عواد علي من عمّان:quot;عبقرية الصورة والمكانquot; هو الكتاب الخامس للدكتور طاهر عبد مسلم (قاص وروائي وأكاديمي عراقي متخصص في السينما) بعد أن أصدر: quot;صعود القمرquot; (قصص 1993)، quot;دليل السينما التسجيلية في العراقquot;(1996)، quot;عمّ يتساءلونquot; (قصص 1998)، وquot;فن كتابة السيناريوquot; (2001).يرى الباحث مسلم، في تمهيده لهذا الكتاب الصادر عن دار الشروق في عمّان، أن الصورة والمكان ثنائية تشكل جزءاً رئيساً في العملية الإبداعية في الفنون المرئية، ثنائية تتصل مكوناتها بعدد من الترابطات التي تقدم المكان على أنه منظومة شيئية متكاملة. لكن العملية الإبداعية تعيد، بعبقريتها، تنظيم هذا المكان وتركيبه، إنها تحمله بعداً جمالياً، وتشحنه بدوال ورموز وأثر يتجلى عبر الصورة، وخاصةً الصورة المرئية المقترنة بالصوت والحركة، التي صارت جزءاً أساسياً من حضارة اليوم، فهي صورة تتنقل، حاملةً شيفرات المكان، من الثبات إلى الحركة. ويضيف الباحث إلى ذلك ثنائيةً أخرى هي ثنائية الإنسان والصورة التي تعيشها الذات، بوصفها ثنائيةً تداولية متصلة المعنى، متصلة التأثير، فقد خرج إنسان الألفية الثالثة بإرث ثقيل، حداثاته المضطربة، التكنلوجيا الراقية، المجتمعات التي تتماهى مع بعضها، ولذا لم يكن سوى الصورة مستودعاً للحقيقة، إنها اليوم تتغلغل في الثنايا والأرجاء المختلفة من دون استئذان، مخلفةً أثراً تراكمياً قوياً، فاعلاً، وليس ثمة سبيل للمنع أو للمقاومة. هذه الصورة، التي تملك سحرها الخاص، بعدما نضجت تقنياً، وجاءت (الرقمنة) لتزيدها قوةً على قوة، صار الكلام عنها كلاماً عن وقائع تعاش، ونتائج تتخلّلق وتتولد، يقف أمامها الفرد محاوراً ومتلقياً ومندهشاً وصامتاً وفاعلاً ومستسلماً وإيجابياً وسلبياً في آن واحد.
يشتمل الكتاب على أربعة أبواب، يختص الأول منها بموضوع (التعبير)، ويضم خمسة مباحث، قدم في المبحث الأول تعريفاً للمكان والصورة، وحاول في المبحث الثاني مقاربة الإطار المفاهيمي للمكان بجذره اللغوي، ومن ثم التقسيم المكاني، ودرس في الثالث الأشكال والهيئات المكانية فيما يتصل بالمعطيات الثابتة للصورة، وما يحيط بنا من معطيات مكانية، وأفرد المبحث الرابع لبناء المكان (السمعبصري) من ناحية العناصر الذاتية التي تشكل خصائصه، أو ترابط الأشياء والموجودات بما حولها، وبما يشكل نوعاً من العلاقة الإنشائية. أما في المبحث الخامس فقد انتقل الباحث من ثبات الصورة إلى الحركة من خلال وسائل التعبير التي تسهم في بناء المكان.
