عبد الله كرمون من باريس: أجدها رائعة صور الفنانة الفوتوغرافية المخضرمة بين فرنسا وأمريكا كيفين كليينغ المعلقة على إفريز حديقة اللوكسومبورغ العريقة بباريس. الجدار الحديدي الذي يرقب جادة السان ميشال وينظر في الجهة الأخرى إلى زقاق إدموند روستون صاحب سيرانو دي بيرجيراك وزقاق ماري ميديسيس التي أنشأت هذه الحديقة نفسها منذ القرن السابع عشرة. كيفين كليينغ تعتبر عضوا لدى quot;الجمعية الجغرافية الملكيةquot; في لندن و في quot;جمعية النساء الجغرافياتquot; بالولايات المتحدة الأمريكية. لقد سبق لها أن نشرت سبع كتب صور فوتوغرافية منها quot;التيبت: أرض السماءquot; سنة 1984 طبعة شيين. و quot;طفولات بعيدةquot; سنة 2001 لدى أوزان. وquot;أرض الطفولةquot; طبعة لمغرتينيير هذا العام نفسه. وقد عرضت صورها في متاحف كثيرة سواء بلندن، باريس. نيويورك، لوزان وغيرها.
الصور التي تحمل عنوان: quot;أطفال العالمquot; والمعروضة على سور حديقة اللوكسومبورغ جاءت من فكرة أن لابد لهذا العالم أن يعقد علاقات أجمل وأفضل مما هي عليه اليوم. الغد إذن هو ملك أطفال اليوم. تحقيق السلام والفهم العميق لمرور الإنسان على الأرض معلق اليوم على من سوف يحققه أو لن يحققه غدا. تلك هي نوعا الفكرة الرازحة تحت هبوب الفنانة إلى أصقاع الأرض كي تلتقط صور أطفالها.
الصور في نظري جميلة بغض النظر عن صيد ما في ماء عكر وإن كان ماء الطفولة الشفاف. قبل الصور كانت الرحلة في البدء. غير أن الطريق لم توصل إلى أقاصي الأرض، بل مضت أكثر إلى نواحي أسيا دون مناطق أخرى هي أيضا أجزاء مهمة من الأرض، لكننا لا يمكن أن نحل فلسفيا في مكانين في نفس الآن!
حاولت كيفين أن تتخذ لها وعيا انثربولوجيا بدائيا إذ سعت في أغلب الصور التي التقطتها أن تفضي، لربما أيضا بحدس ما، لأن تجعل تلك الطفولة، بكثير من تلاوينها واهتماماتها وأيضا بإكراهاتها، أن تعلق بآلة تصويرها وتمنح لنا صورا خالدة لواقع أطفال العالم.
الخريف نفسه فرش أوراقا نزعها غصبا من أشجار المكان على ممر اللوكسومبورغ الخارجي. كثير من المارة يقفون دون سبق موعد كي يرفعوا أعينهم إلى الصور المعلقة ويخففون بعد ذلك من وقع خطوهم كي يرون تلك الصور. أما الفوتوغرافية فتوقع في الأيام الأولى كتب صورها في المقهى المقابل.
الطفولة إذن هي الزمن الذي يدفع بنا إلى ما نكونه بالفعل بعد ذلك، دون أن أعني أبدا طروحات التحليل النفسي. ليس يخفى على مشاهد صور كيفين ما تمنح تلك الطفولة المستلقية على ورق التصوير من إيحاء الأصل والمناخ وتضاريس البلد والملبس بل المأكل وانشغالات مفروضة من عمل وغيرها من بلد لآخر. في الغالب يتعلق الأمر بصور من أسيا ؛ الصين والهند وغيرها وبعض صور الحبشة وصورة يتيمة من مصر (قبلة الجمل)، دون أن يكون العالم مقتصرا على تلك الأمكنة وحدها.
لقد تمكنت الفنانة أن تقتحم هؤلاء الناس في تلك الأمكنة المختلفة من العالم كي تتعرف إلى لحظات حية من حياة أطفالها. كيف أن الأطفال لا توضع لهن في الصين تلك الحفّاظات. كيف أنها التقطت كذلك صورة رائعة لتوأمين في قماط مشترك كما يحدث لأطفال آخرين في العالم في ظروف مناخية غير شديدة مثل ما يعرفه الإسكيمو.
الطفل الذي أضاع والده في السوق واستسلم لدمعات ذات معنى صورة هامة، إذ ليس يسلم أحد منا أن يضيع يوما في مكان ما سواء في الصغر أو بعد ذلك ويبكي إذ يرسل دمعا أو فقط ضياعا من نوع ما وبكاء آخر.
أولائك الأطفال الذين نرى في الصورة يتسلقون دوحا عاليا ليس فقط لأنهم يلعبون، وتكون نشوتهم التامة أن يعلون الشجر، ولكن لأن من يعلو أكثر من الآخرين يؤكد سمو تفوقه وقدرته الكبيرة على التحدي.
صور أخرى تثير انخراط الأطفال في مناطق كثيرة من العالم في العمل منذ الصغر في الوقت الذي يتمتع فيه أقرانهم بنصيبهم من لعب واستفادة من فرصة عمرهم الغض في مداراة الحياة. تلك الفتاة التي تقود إلى البيت ذلك الحيوان الذي يكبرها قامة قبل مغيب الشمس. أو ذلك الطفل الأسيوي الذي يقضي قيلولة عميقة على حصير ورأسه قد أخطأت لدى النوم تلك الوسادة البسيطة واسترسل النوم هادئا بعد ذلك بدونها.
ثمة تفاصيل كثيرة نجدها في صور كيفين كتلك الفتاة التي تنظر في المرآة على صغر سنها وكأن أمر زينتها أساسي ولازم النهوض به منذ السنوات الأولى كي تستقيم أمور الأنوثة بعد ذلك على ما يرام.
دون أن أعلق على كل الصور، أجد أن براءة ذلك العمر الغض قد أثارتها صور كيفين، إذ أقحمت صورة لطفل باريسي في حديقة اللوكسومبورغ إضافة إلى صورة فتاة فرنسية أخرى في نفس المكان.
الفنانة تريد أن ترى أطفال العالم يلعبون مثلما يلعب أطفال باريس في فضاء حديقة اللوكسومبورغ، بمعنى أن تتحقق شروط أخرى أفضل لبلدان ليست تفتح فيها عيون الأطفال سوى على بؤس حاد وانسداد آفاق. العالم اليوم يصل، ويشهد أطفاله غدا حقيقة ذلك، كارثة ظلم متوحش بلا نظير!!