مؤيد الراوي من برلين: في مهرجان برلين الثقافي العالمي الذي أقيم في الأسبوع الثاني من أيلول (هذا العام ) حضر ما يزيد على مئة من الكتاب المعروفين من أنحاء العالم، عكسوا بقراءاتهم ومناقشاتهم عالم الثقافة وتنوع أساليب الرؤية في مجال الإبداع.كان من بين المدعوين الكاتب الصيني ـ الفرنسي جاو كسينغجيان الذي حاز في العام 2000 على جائزة نوبل للأدب.كنت مهتماً بجاو لأسباب شخصية وموضوعية، وقد تحدثت معه إثر قراءته. تذكرت بأنني ترجمت له قصيدة بعنوان quot;فالسquot; وكتبت نصاً حول القصيدة. هذا النص ربما هو إضاءة شخصية تؤول القصيدة وتنظر إليها كنتاج مستقل يعود للقارئ بقدر ما يعود إلى الكاتب نفسه. لذلك يعكس النص الذي كتبته توازياً يتفاعل ويضيء شعر جاو، ويحتوى أيضاً على قدر من المخيلة التي تعكس جزءاً من الفهم والتفاعل الذي أمنحه من ذاتي على القصيدة التي تعيش في ذاتها كعمل منجز متروك للتفاعل مع القارئ. وعلى الأرجح سيقبل جاو هذا النص لأن موقفه من الأدب موقف يختلف عن معظم الكتاب، ولأنه يؤكد دائماً بأن الأدب مقترن بالفردانية، وهدف الكاتبquot; أن يتعرف على نفسه بالدرجة الأولىquot; ويعتقد quot; بأدب هو الآن وهنا وللأحياءquot; يتفاعلون معه ويضفون عليه من ذواتهم المعنى ويحيونه من جديد، كل على قدر ملكة ذهنه وعواطفه ومخيلته وتجربته في محاولة كشف دواخله.
وأردت هنا أيضاًـ أبعد من قراءة في القصيدة ـ أن أقتبس بعضاً من حواراته وقليلاً من الإضاءات عنه لأتعرف على عالمه وسيرته الشخصية. أما اختياري الشخصي لجاو فلأنه عانى من نظام توليتاري ودخل تجربة الثورة الثقافية في الصين quot;لإعادة تثقيفهquot; القسري ليشحن بالإيديولوجية الرسمية آنذاك، ولوحق من قبل مثقفي النظام، ومن ثم مورس بحقه شتى أصناف الضغوط ليتخلى عن نهجه الأدبي وقناعاته الجمالية المخالفة لما سمي بالواقعية الثورية.
والسبب الآخر في اختياري له هو معاناته في المنفى وابتعاده عن لغته في الكتابة، شأنه شأن المئات من الكتاب الذين يعيشون منفى اللغة ومنفى المكان وقد سكنت فيهم تجربة العسف وهم يحملون آثارها ونتائجها.


1 ـ القصيدة

فالس

والدُ تاركوفيسكي
يُدعى تاركوفيسكي
في الصباح الباكر لدى الفطور
لا شيء هناك لأن الدِيَكة لا تبيض

جزيرةٌ في البحر ِ
لا تغمرها المياه
فخٌ ينصبُ نفسَهُ
على القاع

في يوم ما ستشتعلُ الحربُ
ما من أحدٍ هناك
دارٌ واحدةٌ ستبقى قائمة
الشمسُ تضيءُ المرج

ماتَ موزارت
مازالت الألحانُ تُعزفُ
لا سكّر في القهوةِ
لا كآبة شديدة هناك

ما زالَ الشايُ مُرّاً
هناكَ أيضاً شايٌ مُحَلّى
ثمّ شخصٌ أعسر
وليس من شيءٍ يُحكى

فخٌ منصوبٌ
دارٌ مازالت قائمة
وابن تاركوفيسكي
يدعى أيضاً تاركوفيسكي

في الصباح الباكر فطورهُ
القهوة غير مُحَلاةٍ
الشمسُ تضيءُ المرجَ
لا كآبة شديدة هناك

جزيرةٌ في البحر ِ
ما زالت الموسيقى تصدحُ
ثم رجلٌ أعسر
لا يغرق

في يوم ما ستشتعلُ الحربُ
مازال الشايُ مُرّاً
موزارت لا يموت
هناك أيضاً شايٌ مُحَلّى

