ذهان سردي لمواجهة الشقاءالعادي

رواية quot;عرائس الصوفquot; للكويتية ميس خالد العثمان

أولاً: في البدء كان الشقاء!

مدخل عام:
quot;أن يكون العالم غير ما هو، والناس غير ما هم، قلت لكِ: ليس عندي أفكار، ولكن عندي أحلام مستحيلةquot;، هذه العبارة ترد في قصّة كتبها الروائي quot;بهاء طاهرquot; وتحمل عنوان quot;بالأمس حلمت بكquot;، ففي أحد حوارات الراوي ولقاءاته مع quot;آن ماريquot; تقول له الفتاة: quot;قل لي أرجوك ماذا تريد؟quot;. وquot;بهاء طاهرquot; هو كاتب رواية quot;خالتي صفيّة والدّيرquot;، تلك الرواية التي تُرجمت لكثير من لغات العالم، وفازت بجائزة إيطالية. ولكن بعيدا عن هذه المنزلة الأدبية التي حققتها الرواية، لازلتُ أتذكّر الانطباع الذي غادرت به عالم صفية والدّير. ربما كان شعورا يشبه الأسف على إنسان شرقي لا يمتلك إلا أن يتجرّع شقاءه المؤلم جدّا والعادي جدّا من خلال آليات دفاع تدميرية رهيبة تفوق حدّ الاحتمال.
منذورون نحن للشقاء، ولمواجهة شقائنا نقترف المزيد من الممارسات المفضية إليه، وهكذا تتوارث الأجيال شقاءها العادي، فهو ليس عاديا لأننا نستطيع احتماله، ولكنه برغم قسوته الشديدة يتكرر حتى جعلنا نتلذذ بحدوثه، ونجلد أنفسنا ومن نحبّ حتى لا نعود نشعر بالألم، ونصير جزءا من منظومة تنتج الشقاء وتستهلكه كأمر مسلّم به، بل لا بد من حدوثه ليكتمل شعورنا بالانتماء لهذا الشرق التعس.
في رواية بهاء طاهر quot;خالتي صفيّة والدّيرquot; يولد الحلم المستحيل على هيئة حبّ، ولأن الناس في شرقنا ليسوا أكثر من مجرد شرقيين لا يكونون أبدا quot;غير ما همquot; فإن الحب يموت على سطح الحدث العام للرواية، بينما يزداد غليانا في قلب صفيّة الوادعة، ويتحوّل مع الزمن إلى رغبة جامحة في الانتقام ممن أحبّت ومن نفسها، ويرى جميع من يشارك quot;صفيّةquot; فضاءها المكاني رغبتها المشروعة في الانتقام لمقتل زوجها، لكنهم لا يدركون الدّافع الحقيقي الذي جعل انتقامها أكبر من أن يستوعبه الآخرون لأنه فاق أي انتقام مماثل في مثل تلك الحالة / quot;الثأرquot;، وبلغ من السوء حدّ أن يكون أسوأ من أن يدرك أبعاده أحدهم لأنها كانت تعاقب نفسها حين لم تتقدّم خطوة تجاه صنع عالمها الخاص، كما أنها تنتقم من حبيبها لأنه لم يبادر لفعل شيء في سبيل هذا الحب. فكان أن خرجت الرواية بتلك الهيئة الموغلة في سبر النفس الإنسانية وقراءتها بعمق يبعث على الدّهشة.
تذكرتُ كل هذا وأنا أغادر الصفحة الأخيرة من رواية: quot;عرائس الصوفquot; للكويتية ميس خالد العثمان، فهذه الرواية الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنّشر هي الرواية الثانية للمؤلّفة بعد روايتها الأولى quot;غرفة السماءquot;، وبعد رصيد لا بأس به من القصص القصيرة المنشورة على مجموعتين قصصيتين بعنوان quot;عبثquot; وquot;أشياؤها الصغيرةquot;.
فالرواية سرد يبعث على الدّهشة، إذ لم تكن طويلة فتترهل، كما أنها خالية من أي سرود جانبية لا تدعم البنية الأساسية للحدث، وهي من خلال قرابة المائة صفحة ترسم عوالمها بدقة وبفضاء دلالي يعرف ماذا يريد، وعن أي إنسان يتحدّث،. فجاءت على شكل وثيقة أخرى تقصّ علينا جزءا من يوميات الشقاء والبؤس لفتاة أخلصتْ لبؤسها حدّ أن وضعت الآليات المناسبة لتجرّعه والاستمتاع به، والاكتمال ndash;مع نهاية الرواية- من خلاله.

الحدث:
فتاتان إحداهما تسمّى quot;دليلةquot; والأخرى تُسمّى quot;مروانةquot;. دليلة ابنة quot;عوجةquot; الصانعة التي تزوجها quot;حابسquot; والد مروانة بعد أن توفي زوجها وهي حامل بدليلة، فكانت بديلا مناسبا لتربية ابنته quot;مروانةquot; بعد أن فقدت أمّها أثناء الولادة. وquot;حابسquot; أخ لكبير وجهاء quot;النّزلةquot;، لكنه قصي بعيد، يسافر في رحلات غير مفهومة، وتبقى ابنته في مواجهة عجزها عن فهم معنى سفره أو حتى سبب القطيعة التي بين منزلهم وبين quot;البيت الكبيرquot; المقابل لهم، وفي quot;البيت الكبيرquot; تسكن الشيخة quot;غزوىquot; وابنها quot;نَذرquot; الذي رُزقت به بعد عدد من الفتيات كنّ سيجعلن من أمهن quot;غزوىquot; حاملة للقب مطلّقة الشيخ quot;مصيوبquot; لولا أن تمت ولادة نذر لتنقذها من غضب quot;مصيوبquot; شيخ العشيرة الذي يبحث عن ولد quot;ليكمل مشيخته فلا تعيبه الأعرابquot; (ص17).
هذه هي اللبنة الأساسية للحدث الرئيس في الرواية، ومن خلال تتابع السّرد ستتكشف لنا الكثير من الفخاخ التي تعيد ترتيب الأحداث وفهمها، ثم تستمر الرواية بعد العرض المُختزل في بدايتها في سرد الوقائع حتى تنتهي بحقيقة أن العمل يتلمّس كشف الثنائيات التي صبغت أبطال الرواية بصبغتها فأدت إلى ولادة هذا الذهان السردي الممتع.

الأبعاد الدّلالية:
تعتمد الرواية على لغة شعرية تساعد في خلق فضاء دلالي يغري بالنبش فيما وراء اللغة المكتوبة، فالعناوين ndash;بدءا من العنوان الرئيس ومرورا بالعناوين الفرعية- إضافة إلى أسماء الشخصيات وكذلك أسلوب سرد الوقائع بطريقة مُختزلة، كل هذا يؤدي إلى حالة إرجاء لفقه الدلالة بمجرد قراءة مباشرة. فمن العسير أن يحيط ناقد بمضامين الرواية ودلالاتها في قراءة نقدية عابرة، ولكنني سأحاول فيما يلي رسم صورة عامّة عن الأفق الدلالي الذي يتوالد على طول النّص، دون أن يكون هذا الرسم quot;العامquot; هو الفضاء النهائي للقراءة ، فلا يزال هناك الكثير مما يمكن قوله عند القراءة وإعادة القراءة للرواية.

