بين الرواية الأولى للروائي عاطف أبو سيف quot;ظلال في الذاكرةquot; والرواية الثانية quot;حكاية ليلة سامرquot; نرى فنه الروائي يتطور بشكل طبيعي وطردي على صعيد الشكل واللغة والمضمون، فاللغة تزداد كثافة وشاعرية، أما الشكل فهو ذاته حيث الأصوات المتعددة quot;البوليفونيةquot;، وعلى صعيد المضمون تتقاطع ثيمات كثيرة وتتشابك الأحداث والمواضيع في فضاء الرواية، وسنعود لاحقاً لتشابهات بين الروايتين.
أول ما يصادفنا هو quot;إشكالية التجنيس الأدبي، فرغم أن الكاتب يسميها رواية فإن للشعر نصيب كبير فيها أكثر من المعتاد، والدفق الشعري يفرض نفسه، ويجعلها تقترب من quot;الرواية الشعريةquot; وهي نوع حداثي جديد ربما كان ادوارد الخراط أول من أشار إليه في كتابه quot;الكتابة عبر النوعيةquot;، ويتجلى هذا الجنس الأدبي الجديد هنا بأحسن أمثلته. ومن ناحية أخرى فإن لفظ quot;حكايةquot; يذكرنا بحكايات quot;ألف ليلة وليلةquot; حيث يتعدد الرواة وينتقل الحوار من راوٍ لراو لكنه في النهاية يعود للراوي الأول، وهذا ما يحدث في هذه الرواية حيث تبدأ وتنتهي بنفس الراوي. لكن الكاتب أيضاً يضع تحت العنوان لقب quot;روايةquot; وهذا ينطبق عليها بكل ما تحتويه من تقنيات سردية سبقنا إليها الغرب.
وإذا عدنا لرصد العلاقات بين quot;ظلال في الذاكرةquot; وquot;حكاية ليلة سامرquot; فهناك الكثير:- في نهاية الرواية الأولى وعلى غلافها الأخير نجد العبارة التالية quot;هذا ومازال في الذاكرة ظلال أخرى، والعهدة على الرواةquot; وهنا يظهر أحد هؤلاء الرواة تحت اسم quot;الراويquot; في الفصلين الأول والأخير.
أما يافا فلها نصيب في الرواية الأولى، أما في هذه الرواية فالنصيب أوفر، فالإهداء ليافا، ويافا مركز الأحداث في فصل اليافاوي، بل إن هذا الفصل من ألفه إلى يائه معزوفة عشق يعزفها الروائي إلى مدينته يافا.
وتلح مسألة الذاكرة على كاتبنا، فقد كانت محور روايته الأولى التي عنونها بصدق quot;ظلال في الذاكرةquot;، أما ها فترد كلمة الذاكرة والذكرى أكثر من مرة في العبارات التالية:-
quot;أنت لا تجيد سوى العزف على ذاكرتكquot; (ص14)، quot;ذكريات تحيضquot; (ص16)، quot;تطرق اللحظة أبواب الذكرىquot; (ص16)، quot;بإن الذي كان قد بعناه من ذاكرتكquot; (ص14)، quot;وذاكرتي ستصبح سلاحي الأقوىquot; (ص28)، quot;أحمل أعباء الذكرى كل لحظةquot; (ص30)، quot;خضوا ذاكرتي مثل قربة اللبنquot; (ص40)، quot;استلهم شخصية أبيه في ذاكرة الناسquot; (ص43)، quot;نغني عند احمرار ذاكرتناquot; (ص68)، quot;أوجاع الذاكرةquot; ص(105)، quot;والآخرون يلتحفون دفء ذاكرتهمquot; (ص110)، وربما غيرها..في الرواية الأولى كانت الذاكرة فردية بالأساس وترمز للجماعية لكنها هنا جماعية تتجسد من خلال أربعة رواه وراوٍ ثانوي ndash; في رأيي ndash; وفي هذا دعوة ضمنية وصريحة في آن واحد لإحياء الذاكرة الفلسطينية المتوجعة فهي السلاح الأخير لنا في هذه المرحلة.يقول المؤلف quot;كانت الشباب تموت هنا والآن يتنزه الناسquot;، كما يقول quot;هل أقول له أن الناس نسوهquot;، هنا إدانة لنسيان الأبطال والشهداء وصرخة لإحياء الذاكرة لأنها إن نسيت ضاع الحق، وكما تتداخل الأزمنة الرواية الأولى، كذلك تتداخل هنا لأن في تداعي الذاكرة يلغى الترتيب الزمني.