لا شيءَ هناكَ فالديكة لا تبيض
حكايةٌ غريبةٌ هي
عن أيّ شيءٍ تحكي
لا شيءَ يُحكى

1 ـ هذه القصيدة التي كتبها الشاعر جاو كسيغجيان ترجمتها عن اللغة الألمانية. ولطبيعة القصيدة التي لا تنشغل بالبلاغة، بل تناهضها قصداً، تتكون من جمل مفيدة قصيرة، خالية من أدوات العطف، غير مترابطة عياناً كما هو تقليدي في معظم النصوص لتؤدي إلى المعنى مباشرة، غير معتمدة على تزويج الكلمات، وبعيدة عن الإيماجية المبهرة والانشغال باللغة، تكون القصيدة في كل اللغات هي نفسها تقريباً. ولذلك فإن نقلها إلى العربية لا يفقدها ما في الأصل من الغرض الذي أراده الشاعر.

2 ـ يوحي عنوان القصيدة، لأول وهلة، بالانفصال عن النص، لكن القصيدة التي يتكرر فيها نظام الأسطر الأربعة، عشر مرات متتالية، تحاول أن تكون كحركات رقصة الفالس التي يؤديها شخصان بـ 3 / 4 إيقاعات. أو حركات تتكرر، تذهب وتعود. ورقصة الفالس التي بدأت في نهاية القرن الثامن عشر في فينا أصبحت رقصة عالمية في الربع الأول من القرن التالي، وتعتبر اليوم بين عشرات الرقصات التي ابتدعت الرقصة الكلاسيكية والأساس المعترف بها للتطور الذي بدأ بعد ذلك. وتقترن الرقصة وموسيقاها ببعض الحداثة بالمقارنة مع الموسيقى الكلاسيكية التي يأتي على ذكرها عندما يقول ( مات موزارت) ثم ينفي ذلك بتلقائية ( موزارت لا يموت) ( مازالت الألحان تعزف). وربما بهذا الاستدراك يمنح الشاعر خصوصية معينة للاستمرار والتواصل فيما لا يؤكد على أهمية ذلك في الاستنتاج. بمعنى أنه يسرد الحالة دون تيقّن أو تأكيد على عملية تطور قائمة يقر بها ويستنتج منها. أنها مجرد عرض يستحضر الزمن في انشغالا ته والأخلاق القائمة فيه وجماليا ته ليحدد بهدوء مجرد حالاته المتغيرة.
القصيدة تحيلنا إلى حساسية شاعر يقتنص العالم الذي يحيط به كمفردات غير مرتبطة بعضها بالبعض ارتباطا عضوياً. هو مشاهدُ يلتقط المفردات معزولة ويقدمها كما هي في حزمة من الصور يمكن تجميعها وربطها، كل على هواه وكل على استنتاجاته الشخصية، ولكنها بالتالي تبقى صوراً معزولة لعالم لا يقين في إمكانية كشف حقيقته، عبر تلك الصور، كجوهر ثابت.

3 ـ يستهل الشاعر قصيدتهِ باسم تاركوفيسكي، وعلى الأرجح، كما سنرى، أنه اسم صانع الأفلام السوفياتي أندريا تاركوفيسكي. ويعتبر الشاعر الصيني جاو كسنغجيان نفسه توأماً لتاركوفيسكي، من حيث التشابه في السيرة وفي المعاناة وفي الموقف من الحياة ومن الإبداع.
يعتبر تاركوفيسكي(1932) إلى جانب ازنشتاين وبودوفكين أحد أهم المبدعين الروس في مجال السينما. وقد اتسمت أعمال تاركوفيسكي بخصوصية جسّدَ فيها من خلال رؤية ذاتية شفافة أجواء حزينة كالحة، عميقة الإيحاء والدلالة. وبثقافة نخبويّة ـ معارضاً الأيديولوجية الثقافية الرسمية ـ السوفييتية آنذاك، حقق أعمالاً اتسمت بعمق العواطف وعكست التعارضات في الذات الإنسانية غير المتلائمة مع العالم الذي تعيشه، لجهة الواقع اليومي المعاش، ولجهة التاريخ والذاكرة الشخصية.
غادر تاركوفيسكي موسكو في العام 1983 إلى باريس ليستقر فيها. وقدّمَ هناك quot; نوستالجياquot; و quot; الضحيّة quot; وهما من أكثر أفلامه تجسيدا لفكرته الإبداعية. ويجد الشاعر الصيني جاو، الذي انشغلَ في بلادهِ بالثقافة الغربية الفرنسية وترجم منها إلى لغته، تعاطفاً وتوازياً في محنتهِ مع محنة تاركوفيسكي. وهو يشعر بالوحدة وبالانقطاع عن المكان وعن ثقافته بعيداً عن البلاد. كما يشعر بالغربة في مجتمع مختلف بهويتهِ الثقافية وتكوينه الاجتماعي، وهذه في الواقع غربة مزدوجة وانقطاع يقود نحو شعور حادٍ باللاجدوى فيرى العالم متقطعا غير مندرج تحت نظام محكم الارتباط، وهو الذي رفض في بلاده الشمولية فاصطدم بسلطةٍ مركزية تحَوِّل كلّ شيء إلى أدوات استخدام منزوعة عن ذواتها، قابلة للمقايضة في مجتمع استهلاكي يختزل الحرية ويكرس الاغتراب. ويبدو أنه في المجتمع الجديد موجع الروح مطوق باللاخلاص لم يبق له غير أن يحفر في ذاته ويقي فردانيته. ولذلك يقول في لقاء له عن شرط الأدب quot; أن يحاول إنقاذ روحه التي تختنق تحت وطأة المجتمعquot;

