما يبدو لي صعبا في العرض انني اعتبره بمثابة قراءة سطحية موجزة للنص، تخوض في العموميات على حساب الغوص في اعماق التفاصيل والخصوصيات المتعلقة بالبنى الاسلوبية والتركيبية والدلالية وغيرها للنص، وتنخرط في لغة وصفية تقريرية تعوم بعيدا عن الثقل الموضوعي للتحليل النصي.
انها مفارقة ان ادعو هذا الجهد البسيط الذي يتطلبه العرض بالصعوبة، في حين اصف الجهد المضاعف الذي تقتضيه الدراسة باليسير، بيد انها مفارقة شكلتها لدي حساسية التعامل مع نصوص خاصة (وقصائد هذه المجموعة تنتمي لمثل هذه القصائد) تصدمك بطريقة أدائها للمعنى وتشكيلها للصورة وتوظيفها للكلمة ولعبها بالدلالة، فتشعرك بان محاولة عرضها لن تنجح في ابراز خصوصيتها وكشف خصائصها الاسلوبية، وانما يجب تحليلها وتفكيكها من اجل الكشف عن منطقها الداخلي الذي ينظم تكوينها وصيرورتها، وهذا ما لا يسمح به العرض الذي سنلجأ اليه في قراءة " ولا أحد غيري " ليكون على أقل تقدير مدخلا أوليا ومقاربة تأملية لدراسة قادمة مشروطة بظروفها المستقبلية...
ما يثيره عنوان المجموعة بدءاً من دلالات يستدعي التوقف قليلا عندها، فهو يوحي بالتفرد ويشير الى كينونة مطلقة لنا متوحدة مع ذاتها ونافية للآخر(غيرها، سواها)، وهذا النفي طريق لاثبات وتعزيز انويتها الخالصة، واذا كانت الواو تبدو زائدة وملتصقة عنوة بأداة النفي القاطع، فانها تبدو وكأنها من بقايا وترسبات جملة سابقة مرتبطة بالعنوان ذاته ربما تكشف لنا قصائد " لن أكون أنا أبدا " نوع العلاقة التي بينهما، ومدى الصراع والتوتر والتجاذب بين العنوانين الذي يبدو انه حسم لصالح الأنا المطلقة النافية للآخر " ولا أحد غيري "، لا الأنا المقصية لأنويتها مطلقا "لن اكون انا ابدا"، لذا فالواو هي مؤشر توكيدي لحسم هذا الصراع وطلل شاخص لآثاره العالقة لعنوان المجموعة المتوج بالنصر كمرجعية لقصائدها، التي اختارت لها مرجعية أخرى تمثلت بنصوص سومرية وبابلية وتوراتية تحولت الى أطر تناصية لها سبقت متونها الشعرية كهوامش قرائية ممهدة توزعت الى أربعة تمفصلات كبرى تقاسمت قصائد المجموعة الستة والعشرين تحت كنفها، مع الاشارة الى تفاوت حجم القصائد قصرا وطولا...
ما هو جدير بالذكر ان هذه النصوص المرجعية تندرج في سياق الصراع الذي أوحى لنا به عنوان المجموعة، صراع الأنا والأنا الآخر (الأنا والهو)، لتمنح هذا الصراع شرعية التأصيل والتجذير التاريخي والوجودي لطبيعة العلاقة بينهما، ولتكون ارضا خصبة لمحاريث النصوص المعاصرة المتناصة معها..
ليس بالضرورة ان يكون الآخر شبيه الأنا او مماثل لها في الجنس، انما الآخر قد يكون كيانا تجريديا أو تجسيديا (الوردة، الحصاة، الله، اللاشيء، الخ) وقد تكون كلمة كما في قصيدة "لم يكن هنالك شيء" وهي كلمة (لم)، في هذه القصيدة التي تمثل سفر التكوين الشعري الخاص بالمجموعة، تصبح (لم) التي تنفي بجزم وجود شيء قبل خلق الأنا، بمثابة وجود مفارق وسابق للأنا، وكأنها تنفي ما سوى الأنا لتؤسس لوجوده القادم، أي انها عنصر ضمن صراع الأنا مع شروط وجوده وسوابق وجوده:
" وثمة لم لا تموت " ص: 9
وريثما تدرك الأنا وجودها، لا تدركه بوصفها (أنا) بل بوصفها (هو)، وهذه مفارقة أنوية، تمهد لصراع جديد بين الأنا ونفسها، حيث تنشرخ وتنقسم الأنا الى ذاتين يعيشان تجاذبا وتوترا متواصلين، يتكرس هذا الانقسام منذ قصيدة " تباشير لحياتنا القادمة "، فالأنا تفرط في الحديث عن نفسها بوصفها آخر (هو) ناسية أنها (أنا)، لكنها تعي ذلك في ختام حديثها، مثيرة الشكوك حول كينونتها بتساؤلات مبهمة تبقى معلقة بلا أجوبة:
" نسي من أنا
أأنا.. هو
أم هو.. أنا " ص:12