الشاعرية في الروايتين واضحة لكنها تتسع هنا لتلتهم الأحداث خاصة في فصل اليافاوي الذي يكاد أن يكون قصيدة نثر بحق، بل نجد قصيدة جميلة في فصل حنان، اللغة شعرية لتدفق الحنين عند اليافاوي ولأن الكاتب أراد اسطرة اللغة كما حاول اسطرة الخروج من يافا ndash; كما سنأتي لاحقاً ndash; أما اللغة في فصل أم فوزي فهي تكاد أن تكون واقعية للواقع الإشكالي الذي تحياه، أما فصلي حنان وجمال، فتتأرجح فيهما اللغة بين الواقعية والشاعرية وذلك لأنه رغم مشاكل الواقع ثمة عنصر الحب في حديث حنان، وعنصري الحب والإبداع في حديث جمال.
الوصف الذي أطلقته على الرواية الأولى وهو أنها quot;واقعية حداثيةquot; ينطبق على هذه الرواية أيضاً، المضمون هنا واقعي لكن القالب حداثي، أي أن الرواية تستخدم البوليفونية ولغة الشعر وغيره من التقنيات الحداثية لكن المضمون الاجتماعي الواقعي بادياً بجلاء حيث نلمح نوعاً من التأريخ، في الرواية الأولى يسرد الكاتب عبر قصة أبو تام وتام نفسه نموذجاً لمسيرة التشرد الفلسطيني وأيضاً في الفصل الأول من نفس الرواية هناك المخيم والحديث عن النكبة والحنين للعودة وفي آخر الرواية نصل لمرحلة السلام. أما في هذه الرواية فنجد تأثير الأحداث السياسية من قبل النكبة حتى الآن يؤثر بقوة على شخصياتها، فهناك الحديث عن هجرة 48 فأوسلو ومرحلة السلام الحالية والانتفاضة والضابط الإنجليزي والإبعاد والنفي وتحالف الكتل الطلابية والانتخابات البرلمانية وغيره، وأيضاً هناك الأحداث أو المظاهر الاجتماعية والاقتصادية كالحديث عن المطاعم التي بدأت تتزاحم على شاطئ البحر، وعن الواسطة والدجل ومظاهر العيد ورمضان وسوق المخيم وغيره.
والبعد الحكائي الشعبي الذي لاحظته في الرواية الأولى من خلال اللغة العامية أحياناً، والأمثال والرسائل والمكالمات ndash; هذا البعد يبرز هنا بقوة خاصة في فصل أم فوزي من خلال حديثها العفوي البسيط الذي يبدو كأنه مقتطف من حديث أي امرأة مسنة في أحد مخيماتنا الفلسطينية.
ولأن هذه الرواية تناقش الأنا الفلسطيني فلا بد من ظهور الآخر اليهودي الذي اقترن به ndash; للأسف بشكل دموي ndash; ولا يظهر هذا الآخر بشكل شخصيات واضحة الملامح لكن كخلفية سوداء للوحة الرواية، والعلاقة مع الآخر اليهودي هي إما علاقة موت أو علاقة جنس، وفي هذه العلاقة الأخيرة تشترك مع الرواية الأولى، أما علاقة الموت فتتمثل في السجن والنفي والإبعاد والقتل، وهذا ما نجده في إطلاق الطراد النار على الفتى (ص24) وفي انسلال الغرباء من البحر (ص28) وحين يطلق الجندي رصاصة قتل (ص29) وفي سقوط المهرة (ص38) وفي إعلان حظر التجول (ص43) وفي ظهور الشبح الغريب ثم مقتله (ص51) وفي قتل جد حنان (ص77) وعند الحاجز العسكري والضابط (ص88) وفي استشهاد زميل جمال في السيارة (ص103) وفي استشهاد زوج أم سامر في اشتباك مسلح (ص104) وغير ذلك. أما علاقة الجنس فتظهر في ممارسة اليافاوي الجنس مع ابنة الخواجة (ص24).