الوقائع/ توليد دوال الشقاء:
quot;دليلةquot; ابنة الصانعة تصغر quot;مروانةquot; بشهرين، لكنها مكتملة كما تروي لنا quot;مروانةquot; التي تتكفل برواية الأحداث منذ البدء وحتى الخاتمة، واكتمال quot;دليلةquot; يعود بالدرجة الأولى إلى شعور رفيقتها quot;الساردة للأحداث/ مروانةquot; بالنّقص. فهي ndash;أي مروانة- يتيمة الأم، إضافة إلى وجود إعاقة خَلقية لديها كونها ولدت quot;عرجاءquot;، ويزيد من وطأة كل هذا البؤس غياب الأب لفترات طويلة ولأسباب لا تدركها، إضافة إلى ظهور دلائل الأنوثة المبكّرة على جسد quot;دليلةquot; قبل أن تلمح quot;مروانةquot; أي أثر لأنوثة تتفتّح على جسدها، رغم بحثها في المرايا عن أي علامة تشفع لها بمجاراة رفيقتها التي تصغرها بشهرين.
ولأن مروانة تشعر بوطأة هذا النّقص ndash;دون أن تدرك أسبابه- فإنها تصوّر مدى حبها لأختها من الرضاع ورفيقتها، ومع مرور الأحداث ومع تقدّم السرد سنكتشف أنها بدأت تتلبس فكرة مناقضة للواقع تفيد أن دليلة أكبر منها سنّا.
وعلى الرغم من القطيعة الظاهرة والمجلّلة بالأسرار بين بيت quot;حابسquot; وبين quot;البيت الكبيرquot; الذي يعود لأخيه quot;مصيوبquot; كبير وجهاء النّزلة إلا أن نذر يتزوج من ابنة quot;الصانعة عوجةquot;، بعد أن تسرد مروانة لنا كيف أن نذر كان يشاغبها ورفيقتها بإشارات لم تكن تدرك مغزاها، وترى أن هذا هو سبب اختياره لابنة الصانعة: quot;يومها، سحبتني quot;دليلةquot; من يدي، نزلنا من تعلقنا بالسياج، ومجتهدة شَرَحَتْ لي إشارات quot;نذرquot; تلك التي استقبلتها أنا بفتور وَجِلْ، بينما بدت لي quot;دليلةquot; أكبر مني سنّا وخبرة، وأكثر ذكاء لذا تقدّم quot;نذرquot; لخطبتها!quot; (ص13).
إذن، لم يكن عرجها ويتمها والغياب الطويل لأبيها في كل مرّة ولا علامات الأنوثة التي لا تجيء بذات السخاء الحادث مع رفيقتها، كل هذا لم يكن وحده ما ينسج شقاء quot;مروانةquot;، بل إن ابن عمها يتقدّم للزواج من ابنة الصانعة بمباركة من أمه الشيخة غزوى، وهذا سيؤدي إلى شقاء آخر يترتب على شقاء أن يهملها شاب quot;مكتملquot; ألا وهو شقاء فقدها لرفيقتها بانتقالها إلى البيت الكبير، فتبقى مروانة وسطّ هذه الّلجة المتسلسلة الشقاء وحيدة أمام quot;عرائس الصوفquot;!.

التحولات:
سنعلم أننا أمام حالة إنسانية غاية في الشقاء حين نبلغ الصفحة الأخيرة من الرواية: quot;بعد غدٍ سيأتي أبي. بنصف رجلٍ وامرأةٍ كاملةٍ وطفل، سنقول له الكثيرquot; (ص106). فمن هي هذه المرأة الكاملة؟. من قرأ الرواية يعلم أنها quot;مروانةquot; التي وقعت تحت وطأة الشعور بالنّقص إلى درجة أنها لم تكن شيئا موجودا أصلا: quot;كنت اعتدت فعل ما تسبقني إليه quot;دليلةquot;، رغم أني أكبرها بشهرين!quot; (ص23)، أما quot;نصف الرّجلquot; الذي يقف معها في نهاية الرواية فليس سوى quot;نذرquot; المكتمل في بداية السرد: quot;ذات صيف، ومن شباكهم الواسع الأبرز، طاردتنا نظراته، quot;نذرquot; ابن عمي quot;مصيوبquot;، شابٌ، غنيٌ، يكبرنا بعشرة أعوام. تشتهيه كلّ بنات quot;النزلةquot;، تجمدنا بعد أن غمز لنا نصف غمزة! واحترنا لحظتها: quot;لمن أرسلها؟quot; وبرغم تلك الحيرة وسذاجتنا سعدنا بها.quot; (ص10).
إن ما يزيد يقيني أن هذا العمل كُتب بعناية هو كم المؤشرات التي تتوزع على طول النّص لتبين لنا أي سرّ يقود هذا التحول الكبير؟ وكيف جعلت الروائية من عملها حكاية لامرأة مصابة بالذهان تسرد علينا طريقتها في ابتداع عالمها الخاص؟، ومن هذه المؤشرات نجد مؤشرَين بارزين هما:
1)quot;مروانةquot; ليست سوى مجموعة من الآلام المتكرّرة، وهذه الآلام ليس لها يد في وجودها، كما أنها لا تدري ما سببها.
2)أنها كانت تعالج هذه الآلام بتشبثها برفيقتها دليلة، فهي quot;مكتملةquot; النمو منذ الولادة، إضافة إلى أنوثتها المبكرة التي أعطتها الحق في فقه ما يدور حولها، فأسلمت مروانة قيادها لها على المستويين المادي: quot;حتى عرائس quot;دليلةquot; كانت أجملquot; (ص47)، والنفسي: quot;دغدغ النور أجفاننا quot;دليلةquot; وأناquot; (ص12).
إنها تؤمن أن رفيقتها سبقتها في النمو بجسد مكتمل، وبأنوثة مكتملة، وبأم، وبإتقان في صناعة عرائس الصّوف، وبفهم لإشارة quot;نذرquot; المشتركة لها ولدليلة، وفهم هذه الإشارة أدى إلى أن يتزوجها quot;نذرquot; ndash;كما تبرر هي- رغم أنها ابنة الصانعة، تاركا ابنة عمّه لشقاءاتها الكثيرة، لهذا كان كل ما تفعله دليلة يبدو أجمل، وكل شيء مشترك تبدأ بنسبته إلى quot;دليلةquot; ثم تردفه بضمير quot;أناquot; الدال عليها.
إنها حكاية امرأة في الأخير من كل شيء، حتى في الحديث عن ترتيبها وسط آخرين:quot;دليلة وعوجة وأنا وحزنٌ شفيفquot; (ص27)، فالحظ والولادة المشوهة واليتم وسفر الأب وتأخر دلائل الأنوثة وزواج ابن عمها quot;نذرquot; ابن الشيخ quot;مصيوبquot; ممن هي أقل منها مكانة اجتماعية في سلّم القبيلة جعلها لا تدرك شيئا مما يدور حولها، وأدخلها من بوابة الذهان النفسي كي تبدأ في ترتيب هذا العالم القاسي جدّا دون مبررات واضحة تبرر هذه القسوة لفتاة تعتقد أن مجرد فهم رفيقتها لإشارة quot;نذرquot; جعله يتزوجها!: quot;اختار quot;دليلةquot; السمراء المتفتقة أنوثة، الأكثر إغراء وجرأة، ولازلت أتذكر كم تناثر من همس حول زواجهما، أشياء كثيرة تشبه: quot;اصطادته عوجة لابنتها السوداءquot;! quot;ظلت تحوم حوله حتى أوقعته، بتعاويذها وسحرها، وإلا لِمَ ترك ابنة عمه البيضاء بأصلها الطيبquot;؟!. متناسين أنني أحمل رجلاً ضامرةً ودون معنى.quot; (ص13).