4 ـ تتكوّن القصيدة من 40 سطراً وهي مقسّمة إلى 10 مقاطع، يتألف كل مقطع من 4 أسطر. وبنظام حاذق وصناعة واعية مقصودة، خالية من أدوات العطف ومن الوصف المفتعل أو من الإيماجية الفاضحة تُختزل هذه السطور الأربعين إلى حوالي عشر جمل توحي بمضمون القصيدة، وتقود نحو الانفعال بها، أو التفاعل معها، وتقدم من ثمً إمكانية فهمها. وهذه الجمل يمكن في الواقع قراءتها مقطوعة ومعزولة عن بعضها البعض في البنية اللغوية وفي الشكل. كل عبارة منها تقدم جملة مفيدة غير مرتبطة ميكانيكياً بالجملة التي تليها. تتفق آناً مع فكرة يقولها ويكررها وتناقض فيما بعد ذات الفكرة : ازدواجية بسيطة فاضحة يقصدها ليعلن عدم الثبات في الأفكار وفي الواقع ويحدد ببساطة الحقيقة المرئية والمتخيلة والواقعة على أنها ليست حقائق خالصة البتة.
وربما أراد جاو بذلك أن يعزل عالمه ويختصره إلى نظام من الدلالات المعزولة،. وبهذا يمكن أن يرى العالم مختزلاً غير مترابط في وقائعه وأحداثه وأشيائه، بينما كل هذه مطروحة بمثابة أيقونات موضوعة الواحدة إلى جانب الأخرى. يرى الإنسان هذه الوحدات ويحاول أن يضفي عليها المعنى ويستثير بها المخيلة، وذلك بربط هذه الوحدات وفق وعيه ومصلحته ليحولها إلى لغة ومعايشة وخطاب. ولربما يقول لنا الشاعر في هذه القصيدة أنه يفهم العالمَ ويقبض عليهِ بالكلمات فقط حيث لا يمكن الركون إلى جوهر واحد، أي باللغة التي هي وسيلة للوصول إلى المعنى قبل أن يقوم الذهن بالمعرفة ويجدد المعرفة المجردة بالكلمات وبواسطة اللغة.

5 ـ في نهاية القصيدة تكثيف للمعنى، حينما يقول الشاعر أنه quot; يحكي quot;. والحكاية استطرادٌ في سرد وقائع وأحداث حقيقية وغير حقيقية، وتنطوي أيضاً على رواية الماضي. أي أن الحكي مجرد أداة للإيصال وينطوي على ابتداع وخيال ويحاول مَن يحكي أن يقبض على الواقع الآني أو الماضي بالكلمات التي لا يمكنها أن تقدم الواقع كما هو بالضبط أو كما كان. وبقدر ما تكون الحكاية محاولة سرد للواقع من منظور الذي يسرد تكون أيضاً ضرباً من الوهم. كل سارد يرى ما يريد وللحكاية الواحدة ربما مئات الوجوه. وكل ما يقوله الشاعر في قصيدته quot; حكاية غريبة / عن أي شيء تحكي / لا شيء يُحكى quot; أي لا شيء يمكن أن يستعاد كما كان لحظة حدوثه. وهكذا بالتالي ما تمّ سرده ( القصيدة أيضاً ) ليست حكاية عادية حدثت في الزمن أو في المكان، وإنما هي مجرد سرد لأخبار ـ جمل غير مترابطة، بالأحرى غير مستمرة في إضاءة المعنى وتطويره. هكذا فإن القصيدة تنفي بقصد تقديم واقعة درامية وتشكك في قراءة تستنبط من خلال المضمون انفعالات استثنائية، أو تمثل عالماً كثيف التداخل والتفاعل قائماً أمام المعني به لحظة التبادل، قبل أن تتحوّل إلى التعبير عن الموقف بالكلمات. وإذا كنا بالكلمات نتعرف على العالم فستكون الكلمات مجرد وسيلة لمعرفة عالم واحد يمكن التعرف علية فيما تبقى عوالم غفيرة قفا الجمجمة غير مدركة بغير الكلمات.