وكذلك العلاقة مع الآخر الغربي ndash; وهو هنا البريطاني ndash; تتراوح بين الموت والجنس، وهنا أيضاً تشترك مع الرواية الأولى ndash; أما الموت المتمثل في المظهر العسكري فنجده حين يزور الضابط الإنجليزي العزبة ص(36) وحين يسأل جنوداً بريطانيين ابو الهوك ص(101) وغيره، أما الجنس فيتم بين المختار والبريطانيات (ص32).
أما علاقة الأنا الفلسطيني بذاته فهي أحياناً علاقة حساب ونقد حيث أن الإدانة للسلطة السياسية واضحة في الرواية، وربما بدأ هذا النقد الروائي للسلطة الفلسطينية مع رواية quot;الميراثquot; لسحر خليفة، لكن هذه الرواية أبعد أثراً في ذلك لأن رواية خليفة كانت في بدايات السلطة الوطنية أما هذه الرواية فتأتي بعد ترسخها على أرض الواقع واستفحال آثارها، ويتمثل النقد الروائي في الحديث عن البطالة والواسطة والوعود الكاذبة للمسؤولين وغير ذلك، بل أن حديث أم فوزي كله يدور حول نتيجة الوضع الحالي السيء اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وتتجلى أبلغ معارضة للوضع القائم بقول الكاتب quot;لم أوقع على صك الموتىquot; وهنا تلميح لعملية السلام.
هناك نقطة هامة تتجلى بقوة في هذه الرواية هي علاقة الجنس بالموت، وقد تحدث فرويد عن دوافع الحياة (الإيروس) مقابل دوافع الموت (الثاناتوس). وتبعه جورج باتاي ndash; الفيلسوف الفرنسي ndash; في كتابه quot;الإيروسيةquot; بالحديث عن ذلك حيث يقول quot;مع ذلك تبقى هناك صلة بين الموت والإثارة الجنسية فمشاهدة القتل أو تخيله يمكن أن يعطيا ndash; على الأقل للمرضى ndash; رغبة في المتعة الجنسيةquot;، وهذا ينطبق عامة على الرواية كلها حيث أن ثنائية الموت والجنس لا تحتاج لتوضيح، لكنه أيضاً ينطبق بصفة خاصة على بعض مشاهد الرواية فمثلاً يتلو مشهد الجنس بين أم فوزي وأبو فوزي في المهرة مشهد قتل الشبح الغريب، وكذلك يقترن الفعل الجنسي الأول بين أبو حنان وأم حنان بقتل جد حنان في اللحظات ذاتها. كما أنا العلاقة مع الآخر سواء اليهودي أو البريطاني تحكمها ثنائية الجنس والموت، بل أن حتى الزوبعة التي تمثل الدمار والموت حيث يقول الكاتب quot;الريح تصفر في الخارج والنافذة الصفيحية لا تقوى على هذا العنف الجسدي الذي تمارسه الطبيعةquot;..، نجد الكاتب يعطيها بعداً جنسياً حين يقول quot;أحدق فيما الريح تصهل بعد عمليتها الفحولية تلكquot;. ومن ناحية أخرى قد يكون للشعرية الفائضة في الرواية علاقة بالإيروسية حيث يقول باتاي quot;إن الشعر يقود إلى النقطة نفسها التي يؤدي إليها أي شكل من أشكال الإيروسية، إلى اللتميز، إلى تشابك الأشياء والمواضيع المتميزة، إنه يقودنا إلى الأبدية، يقودنا إلى الموت، وبالموت إلى الاتصال: الشعر هو الأبديةquot;.