مزيدا من الشقاء:
ما سبق سرده ليس كل شيء في أحداث الرواية، فـ quot;مروانةquot; المصدومة: quot;بنفس صدمتي استقبلت quot;النزلةquot; في quot;جبل الكومquot; خبر خطبتهماquot; (ص13)، و بعد ليلة زواج quot;نذرquot; من quot;دليلة، تستيقظ صباح اليوم التالي، وتطلّ من السياج الذي شهد ذات صيف quot;نصفquot; غمزة أوقعت بفتاتين: quot;عاودني شوق طازج لتسلق سياج السطح، وكان بيت quot;دليلةquot; يقف شامخاً قبالتي وصرت أتطلع لذلك الشباك الواسع بنصف ابتسامة، حتى ظهر لي فجأة!. لا أدري إن كانت ابتسامتي قد استطالت أم تلاشت إثر الصدمة، لكن لحظتها ظهر لي بإشارة من يده يلفت انتباهي. سخونة غريبة شحنتني وتساءلت: لِمَ ترك عروسَهُ وعاود وقوفه في الشباك الكبير!.quot; (ص15).
ثم كان لها أن تتفوق على هذا الشقاء وأن تتجاوزه بأن تقرر أن تحب quot;نذرquot;، فتبادره بجملة أولى في لقاء يجمعها به خلسة: quot;جذبني بعيدا عن الأعين. كنا لصق بيتهم الكبير.. نطقت لمرة أولى: سأحبك بقوّة، وسيغدو حبنا مشكلة لا مثيل لهاquot;. (ص20).
فينتج عن هذا الحب طفل تسلمه quot;مروانةquot; لرفيقتها quot;دليلةquot; التي لا يقترب منها quot;نذرquot; ورغم هذا تطالبها الشيخة quot;غزوىquot; بإنجاب ولد، فقد تواطأ الجميع quot;نذرquot; وquot;دليلةquot; وquot;مروانةquot; على نسج هذه القصة باتفاق غير معلن، إذ تهرع quot;مروانةquot; لرفيقتها كي تساعدها في هذه المشكلة / الفضيحة، وتقص لها عن والد هذا الطفل اللقيط ما يطفئ لهفة quot;دليلةquot; لمعرفة حبيب quot;مروانةquot; ووالد طفلها القادم الذي تقنع quot;نذرquot; بضرورة تبنيه لإسكات أمه غزوى، ولنكتشف في النهاية أن quot;دليلةquot; كانت على علم بأن نذر هو والد الطفل، ولكنها نسجت ذهانها الخاص هي أيضا ndash;أي دليلة- كي تتوافق مع مجتمعها الذي يطالبها بما لا قدره لها على تحقيقه، وحين تصاب بنزيف توصي quot;مروانةquot; بالزواج من quot;نذرquot; لرعاية طفلها / طفل مروانة.

إعادة قراءة في الدال العام:
إن الضغوط الكثيرة التي تجاوزت حدّ أن تستوعبها فتاة يتيمة معاقة ومنبوذة من بيت عمها quot;البيت الكبيرquot; نتيجة هروب خالتها في ظل ما تردد عن هذا الهروب الفاضح، كما تجاوز حدّ أن تفهم مبررات هذه الضغوط كانت سببا في وقوعها داخل دائرة ذهانية، فخلقت عالمها الخاص بوعي كي تهرب إليه: quot;كنت ألوح بداخلي هامسة باسمِهِ، قلقة على لاشيء ربما على حبنا الذي سيكون.quot; (ص18)، quot;سأحبّك بقوّةquot;. (ص20).
فليس هذا حبّا كائنا، ولكنه سيكون بإرادة واعية، للحاق برفيقة هي كل ما تعنيه quot;مروانةquot;، فبذهاب quot;دليلةquot; إلى البيت الكبير لم تعد مروانة موجودة، تلاشت: quot;ربما كنت أطمح لأن أظلّ دوماً متعلقة بنسخة منّي لـ تشاركني الحياةquot;. (ص102)، فـ quot;نذرquot; ليس أكثر من نصف رجل لا يستحق العناء: quot;أنصاف الرجال يكونون عادة أكثر طلاقة / تعبيرا عن رغباتهم تجاه الغير من الرجال الكاملينquot; (ص103)، quot;بنصف رجلٍ وامرأةٍ كاملة وطفل، سنقول له الكثيرquot;. (ص106).

ثانيا: شيزوفرينيا الساردة / مروانة

لمحة عامة عن الذهان:
الفِصَام أو الذهان أو الشيزوفرينيا هو quot; مرض مزمن يتميز باضطراب التفكير ( كأن يعتقد المريض أن الناس ضده ويتآمرون عليه) ونشوء الضلالات والهلاوس وينتج عن ذلك اضطرابات سلوكية وانفعالية ويبدو المريض وكأنه يعيش في عالم خاص بهquot; (أبا حسين، د.إيمان: طبيبة نفسية، مستشفى الملك خالد الجامعي. نقلا عن موقع: quot;اضطرابات النومquot; على الشبكة العنكبوتية، موضوع: quot;النوم والاضطرابات النفسيةquot;). وتكمن أعراضه في مجموعة متآزرة من السلوكيات، مثل: quot;وجود تصرفات غير عادية أو خارجه عن المألوف البشري مثل الهلاوس السمعية ، البصرية أو الحسية والتي تجعل الشخص المصاب يستقبل أصواتا ، رؤى أو أحاسيس غير موجودة فعلياً. وكذلك اعتقاد الشخص المصاب اعتقادا جازماً بفكرة خاطئة ، غير مألوفة غالباً ، والتعامل معها على أساس إنها حقيقة واقعة ، وهي ما تسمى quot;بالضلالاتquot;، وفقدان أو غياب التصرفات العادية المتوقعة لظروف معينة، مثل ضعف أو تبلد الإحساس ، الانعزال العاطفي والاجتماعي ، وفقدان الاهتمام بالأنشطة والهوايات المحُببة ، عدم القدرة على الفرح بالرغم من وجود عوامله.quot; (دغش، د.هديل: صيدلانية، مشرفة الخدمات الصيدلية الاكلينكية، نقلا عن موقع: quot;مجمع الأمل للصحة النفسية بالرياض quot; على الشبكة العنكبوتية، موضوع: quot; الفِصَامْ / الذُهان والعلاجات المتاحة لهquot;).
ويكون هذا المرض نتيجة لعدة أسباب من أهمها: quot;الضغوط المترسبة الأكثر حيوية في طبيعتها (مثال على ذلك: استعمال عقاقير تسبب الهلاوس) أو اجتماعية (مثل موت أحد الأقرباء). وتؤثر هذه العوامل مع عوامل وضغوط أخري علي مسار ومآل المرض. (موقع quot;شيزوفرينيا quot;على الشبكة العنكبوتية، موضوع: quot; أسباب الفصامquot;) فهو نتاج لعدة عوامل أهمها الضغوط الاجتماعية.