6 ـ تبدو القصيدة مقتصدة ومختزلة، متكوّنة من جملة تؤدي في ذاتها معنى واحداً توصلها مباشرة وتعيش معزولة عن بعضها البعض. هي جملٌ لا تلحّ عياناً على الإضاءة الشديدة بارتباطها بالجملة التي تليها، أو بالفكرة التي تسبقها. وهي لا تفتعل العمق أو توحي بالصخب لتوصل المعنى مباشرة أو الفكرة مستفيدة من الجملة التي تليها. ويؤكد الشاعر على أن الجمل يمكن لها أن تؤدي إيحاءات مختلفة بتغيير تراتبها ومواقعها. وهذا ما فعله بالضبط. وربما يريد أيضا أن يقدم لنا عالماً، هو عالمه وعالمنا، على هيئة مفردات مقطوعة تعيش بذاتها، لكنها تجد المعنى والعمق لدى تجاوزها.هكذا يكتب النص مرتان: مرة من قبل الشاعر ومرة اخرى من قبل القارئ. النص قابل لإعادة الخلق مئات المرات، والتأويل خصلة مرتبطة بمسعى الحرية.

7 ـ نكشف في القصيدة عالم جاو الهادي، غير الصاخب الذي قدمه لنا وأحالنا بهِ إلى تمثّل المعنى لكي نكون فاعلين بهذا التمثل ولنخلق لنا طقساً عبر القصيدة وللقصيدة نفسها، نقف أماها بحساسية رقيقة من دون انفعال. وأعتقد أنه بتقديم صورة عالمه بقصيدة جديدة في رؤاها وفي صياغتها استطاع الإبقاء على خصوصية الإرث الشرقي والصيني خاصة، على خلاف عالم الثقافة الغربية، على العموم، الذي هو متفاعل، فاوستي إجمالا، منشغل بالدراما وبالتفوق على الأرجح، وبالوقوف قبالة الأشياء والآخرين للبحث وللتعرف على الذات الحردة الملتاعة التي لا تني في كل محاولة اكتشاف لها أن تزداد رغبة في المزيد من البحث عنها. وأعتقد بأن القصيدة الغربية، على الأغلب، جزء من الثقافة التراجيدية والدراما الذي محوره الأساسي هو الإنسان الذي يريد آن يستحوذ ويغير، لا أن يتأمل ويكتشف العالم برضى، منشغلاً مع نفسه بالدرجة الأولى دون أن يكون ملتاعاً وصاخباً يقاتل ما هو ممنوح ومعطى له.

..........................

7- إضاءات عن حياته وموقفه من الأدب
جاو كسينغجيان أول كاتب صيني توّج بجائزة نوبل للأدب في العام 2000. كان لاجئاً سياسياً في فرنسا منذ العام 1988 واكتسب جنسيتها بعد عشر سنوات. هو ضحية من ضحايا ما سمي بـ quot; الثورة الثقافية quot; في عهد ماو تسي تونغ، وقد عانى وتشكل وعيه على قدر كبير من خلال آلية قمع السلطة ومحاولة صياغة الناس وفق قناعة ايديولوجية محددة. ويعتبر أيضاً من جيل مجزرة تيان آنمين حيث شكلت حدثاً مهماً فرز عدداً من المثقفين الذين اعتبرتهم السلطة من quot; المنشقينquot;.
كسينجيان كاتب ومسرحي لا يعتمد في نتاجه على إرث ثقافي أو توصيف نظري معين، بل يدعو في النص الأدبي أن يكون منطلقاً ومتحرراً من كافة القيود. في عمله الأساسي quot; جبل الروحquot; يصف سفرة إلى عمق الصين، صين الفيلسوف لاوتسي، التي تقع على تخوم quot;عالم الغبارquot;. رواة قصصه يبدلون أدوارهم من سرد الـquot; أنا quot; إلى quot; أنت quot; وإلى quot; هو quot; كل وفق ما يتحدثبه عن وقائع وأحداث يومية ويستبطن سرده أو يستعرض ويقدم شروحاً فكرية وفلسفية. أما استخدامه للـ quot; نحن quot; في الرواية فتأتي في سياق التعبير عن الكثرة لا عن الفرد.
كتابهquot; الرجل الوحيدquot; هو صرخة رجل يستعرض وقائع مجزرة حدثت لأسرته. ومن الواضح أنه أكثر من تحديد للعزلة والوحدة، بل هو ضرورة تقديم شهود فرديين على الجريمة.