وللميثولوجيا سحرها في هذه الرواية حيث يتبدى ذلك في الفصل الأول حيث يقوم المؤلف من خلال اليافاوي بأسطرة الخروج من يافا عبر لغة تشبه لغة الأسطورة فائقة الشعرية، وتتحول يافا إلى مدينة أسطورية فارسها اليافاوي، ولإضفاء الجو الأسطوري ndash; بالإضافة للغة الشعرية ndash; تتوالى الرموز الأسطورية مثل رع وإخناتون وعناة وكنعان ومحمد و المسيح و الآلهة، وشمشون وغيرهم، إن الكاتب يسجل في فصل اليافاوي سفر الخروج الفلسطيني، وتشاء الأقدار أن يتزامن نشر هذا السفر الأدبي في الوقت الذي نحاول فيه سياسياً أن يكتب سفر العودة. ومن الأحداث التي لها دلالات أسطورية ما يقوله الروائي عن ممارسة أم فوزي وأبو فوزي الجنس في المهرة quot;غرقنا في لذتنا والريح تعصف بنا من نوافذها التي تركناها مفتوحة ليحمل النسيم شبقنا، يلقح المهرة/ مهرتنا/ ألقحك/ يلقحنا حقولها بياراتها برتقالها بيوتها طرقاتهاquot; هنا ما يذكرنا بما كان يقوم به رجال ونساء القبيلة في القبائل البدائية حين كانوا يمارسون الجنس في الحقول استفزازاً للأرض والطبيعة كي تخصب وتنتج حيث كانوا يؤمنون أن تكاثر الطبيعة واخضرارها هو فعل جنسي وهذا ما يقتنع به الكاتب أيضاً حيث يقول على لسان حنان quot;كان أبي يقوم معها بفعل الطبيعة لأول مرة في حياتهاquot; وهنا يزاوج الكاتب بين فعل الطبيعة وفعل الجنس، كما يقول أيضاً على لسان جمال quot;حين تقبل الأمطار وجه الأرض تبتلع الأخيرة ماء السماء لتتدفق زهوراً ورياحين، سرعان ما تكبر بفعل القوانين الإلهية في النمو والتكاثر ndash; أي فعل جنسي هذا، يا لها من فكرة إيروسية لمشهد سرياليquot;، كما نجد الأجواء الأسطورية في مشهدين أخيرين. الأول في قصة quot;عشيقة المهرةquot; التي روت أمها أنها لم تستطع انتزاعها من على الأرض التي وضعتها عليها واستنجدت برجال المهرة لانتزاعها من المهرة، وفي هذا أيضاً دلالة على صعوبة انتزاع الفلسطيني من أرضه إشارةً إلى الباقين هناك، وحتى إن نزع بعضهم مادياً فلن يتم ذلك معنوياً، لا ن ذاكرتهم هناك. أما المشهد الثاني فيرد على لسان جمال عن جده الذي قيل أن الملائكة كانت تمشي في جنازته وذلك ليفسروا سرعة النعش كأنه يطير في السماء، بل إن أحدهم قال أنه لم يشعر بالنعش وهو يحمله بينما قال آخر صدوق أنه رأى رجل غريب يعتمر عمامة بيضاء بكوفية صفراء ويلتحف عباءة ذهبية يسير تحت النعش.
وثمة مسحة وجودية في الرواية، تبدو صراحة في اقتباس جمال قول كامو quot;الإنسان ليس مذنب تماماً فهو لم يبدأ التاريخ، وهو ليس برئ تماماً طالما أنه يكملهquot;، وفي قوله quot;الحياة وجهة نظر ما أسخفهاquot; وكذلك قوله quot;إن السماء تأتي بما لا تشتهي الأرضquot;، كما تبدو ضمنياً في تفكير اليافاوي وأم فوزي بوضعهما القلق وجودياً كلاجئين، وفي إشكالية حنان كامرأة في مجتمع ذكوري، وفي أزمة جمال الإبداعية، كل هذه القضايا هي قضايا وجودية ما دامت تطرح مسائل الحرية والخوف والتمرد وغير ذلك، بل إن الجوالوجودي منبث في الرواية من خلال أرتال الكوابيس التي تهاجم اليافاوي وكلمة quot;آخquot; المتكررة، وكلمة quot;اتفوquot; أيضاً التي تبصقها أم فوزي في وجه الظلم، كلمات مثل quot;آخquot; وquot;اتفوquot; تشعرنا كقراء بقلق وغثيان وجوديين، لكنها وجودية فلسطينية نابعة من تشتتنا وضياعنا في عالم يريدنا أن نساوم على حقوقنا.