صراع يعصف باليقين الذاتي للأنا، التي تظل تحتفظ بمسافة نائية عن ذاتها وكأنها غريبة عنها ولا يمكنها أن تتطابق معها ويكون لها صوت واحد يعبر عنها لا صوتين، ذاتها التي تتحول الى هو ليكون قرينها الأنوي، أو نسخة أخرى لكن بمواصفات مختلفة، نسخة قد تصبح هي الأصل، كما في قصيدة " شيزوفرينيا " التي يجيب في ختامها على التساؤلات التي طرحتها قصيدة " تباشير " السابقة:
" ما لم يعلمه حقا
أنه لم يكن الا هو " ص:13
لكنه ينقض يقينه هذا ويعود الى التشكيك مرة أخرى بهوية الآخر، في قصيدة "من يدري":
" ومن يدري من هو " ص:18
ليعيد الصراع بين الأنا والهو الى دوامة التجاذبات الشيزوفرينية بين الانفصام المطلق والاندماج الموحد، بين غربة الأنا وألفتها مع ذاتها والآخر.
هذا الصراع ينتقل الى تصعيد شيزوفريني للأنا كمركزية لوغوسنترزمية، فتصبح إلها متوحدا نافيا الآخر ورافضا وجوده بل محطما وجوده، يتجلى ذلك في قصيدة " إله ":
" وأنا إله
يدفعكم الى الهاوية " ص:23

ثم يستعيد هذا الصراع الانفصامي بين الأنا التي تحولت الى إله والآخر الإنسان، الانسان الذي يراد منه أن يكون منقذا ومخلصا، لكن رغبة الانقاذ والخلاص تنقلب الى رغبة الموت والتخلص من الوجود ( الإله والانسان، الأنا والآخر) كما في قصيدة " ماذا تصنع بصفر..؟ ":
" يا عبدي:
اصنع فلكا آخر
وكن نوحا آخر
وتخلص مني اليك
وتخلص منك الي
وتخلص منا نحن الاثنين" ص: 43

في القصيدة الأخيرة الطويلة للمجموعة " بينما الحدائق تمضي " يبلغ الصراع والتحولات الشيزوفرينية بين الأنا والهو حدا بالغ التجاذب والتناوب بينهما، تبتديء من الأنا التي تمثل حوتا في طور التكوين بين البر والبحر وهو يسرد مذكراته الغرائبية عن علاقته بالله وبنشوء الكون، مشككا في أنويته وهو يقول:
" من يدري... أأكون أنا؟.. " ص: 51
في احتمال ولادته كحوت أو كانسان، كالشاعر نفسه، انه (الحوت أو صفاء) يكتب عبر مذكراته سفر تكوينه الخاص وليس سفر تكوين الرب، فهو يسعى لانتزاعه منه:
" وكان الماء مائي
والهواء هوائي
وسوانا... أنا وهو " ص: 54
" كان هو
وكنت العرش
كان أنا
وكنت هو " ص: 55

تحولات انفصامية تتصاعد بينهما، وكأنما ليس هناك من حدود أو فواصل نوعية، مجرد أشكال وهويات أنوية قابلة للتحول الى أي شيء آخر، يتبادل فيه كل شيء المواقع والأدوار الوجودية مع بعضه بعضا، عالم من النشأة والتكوين الهلامي، يمكنك أن تكون في لحظة إلها أو انسانا أو حوتا وتعود مرة أخرى الى كينونتك الأولى، تناسخ الكينونات وتبادل الصيرورات:
" ربي
يا أنا...." ص: 57
" أحضر ما في ذاتي
فغيبني
وكنت الذات من دون ذات
سواي يكون.. وسواي لا يكون " ص: 58
" وكان هو.. هو
وكنت أنا.. أنا
ولم يكن الا أنا
ولم أك الا هو " ص: 60
" لكنني تحركت كرسيا.. وهو
ربما يمسك العصا.. ان كانت عصا " ص: 63-64
" الفراغ.. حوت
الحوت كرسي..
وزير...
أب......
أم.......
زوجة..
خليلة...
خادم... " ص: 65
" أنا.. الله
حين يموت " ص: 74
عالم توراتي بلغة صوفية، رؤيا غرائبية تمتزج فيها الاسطورة بالواقع المتخيل، سفر تكويني لخلق شعري يسعى لإعادة انتاج اسطورة دينية بشكل مختلف تحتويه قصيدة نثر معاصرة تفتح نافذة جديدة لها لتبث الحيوية في أوصالها المتراخية، عبر لغة تحتفي بالسرد أداة لصياغة المشهد الشعري النابض بصور حيوية تصدم التلقي التقليدي وتزجه في متاهة تراكيبها ودوامة دلالاتها...