8 ـ مقتطفات من لقاء
ـ كيف تصف نفسك اليوم ؟ عن المنفى، وعن الإبداع؟
ـ أعتبر نفسي مواطناً عالمياً.أنا رجلٌ محطم تمكن أن لا يدع نفسه تمتثل لضغط قوة السلطة، وتحدثَ بصوته الخاص إلى العالم.
ـ في الخامس عشر من عمري، إثر قراءة بروسبير ميريميه حلمت في الليل: وجدت نفسي أنام مع امرأة مصنوعة من رخام. كانت جميلة وباردة، لأنها مجرد تمثال سقط من السماء على الأرض. امرأة استلقت بين الدغل والأعشاب في حديقة فوضوية متروكة بغير اعتناء. هكذا أضعت نفسي في حرية منفلتة عامرة وفائضة. هذه الحرية جلبتني إلى فرنسا، ولكنها توصف اليوم عندنا بالتدهور وبالانحطاط.
ـ كنت في البداية مترجماً للأدب الفرنسي الكلاسيكي وحتى العام 1966. وفي أثناء ما سمي بالثورة الثقافية أرسلوني لإعادة تربيتي الأيديولوجية. هناك أدركت بوعي أنني كائنٌ كاتب. عندما لا يستطيع المرء أن يكتب، أو يمنع من الكتابة، يعي بعمق ضرورة الكتابة والحاجة إليها.الأدب يسمح أن يحتفظ المرء ويحمي وعيه كانسان عبر الكتابة. بدأت الكتابة في مرحلة مبكرة. كتبت الشعر في البداية، ثم كان عليّ آن أتمزق كل ما كتبت. كنتُ مراقَباً على الدوام، عشتُ في خوف دائم من أن يوشى بي. ثمً بدأت أكتب مجدداً وأخفي نصوصي في حشوة القش التي أنام عليها. وبعد الثورة الثقافية تمكنت أن أنقذ الكثير من الترجمات ليونيسكو وبريفير وآخرين.
ـ كتابي الأول نص عن فن الرواية الحديثة، وبهذا النص أصبحت هدفاً للنقد والتجريح. اعتبروني هامشياً ودعياً في الحداثة، و بأنني أخفي نفسي تحت غطاء الأدب الغربي وقد تلوتُ عقلياً وروحياً. واتهمتُ بزعزعة أركان الواقعية الثورية ومطلوب مني أن أنتقد نفسي علانية في الصحافة أمام الملأ.
قلتُ لنفسي: عليك أن تقاوم وتصمد، وتكتب لنفسك من دون أية قيم جمالية تفرض عليك، وأن تقبل حقيقة عدم وصول ما تكتبه للناس. هكذا كتبت روايتي الأولى quot; جبل الروحquot; ويحتوي الكتاب في الواقع على ما اعتقدت به وقاومت من أجله: البحث عن لغة يمكن التعبير من خلالها عن الفردانية بحرية تامة. كتاب يمزج ما بين الأسطورة وأدب الرحلة ومصادر تاريخية وملاحظات مدونة عن حياة الناس في الماضي. لقد استغرقت كتابتها سبع سنوات أنهيتها في فرنسا.
ـ الكاتب إنسان عادي تماماً، وهو ليس وكيلا للشعب، وإن الأدب لا يمكن إلاّ أن يكون صوتاً خصوصياً للذات. الأدب الذي يتحول إلى تمجيد بلد ما أو علم شعب ما، وإلى صوت حزب من الأحزاب يفقد خصلته ويسقط صفته وسجيته فلا يعود يسمى أدباً. هدف الكاتب ليس أن ينشر بل أن يتعرف على نفسه بالدرجة الأولى. وحينما كتب كافكا وبيسوا، على سبيل المثال، لم يكن هدفهما تغيير العالم
أنا أعتقد بما أسميه بـ quot; أدب باردquot;: أدب الهروب لينقذ نفسه، أدب يفتخر بذاته،
يحاول أن ينقذ روحه التي تختنق تحت وطأة المجتمع. أعتقد بأدب هو الآن وهنا للأحياء فقط. على المرء أن يدرك كيف يمكنه أن يخدم الحرية ويكون جديراً بها. وعندما يستبدل الكاتب الأدبَ ويقايضها بأشياء أخرى فسيهرب منه بالتأكيد.