الضغوط التي وقعت عليها:
هي من يقصّ لنا الأحداث من وجهة نظرها، وهي صاحبة النصيب الأكبر من الشقاء:
1)ولدتْ عرجاء: quot;أحمل رجلاً ضامرةً ودون معنىquot; (ص13).
2)محاصرة بنظرات الشفقة: quot;لكن كان لا بد من أن أمارس حقي كامرأة كاملة رغم النقص والنظرات المشفقةquot; (ص34).
3)يتيمة الأم: quot;ماتت أمي مع صرختي الأولى، ووِلدت دليلة يتيمة هي الأخرى بعدي بشهرينquot; (ص9).
4)تتأخر دلائل الأنوثة في الظهور على جسدها مقارنة برفيقتها التي تصغرها بشهرين: quot;أثمر جسدها سريعا، فصارت مفاتن الأنوثة تعلن عن نفسها بحيث جعلت الرجال يفوحون رغبة. حتى أن سمرتها باتت مثيرة أكثر من بياضي الكالح، ربما!quot; (ص9)، quot;اختار quot;دليلةquot; السمراء المتفتقة أنوثة، الأكثر إغراء وجرأةquot; (ص13).
5)منبوذة من قِبل ساكني البيت الكبير: quot;كانت عينا عوجة تبرقان رغم ظلمة السطح، يداها تعبثان بشعري بحنان بالغ، حينما أطلقت سؤالي: لمَ لا نزور بيت عميquot; (ص11)، quot;كم من الشكوك حطّت على بيتنا لنكون ولسنوات بعيدين عن بيت عمي، كبير وجهاء النزلة، وكم من الحكايات لفّقت ضدنا لنعيش ملثمين خوف افتضاح ذلك السّر؟quot; (ص96).
6)لديها شعور كبير بالنّقص، فحين تقارن بينها وبين دليلة في أول صفحات الرواية تشرع في عدّ مظاهر تميز رفيقتها مقارنة بتأخرها هي: quot;سمرتها باتت مثيرة أكثر من بياضي الكالحquot; (ص9)، quot;فيما بقيتُ أنا أبحث عن أنوثتي المتأخرة في المرايا، فما عثرت إلا على ضمورٍ هادئ، وشباب خجلٍ طال انتظاره.. فقد سبقتني هيquot; (ص9)، وهي التالية في السرد بعد من يشاركها الحدث نفسه: quot;تصافحت أعيننا دليلة وأناquot; (ص35)، quot;ذهبت للبئر/ بئرنا، دليلة وهو وأنا!quot; (ص28)، quot;دليلة وعوجة وأنا وحزن شفيفquot; (ص27)، quot;كل ذلك ما كان يعنينا، هو وأنا!quot; (ص31)، quot;فضيحتي التي لا يعلم بها سوانا دليلة وأنا ثم نذر!quot; (ص43)، quot;أغمضت عيني على خجلي منه/ مني!quot; (ص48)، quot;حاولت استعادة صورنا من هناك، دليلة وأناquot; (ص60)، كما أن هذا الشعور يتفاقم إلى درجة أن تشعر أنها مجرّد ذبابة quot;تهشهاquot; الشيخة غزوى: quot;أغلقت الباب بوجهي، بعد أن عضّت شفتها السفلى ردا على التصاقي بالباب، بنظرة آمرة هشّتني بعيدا عنهاquot; (ص24).
7)الشعور بالاستلاب الذي كان يثقل على كاهلها بوطأته، فبعد زواج quot;دليلةquot; غير المفهوم من quot;نذرquot; تفقد أهم وسائل دعمها لمواجهة بؤسها: quot;كنت اعتدت فعل ما تسبقني إليه دليلة، رغم أني أكبرها بشهرين!quot; (ص23)، quot;بكل مرّة أشعر ضياعا بشكل ما، ما كان سواها لينتشلني منهquot; (ص48)، فهي منذ الطفولة تدفع عنها بنات النزلة الساخرات من إعاقتها: quot;لن نحتاج لهن كي نمرح، سنكون لبعضنا..quot; (ص47). ثم إنها تعبّر عن وطأة هذا الاستلاب بعبارة كانت ترددها رفيقتها أيام طفولتها وهي تشرب من كأسها: quot;لا تشربي من أثري، ولا تتبعينيquot; (ص104)، وهذه الرفيقة ما كانت سوى نافذة مروانة الوحيدة على العالم: quot;تعلقتُ بها كثيراً.. كانت نافذتي الوحيدة التي أطللت منها على الحياة، كانت أكثر جرأة مني ربما لأن أمها ربتنا سوياquot; (ص9).
8)رحيل أبيها الدائم وغير المفهوم: quot; رحلات أبي quot;حابسquot; حدث غير واضح المعالم، غير مسموح لأيا كان تجاوز الحدود والتلميح حتى لمعرفة أكثر مما كان يتاح!quot; (ص20)، quot;عبرت الليالي وحيدة، غريبة كنت حتى عن أبيquot; (ص31).
9)شعورها بأحقيتها quot;هيquot; في الزواج من ابن عمها نذر، ولكن ما حدث كان مجرد شقاء آخر يضاف لسلسلة الشقاء المتتابعة منذ ولادتها: quot;أنا اليتيمة، أفاجأ بأن هناك على الضفة الأخرى من الحي، إنسان يحمل دمي يعشقني حد التّهور، ومع ذلك تزوّج بأخرى!quot; (ص29).
وهناك الكثير من الضغوط التي تدفع quot;مروانةquot; لدخول quot;ذهانquot; يعيد ترتيب الحقيقة، وهو العبث الذي عناه quot;سهرابquot; حارس المزرعة بجملة دالّة وجهها لبطلة السرد: quot;quot;أحيانا، نحتاج لعبث يعيد ترتيب الحقيقة من حولناquot; (ص52).