تمثل المرأة وقضيتها مساحة واسعة في الرواية، وتتركز في حديث حنان التي تعتبر نموذجاً للمرأة المسلمة والعربية عموماً التي تعاني من ضغوط دينية واجتماعية، حيث ينظر لها كعورة فلا يصح خروجها من البيت، ولا رأي لها في زواجها، بل ويتم تزويجها صغيرة السن، ولا حق لها في صنع القرار على مستوى العشيرة، ومن المضحك أن أبو فوزي يمنع زوجته حتى من الذهاب للمنتزه، وهذا ما يحدث فعلاً أحياناً في مجتمعنا، إن فصل حنان هو دعوة لتغيير عادات المجتمع وتقاليده، وأساس هذا التغيير هو علاقة الرجل بالمرأة، والطريق لهذا التغيير هو التعليم، ولكنه أحياناً يفشل في وجه التخلف كما لم يؤثر التعليم في المختار الشاب الذي يقول لأم حنان quot;أنت التي أفسدتيها بإدخالها الجامعةquot; وينسى أنه خريج جامعة. وهنا تناقض من تناقضات المجتمع التي يدينها الروائي. ممثل آخر لهذه التناقضات هو أستاذ الجامعة طليق حنان الذي ينادي بحرية المرأة وتقدم المجتمع لكنه هو ذاته قد ألزمته أمه بالزواج من حنان على طريقة المهرة، ومن ناحية أخرى إذا كان الرجل سلب المرأة حقوقها في ظل تقاليد اجتماعية بالية، فإنه أحياناً يسلبها نفس الحقوق لكن بدعوى التحضر والثقافة. في اللحظة التي يمارس فيها أبو حنان الجنس لأول مرة مع أمها يقتل أبوها، وقد يكون لهذا دلالة رمزية، حيث أنه في الوقت الذي يقتل فيه جد حنان جسدياً، كانت أم حنان تقتل معنوياً وتفرض عليها السلطة الذكورية منذ اللحظة الأولى عن طريق الفعل الجنسي ذاته الذي يتم بالهيمنة الذكورية في مجتمعنا، لكن من المؤسف أنه حتى إن كانت المرأة واعية لحقوقها فإنها غالباً أقل شجاعة من المؤمنين بحقوقها من الرجال، وقد يكون هذا لأنها الطرف الأكثر تضرراً في هذا الصراع من أجل حقوق المرأة.
فكرة المخيم تفوح من الرواية، وقد كان لها حضوراً أيضاً في الرواية الأولى، وهو المكان الذي يفرض نفسه على الأمكنة الأخرى لأن أغلب الرواة من اللاجئين الذين قضوا فيه جل عمرهم، وللمخيم تجلياته الواقعية والنفسية.. إن البعد المادي واضح في الحديث عن السقف الصفيح الذي تقطر منه المياه والأزقة الضيقة والجدران المخربشة وغيره، أما البعد المعنوي فنجده في عقلية البسطاء الذين يسكنونه خاصة كبار السن مثل أم فوزي التي تعتبر نموذجاً لإنسان المخيم الذي يطيع كلام الشيوخ ويقدس المخاتير ويشعل البخور لطرد الشياطين ويخاف من العواصف لأنها غضب إلهي ويؤمن بالخرافات والدجل والحسد والحجاب وغيره، مما يدل على عقلية بسيطة كعقلية أفراد قبائل بدائية. كما يظهر البعد النفسي للمخيم في حنين اللاجئ اليافاوي لأرضه وفي قسوة ظروف الحياة التي يعيشها الرواة سواءً المادية أو المعنوية.وارتبط المخيم باللاجئ الذي يريد العودة لأرضه لذا ترفض أم فوزي سكن المدينة عند بنتها وتظل في المخيم، وكأن في ذلك إشارة لرفض التوطين وعدم القبول بحل لقضيتها سوى العودة. رغم أن الروائي وعلى لسان أم فوزي غير متفائل بالعودة القريبة. إن التوطين وإلغاء كلمة مخيم هما إلغاء للاجئ دون إعطاءه حقه التاريخي. بل إن الانتقال من المخيم هو خطر على الذاكرة الفلسطينية.