ويختص الباب الثاني بموضوع (التأويل)، ويحتوي على ثلاثة مباحث هي: الصورة- تأويل المكان؛ ثنائية المكان- الصورة بين الرواية والسيناريو والفيلم السينمائي؛ والصورة- المكان بين المسرح والسينما. ويذهب الباحث في هذا الباب إلى أن ما يحدث في عملية تأويل المكان هو رده إلى أسسه ومعطياته، أي إلى الأشياء والموجودات ومكوناتها: عناصرها وأبعادها المحسوسة. وهذه العملية هي بمثابة قاعدة لفهم المكان، والارتقاء إلى تلمس صلته بالظاهرة الفنية إجمالاً. وعلى هذا الأساس تستكشف دلالات المكان في السينما من خلال الصورة، فالتأويل مرحلة وخطوة باتجاه استيعاب آلية الفعل المكاني في الصورة السينمائية عبر تتابعها. ويستدرك الباحث بأن تأويل المكان ليس بمعنى تفكيك او تهشيم لبنائه، بل هو إعادة بناء من خلال إعادة النظر إليه للتوصل إلى ركائزه العميقة في الابداع السينمائي. وإذا كان المكان في الرواية قوامه الكلمات ودلالاتها وما تبعثه في ذهن القارئ من صور وتخيلات، ويشكل في الوقت نفسه قناةً من قنوات الروائي للإفصاح عن الحدث وأجوائه، ومكنونات الشخصية، فإنه يظهر في السينما من خلال موجودات تنقسم إلى خطوط وسطوح ومجسمات ثلاثية الأبعاد. وهو وثيق العلاقة بين أجزائه والشخصيات، ووسط تحتضن فيه الأفعال وتتنامى. وتتحقق الانتقالات المكانية في الفيلم إما عن طريق الحوار، أو عن طريق الديكور. ويقف الباحث في هذا الباب على الصعوبات التي تواجه مخرجي السينما في تحويل الروايات الذهنية إلى الشاشة، ويقتبس في هذا الصدد قولاً للناقد السينمائي جورج بلويستون مفاده ان جذور الفرق بين الفنين تكمن بين فكرة الصور المرئية والصور الذهنية، فالتعبير عن الحالات العقلية كالذاكرة والأحلام والخيال يكون باللغة افضل منه بالشريط لأن هذا الأخير لا يمتلك سوى الوسيلة المادية التي لا تستطيع التعبير عن الفكر، وإذا ما اصبح الفكر شيئاً خارجياً مرئياً لم يعد فكراً.
ويركز الباب الثالث، من خلال رؤية خاصة للباحث، على النقد، وهو يتألف من ثلاثة مباحث: الأثر المكاني والصورة التسجيلية؛ الفيلم التسجيلي من الأثر إلى الواقع؛ وأنموذج تطبيقي. ويقف الباحث في البداية على الإطار اللغوي والفلسفي والجمالي لمفهوم الأثر المكاني، ثم يحاول استقصاءه عبر ثلاث منطلقات هي:
1-تحليل مكونات الصورة المتحركة وهي تكتسب خواصاً قائمة على التتابع، أي تتبع تلك التحولات التي تطرأ على الموجودات والأشياء.
2-دراسة الخطاب الفلمي من داخله، والتوصل إلى شبكة العلاقات البصرية التي تولد الأثر مرتبطاً بمعطيين أساسيين هما: (الواقع) و (المكان)، وما يتصل بهما من مكونات.
3-محاولة فهم آلية (التأكيد)، و(التكرار) التي تُعتمد في المعالجات الفيلمية لتعميق الموضوع عندما يجري الانتقال إلى موضوعات مجاورة، عبر الانتقال من لقطة إلى لقطة، ومن مشهد إلى مشهد.
ويختار الباحث طاهر عبد مسلم، أنموذجا لتحليله، فيلم (الأهوار) التسجيلي للمخرج العراقي قاسم حول، الذي يعد من الأفلام التسجيلية المهمة في السينما العربية، وقد أنتج في سبعينات القرن الماضي. وهو، كما يرى الباحث، تجربة محملة بشيء كثير من التراث العالمي في ميدان السينما التسجيلية، ويقيم المخرج بناء ه وعلاقاته الداخلية على سلسلة تفاعلية مع (المكان)، كونه فيلماً أسس فكرته على فهم المكان، وإدراك مكوناته وتحولاته من خلا غوصه في بنية نائية هي بيئة الأهوار، أو المستنقعات في أقصى جنوب العراق، حيث تنقطع أعداد من البشر عن العالم الخارجي، مقيمةً في بيئة طافية على الماء، تصنع فيها عالماً كبيراً مليئاً بصور الفولكلور والحكمة والمنطق في اخضاع الطبيعة لإرادة الانسان.
وفي الباب الرابع ينهي الباحث كتابه بتقديم استقراءات وخلاصات، مواكباً من خلالها المنجز المعاصر للسينما عبر محاور عديدة شملت استيطيقا العنف الفيلمي وابتسار المكان، وجدل المكان الأنثوي المأزوم، والسيرة والاستتباع المكاني، وتراجيديا المكان النفسي.