مظاهر الذهان:
quot;فات من عمرك أكثر من اثنتين وعشرين عاما، فعن أي سرّ تتحدثينquot; (ص90)، هذا ما يرد على لسان quot;دليلةquot; في حوار مع رفيقتها مروانة، لنتبين أنها في عمر مناسب للدخول في ذهانها الخاص: quot;عمر الإصابة يكون بين عمر 15 عاماً و 35 عاماً أي أن فترة العشرينيات هي فترة قمة الإصابة بالمرضquot;. (العتيبي، د.نواف: طبيب العيادة النفسية الأولية بالدمام، نقلا عن موقع: quot;طبيبك quot; على الشبكة العنكبوتية، موضوع: quot;الفصام العقلي/ الشيزوفرينياquot;). ومن أهم الدلالات على وجوده لدى بطلة الرواية ما يلي:
1)العزلة: quot;انسحبتُ من العرس بهدوء المغفلةquot; (ص14)، quot;صعدتُ إلى سطحنا.. أردتُ أن أكون معيquot; (ص36).
2)الهلاوس: ومن أهم مظاهرها سماع أصوات ليست موجودة إلا في تصوّر quot;مروانةquot;: quot;مثل طفلةٍ تاهت في زحامٍ ما، كنت أنوح.. ووصلني هاتفٌ من بعيد: ليس عارَكِ وحدَك!quot; (ص57)، quot;غفوت على تخيلاتيquot; (ص39)، quot;كان الماء عنيفا، يضرب قاعدة هيكل السّد بيننا، وأصرخ بصوت مشروخ:
- لماذا!
ويأتيني الجواب من شيخ بلحية بيضاء ناصعة:
- لأنكِ معلقة بقطرة ماء بوسع هذا الكونquot; (ص103).
3) نشوء الضلالات: فـ quot;سهرابquot; حارس المزرعة ليس أكثر من حقل من الحكمة تراه يحضر ويغيب متى ما أرادت أن تضع المبررات لخطيئتها: quot;كلماته خرجت واثقة، واختفى خياله من الشباك المطلّ على ضيق غرفتي، انسلّ بهدوء يشبه حضورهquot; (ص49)، quot;بادرني دون أن أكون مستعدة:
-quot;ما الذي يؤلمك؟quot;
-quot;هذا العبث الذي صرت أعيشه رغما عنّي!quot;
-quot;أحيانا، نحتاج لعبث يعيد ترتيب الحقيقة من حولناquot;
أغمضت عيني على وجع ضاعفه ردّه، وزفرت:
-quot;هذا التصور يملأ مخيلة المخبولين فقطquot;!
أضاف بثقة:
-quot;والأنبياءquot;. (ص52).
وهناك من الضلالات ما يتعلق بتصور أن دليلة أكبر منها سنا: quot;شعرتها تجاوزتني عمراquot; (ص14).
3)فقدان الاهتمام بالأنشطة والهوايات المحُببة: quot;صرت أرفض الإقدام على ممارسة ذاك العبث الطفولي وحيدةquot; (ص16).
4)الرؤى: وهي امتداد للهلاوس، حيث لا يرد التأكيد على بعضها بأنها قد حدثت أثناء النوم: quot;وددت لو أحكي له عن رؤياي، عن تلك المرأة السمينة السوداء العارية التي زارتنا لتطهو تلك الوليمة التي دعانا إليها الشيخ quot;مصيوبquot; دون سبب!quot; (ص80)، quot;كم كانت تزورني في أحلامي/ كوابيسي حينما تحاصرني الحمى، أرى quot;غزوىquot; تنتفخ أكثر، تظل تكبر وتكبر حتى تطير مثل بالون معلّق بخيط مشدود بإصبعي الصغير، أرتعبُ صائحةً: لا! غزوى ستنفجر!quot; (ص98).
5)صناعة عالم خاص: فقد قرّرت quot;مروانةquot; ما ستقوم بفعله quot;كنت ألوح بداخلي هامسة باسمِهِ، قلقة على لاشيء ربما على حبنا الذي سيكون.quot; (ص18)، quot;سأحبّك بقوّةquot;. (ص20). وهذا ما تبرره بضرورة أن تمارس حقها ولو كان ما ستقوم به اختراقا سلوكيا لأعراف القبيلة، أو حتى مؤذيا لأختها: quot;لكن كان لا بد من أن أمارس حقي كامرأة كاملة رغم النقص والنظرات المشفقةquot; (ص34)، إنها تريد أن تحيا حلمها الخاص كي لا يهلكها الصحو: quot;وكنت كلما غادرني/غادرتُ الحلم، أهلكني الصحو.quot; (ص58).
6)سطحية الشعور، وأعني به ضعف أو تبلد الإحساس: ومن شواهده الكثيرة: quot;لاشيء يبشر بفرح ولا ينذر بسوء.. كما لا شيء يتغير بوجه الشيخة غزوىquot; (ص24)، quot;ذاك المساء حزين.. البرودة والخيبة تلتصقان بي وذاك الشرود الأبله!quot; (ص51)، quot;كان حبي له خيانة لأختي. ولم يكن طعم الخيانة مرّاً كما يُشاع، بل كان لها طعم الإثارة والغموض. وكنت كلّما تضاعفت خيانتي لها يزداد إصراري عليهquot; (ص74)، quot;نذر فتح لي بوابة إلى عالم ملونٍ وعبر معي إلى هناك وما خسرت سوى شقيقتي لقاء ما كنت أفعل!quot; (ص37)، quot;أطراف الشجيرات لوّحت لي بوهن، وكنت بلا شعور محدد يسكننيquot; (ص42)، quot;ما كان يسكنني سوى شعور يتيم في تلك اللحظة الإثم، رغبة مجنونة لأن أحلّق معه.. وهكذا كانquot; (ص38)، كما أنها لا تشعر بالندم على خطيئتها: quot;لست نادمة، لكنني ضائعةquot; (ص48)، مع شعور بسعادتها بـ quot;الخطيئةquot; تتخلل لحظات شعورها بالحزن: quot;ليلتها، نمتُ على فراش خطيئتنا، وتذكرت جنوننا الذي اقترفناه كثيرا، تبسّمت بلذة مسروقة من بين لحظات حزنيquot; (ص49)ويرافق كل هذا شعور بمجانية الحية: quot;انتابني شعور مؤلم، وفجأة أحسست بأن كل شيء صار تافهاquot; (ص36).
وهناك الكثير مما يدل على هذا الذهان الذي جاء لتبرير سلوكيات بطلة السرد هذه السلوكيات التي كانت تعمل ضد قناعاتها quot;أتراني بحثت بين ركام كلماته، التي يجهدني فهمها في أحيان كثيرة، لأجد تبريرا لحماقات صرنا نمارسها؟ أم إنني أردت أن أكون متصالحة مع ذاتي وقناعاتي؟quot; (ص38).
تقنية السرد وتأكيد ذهانية البطلة:
تضع الروائية في عملها، ومن خلال تقنية تتكرر باستمرار، الكثير من الثنائيات الدّالة على وجود عالمين: عالم خاص لا يوجد إلا في داخل quot;مروانةquot;، وعالم عام تحاول توظيفه في صناعة عالمها الخاص. وتورد الروائية هذه الثنائيات بصفة متكررة من خلال خط مائل (/) يفصل بين مفردتين أو أكثر كي يدل على أن كل مفردة تلي هذا الخط تصلح بديلا لسابقتها، أو هي مرادف له، ومن ذلك: quot;شيء من حزن/ صدمة زوجها الذي تركناquot; (ص44)، quot;نفس المكان الذي هيأ لخطايانا/ أفراحناquot; (ص43)، quot;كانت دليلة ترجوه ليؤويني/ يسترنيquot; (ص43)، quot;ها أنا رغم إعاقتي/ رجلي الناقصةquot; (ص31)، quot;راحلة للمدينة أبحث عن علاج لعَرَجي/ لفضيحتيquot; (ص43)، quot;غابت حدقتاها في العمق/ الموتquot; (ص79)، quot;باحثة عن خلاص من إثمي/ شناعتي/ فرحي!quot; (ص63). كما تورد هذه الثنائية من خلال إيراد صفة وموصوف يعملان ضد بعضهما على مستوى الدلالة ليوحي ذلك بأن لدى بطلة السرد ارتباك ذهني في تحديد أي المفردتين أكثر دقّة لوصف ما هي فيه: quot;مثل قطّة جريحة أربض بسجني، ونذر سجّاني الأعذبquot; (ص49)، quot;فيما تلوح على شفتيه ابتسامته التي أعرفها، يؤكد بها على الرجولة والقسوة النبيلةquot; (ص66)، فسجانها هو الأعذب، والقسوة تتصف بالنبل!. كما أن أحد أهم دوال هذا الذهان ما يرد في العبارة التالية: quot;كنت أراني مثل طفلة صغيرة غادرتها البشاشة صدفة، بريئة حدّ إغواء الجريمة ذاتها!quot; (ص44)، فهي ليست سوى طفلة بريئة رغم كل ما حدث، ليس لأن ما حدث يحمل صفة البراءة، ولكن لأنه دفاعها الوحيد ضد شقاء يجلبه العالم إليها على كافة الصُعد والمستويات.
هذه التقنية السردية كانت موفّقة جدا، لاسيما أن بطلة السرد كانت هي الراوي، فجاءت العبارات على لسانها ذات حدّين، كما أن جلّ عباراتها كانت تحمل معنى الشك المعرفي: (ربما، بدت لي، قد)، لتدلل على عجزها عن فقه ما يحيط بها من عسف، وهذا ما يبرر لها على المستوى النفسي ما كانت تقترفه من خطايا. كذلك نجد أنّ الكثير من الجمل تنتهي بعلامة تعجب (!)، حيث تصبح الظواهر المحيطة أكبر من أن تفهمها طفلة يتيمة ولدت عرجاء.
إن التقنية الروائية الدقيقة التي جاءت لتصوّر كل هذه الثنائيات استطاعت أن تكرس الشخصيات الذهانية حتى من خلال الجو العام للنّص، فالأختان متحابتان على ما يقابل ذلك من خطايا تقترفها quot;مروانةquot; ضد أختها دون أي شعور بالذنب، أو بالألم.