يثير الكاتب في حديث جمال أزمة المبدع اللامنتمي التي تنطبق على كل المبدعين، حيث يعيش المجتمع في مجتمع غير مثقف يريد للمبدع أن ينزل لمستواه بدل أن يحاول أن يعلو بثقافته، وعلامات اللامنتمي واضحة في حديث جمال فنراه متمرداً على واقعه ينجذب للوحدة والتوحد مع ذاته وغير ذلك، بل إن حالة اللا انتماء تمتد لتشمل حنان أيضاً فوضها القلق يؤهلها للتمرد على واقعها. في حين تمثل أم فوزي المنتمي التقليدي الخانع، وإن كانت تصرخ بالظلم السياسي، أما اليافاوي فهو رمز للاجئ الفلسطيني، وند فصل جمال عاصفاً بالذكريات أكثر من غيره لأن المبدع أكثر إحساساً بالواقع.
يتطرق الروائي للخطاب الديني الذي يتغلغل في مجتمعنا بسبب العقلية البسيطة البدائية التي تحدثنا عنها سابقاً، حيث ترتبط هذه العقلية بشكل أقوى من غيرها بالأسطورة والدين، والشيخ غسان في فصل أم فوزي يرمز لهذا الخطاب كما ترمز جمعية تحفيظ القرآن ndash; التي تحدث عنها جمال ndash; لمؤسسات هذا الخطاب، يقول الشيخ quot;لا يد لي في كل هذا الوضع الجديدquot;، وهذا واضح حيث أن الإسلاميون تراقبهم عين السلطة ويستبعدون من القيادة السياسية، لكن مع ذلك تقول أم فوزي عن الشيخ غسان في موضع آخر quot;لم أسأل عن سر العلاقات العديدة والجديدة التي بدأ بتكوينهاquot; وهذا هو الواقع فعلاً في الدول العربية والإسلامية حيث أن التيار الديني ndash; وإن كان يحارب سياسياً ndash; فإنه يتكيف مع هذا الواقع السياسي بتغيير جلده أكثر من مرة. ولاهتمام الشيخ غسان بمشكلة أم فوزي دلالة هامة، فالأحزاب الإسلامية تهتم دائماً بالناقمين على السلطة السياسية وتحاول جذبهم لصفها ومن ناحية أخرى فإن ميل أم فوزي للشيخ يشير رمزياً إلى أن الوضع الاقتصادي السيئ هو أحد أسباب اندفاع الناس للتيار الديني، وهذا هو سبب نمو هذا التيار في الدول العربية والإسلامية.
الرواية حكاية ليلة واحدة تغمرها عاصفة ترمز للنكبة، ومن زوبعة النكبة وزوبعة المخيم تدور أغلب الأحداث أو التداعيات. حيث اليافاوي سيمفونية حنين أما أحاديث أم فوزي وحنان وجمال فهي سيمفونيات غضب، لكن حتى في اليافاوي نلمح الغضب والألم في تكرار كلمة quot;آخquot; التي ترمز للوجع الفلسطيني بسبب النكبة، كما أن ضربة الصندوق على رأس اليافاوي هو رمز للصدمة التي ألمت بنا جراء النكبة، ولم تزل آثارها. حتى الكابوس هو كابوس النكبة، تدور الرواية في أذهان الرواة فقط حيث يتوقف الفعل المادي وينطلق الفعل التذكري بسرد الأحداث، وهذا أشبته بالوضع الحالي المتوقف، ويتطلب منا الفعل الشعبي القوي، ونذكر هنا أن حمل أم فوزي في المهرة هو رمز لارتباط جيل ما بعد النكبة بأرض النكبة، يقول الروائي quot;البداية دوماً صعبةquot;، كما يقول: quot;في البدء كانت الهزيمةquot; وهي فعلاً صعبة، لكني أخشى أن في الخاتمة ستكون الهزيمة، مع ذلك أكرر كلمة الروائي quot;من منا يعرف رائحة المستقبلquot;، ولأن لا أحد يعرف رائحة المستقبل تظل نهاية الرواية مفتوحة ndash; كما في الرواية الأولى ndash; فلا نعرف هل سيرجع اليافاوي لأرضه؟ هل ستحصل أم فوزي على حقها؟ هل ستحظى حنان بمستقبل ناجح؟ هل سيحقق جمال أحلامه؟ نأمل حدوث ذلك.
التعليقات