يقظة وذهان آخر:
من أجمل مشاهد الرواية هذا المشهد: quot;أطلقتُ صيحة تعبٍ زلزلت روحي. نُحتُ كما لم أفعل من قبل، شعرتُ جسدي كقطعة قماش بالية تعبثُ بها الريح، لطمتُ وجهي حتى أدميته، دليلة بضعفها تلملمني حتى تكوّرت بحضنها كطفلة شارفت على الإغماء بعد كابوس أفجعها!quot; (ص93)، فقد جاء في نهاية الجزء الذي يسبق آخر أجزاء الرواية، ملقيا الستار على quot;بلادة وسطحية شعور مروانةquot; تجاه أختها حيث رأيناها تشعر بطعم غير طعم المرارة عند خيانتها لدليلة مع زوجها نذر، لكن المشهد السابق يتلو كشف دليلة، وهي على فراش المرض، عن معرفتها بأمر تلك الخيانة. وفي هذا المشهد تسجيل لأول ردة فعل quot;طبيعيةquot; تقوم بها quot;مروانةquot; تجاه قبحها: quot;لطمتُ وجهي حتى أدميتهquot;، ليتلو ذلك مشهد آخر في الجزء الأخير من الرواية: quot;quot;كنت أمارس طفولتي مع ابني في الخفاء، أضحك متخففة من وطأة الحياة والخطيئةquot; (ص101)، تجمع فيه quot;مروانةquot; بين ثنائيتيّ quot;الحياة/الخطاياquot; كمتلازمتين لا تنفصلان عن بعضهما البعض لمن أراد أن يحلم بالاكتمال وسط هذا المجتمع العبثي.
لكن عبارة: quot;دليلة بضعفها تلملمني حتى تكوّرت بحضنها كطفلة شارفت على الإغماء بعد كابوس أفجعها!quot; ألا تدلنا على ردة فعل quot;غير طبيعيةquot; تأتينا هذه المرّة من quot;دليلةquot; تجاه أخت دأبت على خيانتها مع زوجها؟. سنعلم -فيما يلي- أننا أمام شخصية ذهانية أخرى، هي في حقيقتها ليست إلا نتاجا طبيعيا لشرق نَكِد.

ثالثا: شيزوفرينيا quot;الشرقquot;

من يصنع الشرق؟:
الأسرار، تلك التي تتعلق بمصائر الأفراد ولكنهم لا يدركونها. فكل ما سبق يدل على أن غياب quot;الوضوحquot; يستدعي حضور الشقاء، حيث لم يكن زواج quot;دليلةquot; غير المفهوم من quot;نذرquot; نتاج فهمها لإشاراته كما تتوهم بطلة السرد، ولم يكن غياب الأب المتكرر اختياريا، كما لم تكن القطيعة بين منزل quot;حابسquot; وبين quot;البيت الكبيرquot; نتيجة خلاف عادي يمحوه الزمن، ولكن كل ما تقدّم نسجته أيدٍ خفيّة على هيئة quot;فضائحquot; ثم quot;نميمةquot; ليتعالى بعد ذلك quot;صمتquot; مهيب لا يكفل إبعاد الشقاء عمن أصابه، ولكنه يجعله مُبهما حدّ ألا يستوعبه أحد: quot;كان الصمتُ يغلّف الأشياء بهيبة، بيوت خفيضة وأخرى مرتفعة بجدران لا تعرف الاستقامة تعبق بالرصانة العتيقةquot; (ص21).

مملكة السمّ!:
مع المزيد من الكشف، ولأن بطلة الرواية كانت quot;تنبشquot; عن الأسرار: quot;ربما كنت ندبة في حياة والديّ، لكن من يفسر لي تلك الأسرار التي تسكن عينا أبيquot; (ص82)، ومع هذا النبش نكتشف (مملكة السمّ)، المحرك الحقيقي لكل هذا البؤس: quot;ودليلة تلف الصبي، الذي صار لها، بعيون مغرورقة بالبهجة، بحب تلاعبه لتأخذه لمملكة تضج بالسمquot; (ص57)، فأي مملكة هذه؟. إنها quot;البيت الكبيرquot;، حيث تظهر quot;غزوىquot; واحدة من أهم صانعي الأسرار/السموم التي تولّد عنها هذا البؤس: quot;وحدها الشيخة quot;غزوىquot; تحيا بعالمها الممتد، التَّرف المُريحquot; (ص75)، كما أنها تنثر السمّ في أي مكان تحل فيه: quot;لا تزال غزوى تتصنع فجيعتها ودهشتهاquot; (ص99)، quot;نظراتنا المشتركة تجاه نذر الذي تقلّص ضيقا إثر الزيارة المسمومة لأمه غزوىquot; (ص99).
فهذه الأم كانت قد صنعت quot;مملكتها المسمومةquot; على خلفية دفعها لبؤس كاد أن يطالها: quot;غزوى كادت تُطَلّق لأكثر من ست مرات، كنت صغيرة لتعرفي، مصيوب أراد ولداً، في حين كانت الفتيات تملأن داره، وعندما وُلدَ نذر حياً، صارت غزوى الشيخة فعلا!quot; (ص27)، وقد خرجت من مأزقها هذا بصفقة سريّة كانت قد عقدتها مع quot;عوجةquot;: quot;يوم ولادته، أرسلت الشيخة غزوى بطلب أمنا عوجة، عرفنا دليلة وأنا فيما بعد أنها كانت مدينة لها بولادة نذر صحيحا، ولطين الأولياء الذي عجنته لها وقرأت عليه، فواظبت على إشعال بخورها السحري في الليلة الأخيرة من كل شهرquot; (ص34).

التحوّل الأهم:
تحوّل quot;البيت الكبيرquot; إلى quot;مملكة مسمومةquot;، وذلك لأن quot;مروانةquot; أصرّت على أن تنبش الماضي: quot;quot;لا تحاولي النبش في الماضي، فكثير من الأمور إن أصررنا على الخوض فيها، تسوؤنا بشكل كبير، بل قد تقلب حياتنا لجحيمquot; (ص86). وهذا التحول الجحيمي ينشأ حين تعرف بحقيقة زواج ابن عمها من quot;دليلةquot;، فلم يكن هذا الزواج أكثر من quot;دينquot; على عاتق quot;الشيخةquot; المهددة في الماضي بفقدان مكانتها، والتي لم تصر شيخة فعلية إلا بولادة نذر: quot;عندما وُلدَ نذر حياً، صارت غزوى الشيخة فعلا!quot; (ص27)، وهي ترده لـ quot;عوجةquot; لأنها: quot;كانت مدينة لها بولادة نذر صحيحاquot; (ص34)، فقد تم هذا الزواج المستغرب بمباركة quot;غزوىquot;: quot;quot;أخرست الشيخة غزوى كل الألسن في مدينة الفضائح والوشايات بمباركتها العلنية لارتباطهما، رغم أنها ما كانت تطمح بتزويجه من ابنة quot;العوجةquot; كما تسميها نساء النزلة!quot; (ص16).

كما أن ماضي quot;شاهةquot; خالة quot;مروانةquot; ظلّ حاضرا على الدوام: quot;بقيت تلوكها أفواه أهل النزلة كلّما مرّ ذكر quot;شاهةquot; أو والدتك، أو حتى أبوكِ حابسquot; (ص95)، مما يجعلها تبدأ في إدراكِ سرّ غياب أبيها وأسباب أن تكون منبوذة، مع ما يحوم حول هذا الفضاء العابق بالأسرار والدسائس من حقيقة أن أمها التي ماتت وهي تلدها لم يكن لها قبر معلوم: quot;أطلقت سؤالي نحو أبي: لماذا لا تعرف أين دُفِنَتْ أمي؟!quot; (ص81). لنصل لحقيقة وجودها المرتبط بماضٍ لا يد لها فيه: quot;كم من الشكوك حطّت على بيتنا لنكون ولسنوات بعيدين عن بيت عمي، كبير وجهاء النزلة، وكم من الحكايات لفّقت ضدنا لنعيش ملثمين خوف افتضاح ذلك السّر؟. وضعت عيني بسواد عينه:
-وأمي؟
-رحلت بعد ولادتك، وبعد هرب (شاهة) بأيامquot; (ص96).
وفي ظلّ هاتين الحقيقتين اللتين تكشفتا لفتاة تريد أن تفهم فقدت بوصلة معرفة الدوافع: quot;في لحظة تساءلت:
-لِمَ كل هذا الجنون!
تذكرت جوابه على سؤالي هذا يوما:
-للجميع أسبابهم، لذا ينبغي أن نفهم الأسباب أولاquot; (ص38).

ذهان quot;دليلةquot;:
وسط هذا الركام الذي لم يفهم فيه أحد أسباب ما يحدث سوى quot;غزوىquot; الصانعة للماضي، يتضح أن quot;نذرquot; على ما في اسمه من دلالة: quot;لا أدري إن كان اسم نذر قد ألصق النذور به رغما عن كل شيء، شفيت رجله لذا على أبي أن يوفي بنذره مع اللهquot; (ص67)، لم يكن سوى نذر/ أداة مُثلى لردّ دين quot;عوجةquot; القديم، فتزوج من quot;دليلةquot; على غير ما أراد، وبدون أن يفهم سرّ هذا الزواج، وهو ما يفسرّ ألا يشعر تجاهها بشيء: quot;لا يلمسني! يتعطّف عليّ بقبلة على جبيني كل صباح، أدخل بعدها لأستحم وأترك شعري مبلولا، لا أدري إن كنت أخدع نفسي أم أوهِمُ غزوى!quot; (ص37). وهذا الاعتراف الذي تدلي به دليلة يأتي بعد أن صنعت وهمها الخاص كي تكون لائقة بدخول البيت الكبير: quot;ففي ليلتنا الأولى ما ارتوى من تقبيل شفتيquot; (ص23)، quot;لأكمل لك.. في ليلتنا الأولى مزّق ثوبي الأبيض، ربما ما استطاع الانتظار حتى أخلعه..!quot; (ص24). ومع استمرار إعراض نذر عنها تدخل دائرة الذهان الجمعي، وتعقد ndash;هي الأخرى- صفقتها السريّة: quot;كانت شفتاها تصنعان ذاكرة ابتسامة بعيدة، ومُطرقة سألتني: أتعطينني هذا القادم؟!quot; (ص42). ومع توالي السّرد نكتشف أنها تعلم الكثير عن أمر هذا القادم: quot;رأيت بوضوحٍ كيف أطلق وجهها سراح نقمتهquot; (ص56)، quot;وحينما نصمت، تظل أعيننا بلقاء حذر، كنت أشعر بأن دليلة تحوم حول الحقائق بشكل ماquot; (ص77). حتى نصل إلى سرّ هذه الصفقة: quot;يتعبك أن يخفى عليك سرٌّ لأمك، لكن يحرقني أن أعرف وأمثّل بلاهتي، كم يخنقني هذا الشعور!quot; (ص91)، quot;لم يكن صعباً عليّ أن أعرف بعلاقتكما، كما لم يكن سهلا عليّ الاحتفاظ بسرها وممارسة حياتي كأن شيئا لم يكن!quot; (92)، quot;كنت عاجزة عن الإنجاب، عن الاحتفاظ بالمشْيَخة والصيت، لهذا كنت أتوق لطفلٍ حتى ولو كذباً!quot; (ص92)، فهذا هو السّر، من أراد أن يحافظ على البقاء في مملكة السمّ فلا بدّ أن يساهم في نسج بعض خيوطها وصناعة أوهامها الشقيّة: quot;أشد ما كنت أخشاه أن تعرف أمي بأمركما، أشفق على فرحها بي، لذا حينما رَحَلَتْ، هدأ جزءٌ من قلقي تجاهها!quot; (ص93).
لقد كان ذهانا مقصودا، أن تصنع ndash;هي الأخرى- عالمها بطريقة مريبة، وحين فاق كل هذا البؤس احتمالها دخلت ذهانها الخاصّ والموجع: quot;لأيام طويلة ظلّت دليلة تصنع عرائس الصوف، تفرز ألوان الخيوط والعصي الخشبية والقطن الأبيض، تتشاغل بها طوال ساعات الليل والنهارquot; (ص101)، quot;خلال عشرة أيام، كانت العشرات من بنات الصوف تتناثر في غرفتهاquot; (ص101)، وليبلغ بها الأمر أن تستغرق في عالم الدّمى: quot;كانت تصنع المزيد من عرائس الصوف بانهماك صار يخيفني! كان وجهها ينطق بأسئلة كثيرة رغم صمتها القاسي وتركيزها الجاد بخيوط الصوفquot; (ص104)!!.

رابعاً: عرائس الصّوف

السياج/البئر:
تقرر مروانة في نهاية الرواية حقيقة مجتمعها الذي يحاصر أبناءه بالمحظورات: quot;quot;سأترك المهمة لنذر، لأنني كنت ولا أزال تلك البنت التي خرجت من محيط لا يبيح لها القفز بحريّة، خصوصا ناحية القلب!quot; (ص106)، ويأتي هذا التقرير بعد أن صارت quot;امرأة كاملةquot; (ص106)، ليلخّص لنا أي تجربة مرّت بها. ففي الصفحة الثالثة من الرواية ترد مفردة: quot;السياجquot;: quot;دأبنا على تسلّق سياج السطح في الصباح الباكر وبعد كل ظهيرةquot; (ص11)، ليتوالى سرد ما سترتب على جهل فتاتين معنى ووظيفة هذا السياج، فيقعن في شقائهن الخاص!.
كما تتكرر مفردة quot;البئرquot; كثيرا في الرواية: quot;قبيل غروب الشمس قررتُ معاودة جنوني، قضيت فسحة من الزمن على حافة البئر/بئرنا، باشرت رمي الأحجار، مرهفة السمع لهمهمات الأرواح الهائمة ومناجاتها.. رأيته.quot; (ص17). لنعلم حقيقة ما ترمز إليه من غموض وأسرار هي الصانع الفعلي لهذا الشقاء.
وفي ضوء هذه العوالم التي لا تعطي للأسباب أية أهميّة، بل إنها تجعل الأسباب/الأسرار شيئا يستعصي على السؤال، ويأخذ درجة القداسة: quot;كنت بعد كل استغراق متعب بالتفكير، أشعر أنني أتوه، وأن النفق الكان مظلما صار بلون العتمة التي نشأت بها مدينتنا الجنوبية المحكومة بالأعراف المفصّلة بشكل أضيق من قياساتنا بحيث لا يمكننا الخوض بتفاصيل كلنا يود السؤال عن جدوى ممارستها بكل تلك القدسية، وكأن الله شرّعها!quot; (ص29)، في ضوء كلّ هذا يتواطأ أبطال السّرد على صناعة أسرارهم الخاصة، وعلى خلق عوالمهم، وعلى المشاركة في تشريع الشقاء واستهلاكه ورمي الآخرين به: quot;حشرنا أنفسنا بمصير تجاوز كل اللامعقولquot; (ص72)، وذلك ضمن اتفاق غير معلن: quot;ورغم تكرار الزيارات إلا أنها ظلّت محتفظة بنوع خاص من الغموض ترك منطقة ما دون مجال الرؤية باتت مُتجاهلة منّا نحن الثلاثة وكأنها اتفاق ضمني للحفاظ على سرٍ ما!quot; (ص61).

لعبة quot;الدّمىquot;:
في خضمّ هذه العوالم البائسة تقرر quot;دليلةquot; حقيقة عرائس الصّوف: quot;quot;كان طبيعيا أن نتعلّق بتلك (الدمية) التي تهدينا الفرح اللذيذquot; (ص93)، فنذر لم يكن أكثر من دمية حركتها أمه quot;غزوىquot; تجاه quot;دليلةquot; كي تفي بدين قديم يرى في quot;عوجةquot; سببا رئيسا في احتفاظها بمملكتها، وquot;دليلةquot; لم تكن سوى دمية حركتها أمها عوجة نحو مملكة السمّ كي تكون ملكة وليس مجرد ابنة صانعة، كما أن مروانة دخلت هذه الدائرة المترابطة من عرائس الصوف كي تصنع من quot;وردquot; الابن مبررا لدخول quot;البيت الكبيرquot;.
والأهم من ذلك ما يتخلل الرواية من عبارات دالّة على أنها كانت ترى في quot;نذرquot; مجرد دمية تسد بها جوانب نقصها بعد أن قررت ألا تبقى على الهامش بشكل دائم:: quot;لكن كان لا بد من أن أمارس حقي كامرأة كاملة رغم النقص والنظرات المشفقةquot; (ص34)، فتأتي ممارستها لهذا الحق من خلال quot;دميةquot; تقرر أن تحبها/تصنع وهمها الخاص من خلالها، وهذه الدمية هي quot;نذرquot;:quot;كنت ألوح بداخلي هامسة باسمِهِ، قلقة على لاشيء ربما على حبنا الذي سيكون.quot; (ص18)، quot;سأحبّك بقوّةquot;. (ص20)، وتبرر لذلك بالحاجة لهذه الدمية التي رأينا أنها في نهاية الرواية عبّرت عنها بأنها مجرد نصف رجل، حيث صنعت منها متكأ: quot;ها أنا رغم إعاقتي/ رجلي الناقصة، أجد نفسي قريبة من رجل يجعلني أهذي حبا بعد أن عبرت الليالي وحيدةquot; (ص31)، quot;رمى بعقب لفافته، ونزل برشاقة من حافة البئر، تركني للسواد الهادئ.. ربما نسي بأني أحتاج لمساعدته لتطأ قدمي الأرض!quot; (ص73)، فبهذه الدمية ستطأ قدمها الأرض، وهو عندما يتركها للسواد الهادئ تعقّب بقولها: quot;اتكأت على ساقي الثانية، ووحدتي ومضيتquot; (ص73).

دائرة صناعة البؤس:
ولأن أحداث الشرق تتم صناعتها على حافّة بئر/سر، ولأنه شرق لا يعترف بالوضوح مع أبنائه فإنهم بحاجة لأفواه قادرة على quot;تزييفquot; واقعهم ليستطيعوا التعايش مع هذه المجتمعات النّكِدَه: quot;ستكونين قريبة منه، لكنك منذ اليوم ستحتاجين لفمٍ مطاطي يتسع لعويل الانطفاءات القادمةquot; (ص59)، وبهذه الأفواه المطاطية/الزائفة تتم صناعة البؤس!. كما أن هذا البؤس الشرقي مبرّر باسم القَدر: quot;لقد اختاركما القدر لتكونا معا، فلا تندمي على شيء، أبدا!quot; (ص48)، quot;لا ملجأ، يا فراشتي، لمن أصابهم القدر غير فكرة القدر!quot; (ص74)، فالقدر هو صانع كلّ هذا!، وعليه فهو المخرج والمبرّر لخطايا الشرق التي تلد الشقاء والبؤس نتيجة السرّية والغموض.
لقد اكتملت quot;مروانةquot; مع نهاية الرواية لأنها أدركت معنى الشرق، بينما تراجع quot;نذرquot; عن اكتماله إلى درجة أن يكون مجرد quot;نصف رجلquot;، فقد تجاوزته مروانة، صنعت سرّها / خطيئتها التي صنعت من عالمها ما يجعلها جديرة بالحياة في هذا الشرق. فبالخطيئة والسريّة وتبرير الشقاء والتلذذ به اكتملت quot;مروانةquot;، ليس لأنها شرّ محض ولكن لأنها أرادت أن تمارس حقها كاملا، وقد رأينا كيف ذهب هذا الحق بمجانية نتيجة صفقة نُسجت في الخفاء قبل ولادتها. لقد اكتملت إلى درجة أنها صنعت لابنها quot;وردquot; شقاء قادما لا يد له فيه، تماما كوالدته ووالده، فحين يكبر سيجد نفسه محاطا بأسئلة محرّمة وآبار تختزن الحقيقة المؤلمة داخلها فلا تفصح عن شيء وسط عالم يلوك الأسرار ويعيد إنتاجها: quot;في مدينتنا حيث لا سر يستطيع حجب نفسه، حتى أسرار الفراش كانت متاحة، أسرار العشق والأحلام المعلّقة والوله كلها تلوكها الألسن.. تظل تكبر حتى تذوي وتتلاشى مع انحسار الضوء.. في مدينتنا الضيقة حدّ الاختناق، يثرثر أهل quot;النزلةquot; ولا يتعبهم تناقل الحكايات الجديدة كلّ يوم، محاولين إيقاعنا بفخاخ النميمة المعتادة!quot; (ص17)، وفي مجتمع يعتاد النميمة ستتوالد الأسئلة، في مجتمع كان قد قرّر مع زواج دليلة ونذر ndash;سلفا- ما سيطبع السنوات المقبلة بشقاء جديد عادي: quot;غدا ستملأ له البيت فروخاً سود، وستُكوى الشيخة quot;غزوىquot; حرقة بهذا النسل الفاسد!quot; (ص14)، فأي أسئلة سيبحث عن إجابتها هذا الطفل؟، وكيف سيجد الإجابات؟ وهل سيبادر لتذوّق هذا الشقاء بتلذذ حتى يدخل في دائرة التوارث المجاني له كمسلّمة شرقيّة؟ خصوصا حين يكتشف أن quot;مروانةquot; لم تكن إلا وجها آخر لـلشيخة quot;غزوىquot;، فكلتاهما دخلت المملكة المسمومة بصفقات سريّة وبائسة؟!!.

خامسا: ملاحظات حول السرد وتقنياته

حول الوقائع:
تكاد الرواية أن تكتمل، بل إن ما سأشير إليه فيما يلي ndash;ويتلخص في واقعتين- لا يعدو كونه إحدى مسلّمات وقوع أي رواية في quot;أخطاءquot;، ولكن هذه الأخطاء ليست باعثا للانتقاص من العمل الفني، إذ يمكن توظيف بعض الأخطاء السردية في دعم الجانب الجمالي لأي عمل ولاسيما عندما لا نجد هذه الأخطاء قد تكررت بشكل فادح، أو أنها لم تكن أحد العوامل العاملة ضد اكتمال الوقائع أو مؤدّية إلى تفككها.
وفي رواية quot;عرائس الصّوفquot; أشير للواقعتين التاليتين:

أولا: يمكن ملاحظة الفارق الزمني بين quot;عوجةquot; وبين ابنتها quot;دليلةquot;، والذي يصل إلى ثمانية وأربعين عاما: quot;من السطح نازلة متكئة على سنواتها السبعينquot; (ص67)، وبعد موتها ترد هذه العبارة: quot;فات من عمرك أكثر من اثنتين وعشرين عاما، فعن أي سرّ تتحدثينquot; (ص90).
وإن كانت هذه المفارقة ليست مما يستحيل وقوعه عادة، إلا أنها تبدو مفارقة كبيرة نوعا ما، ويمكن تبريرها من جهة كون quot;عوجةquot; ذات عمر يتيح لها معرفة الكثير من الأسرار التي أثرت في سير الأحداث بشكل كبير.

ثانيا: ترد حقيقة أن نذر يكبر quot;مروانةquot; بعشرة أعوام: quot;يكبرنا بعشرة أعوامquot; (ص10)، لتورد الروائية مجموعة حقائق دالة على ولادته في طفولتهن: quot;شدني كلامها وتعلقتُ بدفء ثوبها. بصوتها الخفيض، تمتمت: مسكينة غزوى، قد يكون وجعها الجديد دون فائدة!quot; (ص33)، وأيضا: quot;يوم ولادته، أرسلت الشيخة غزوى بطلب أمنا عوجة، عرفنا دليلة وأنا فيما بعد أنها كانت مدينة لها بولادة نذر صحيحاquot; (ص34)، وَquot;غزوى كادت تُطَلّق لأكثر من ست مرات، كنت صغيرة لتعرفي، مصيوب أراد ولداًquot; (ص27).
ويمكن تبرير ذلك فنّيا بكون الساردة/مروانة تسرد الأحداث بطريقة quot;ذهانيةquot; يتخللها نشوء كثير من quot;الضلالاتquot; والهلاوس، ومنها هذه الواقعة التي تعيد سردها كما لو حدثت أمامها فعلا، وقد أشرت فيما سبق لنماذج