اغنية الرحلة
كنتِ أقل من أن يحبكِ، لكن قلبه كان مصرا على الاحتفاظ بوسامته: هكذا قاوم كل جفاف العالم وهو ينقل اليكِ قــطرةَ المـــــاءِ: قطرة الماء الوحيدة التي تحوّل صحراء روحكِ الى ترنيمة يـنبوع، يهزّ بها المبتلـّون بالقحطِ المهدَ، فتتسرب خارج جسدكِ عدوى الرمل التي نقلوها معهـم في الطريق اليكِ. لم تنفع معكِ الاغاني التي كتبها بلغة القمرلأن ظلامهم كان مشعا، ولم تـكـنس الترانيم غبارَ الجحود مـن على حبال صوتكِ، لأنهم زرعوا نعيبَ غربانهم هناك:

كل عواصف الخريف كانـت رهن اشارتكِ، لكـنكِ اكتفيتِ بأن تراقـبي كيف يتم تجريده من خضرة الربـيع، فهو الشجرة التي لابد من نهبها، بَـيَدَ أنّ قلبه لبث محتفظا بفروسيته، وهو ينقل اليكِ قطرة المـاء: قطرة الماء الوحـيدة في هذا الكـون،التي تجعـل منكِ مشروع كوكب صالـح للحـياة، حتى إذا مـا وصل أخيرا، ووضـع القـطرة فـي صحن راحتـيـكِ، لم تريـنه، ليـس لأنكِ خسرتِ نـظـرتــكِ الباطـنية فقـط، وإنما لأنه كان قد تبخـّر تماما، مــن شدة العطش، خلال الرحلة.

جاز شرقي
كنتُ أسكـرُ كثيرا في تلك الأيام، وكان يربكـني أني، في كل صباح، لا أجد النافذة مكانها: النافذة التي أنظر مـن خلالها الى امرأة، هـي كــل الوردة، لو فكـّر العالـم أن يـصير عطـراً.لا أعرف.. ربما لأن النـورالذي كانت تتركه ورائها كان قويا، فيحجب عني النافــذة: النافذة التي مـن خلالهـا كانـت تثــب الى غرفــتي، في الـليل، فأقــود روحَـها، في لجّة السـُكر، الى مـدن كنتُ أحـلمُ بها، في قصائد هاذيـة، كتبها مجهولون على الصفحة البيضاء من سُـخام حياتي.
لم أكـن متأكـدا ممّـا يحصل: لماذا تظهـر النـافـذة على الحائط، في الـليل، وتختـفـي في الصباح؟ حتى قـررتُ، ذات ليلة، أن أتوقــف عن السـُكر،لأنقبَّ عنها بجدية تحت الاغطية، حيث يتدثر المنفى مـن شدة البرد، في المرآة التي تـشطف رؤوس المارّين في أعـماقها، تحت حنفية الماء،
في الكتب وهي تـُخيط بدلة المكتبة، في..
ولم يكن مافعلتُ مجديا، فليس ثمة أثر لـهـا، ولا للـمرأة الـتي كانـت، طوال الليل، تجـمـع دموعي براحتيها، لتغسل بـهـا بصيص الضوء المتسلـل الى عزلتي مـن مسام الافـق، أو تفرك برائـحتـها جسـدي، فتتساقـط منه تـقـاويـم السـنوات التي حفـر عبرها الألمُ نفقه اللانـهائــي، داخـل روحـي، فوصلـتُ من خــلاله الى هذه الغرفة المقـتطعـة مــن حقول الخيال..
كنتُ مربَـكا من نتائج البحث، وأشعـر باضطـراب من صحة كونـي كنتُ موجودا، لأن العـالم كله، العـالم برمـته، كان قـد فصّل حـياتي، حسب حجم كل قتيل في الحروب عبر التاريخ، كما شجرة انفجرتْ في قلبها عاصفة ُ ريح، فلم يعـد ممكـنا جمع أوراقها المتطايرة،التي تحـوّلتْ الى كمائـن طيور، وأفخاخ عصافير في الغابات.

أين النافذة؟

كنتُ قد عدتُ الىالسـُكر، من شدة الصراخ، فتجلّتْ لي: وجدتـُهــا لابثة في مكانها قبل أن اُوجد أو توجد الغرفة، ثم رأيتُ المرأة التي لم يمسسها أحد قط، لكن... لم يكن ممكنا الاستمرار بالصراخ
لأكثر من ليلة واحـدة،لأنهم حملوني الى الخارج في الفجر، تركوني وحيدا في العراء، وثمة ورقة في يدي: ورقـة حدّقــتُ فيها بذهول، سنوات طويلة، حتى أنني، على ضوء ماجـاء في الورقة، فسـّرتُ الغموض الذي ظـلّ يكـتنفُ فـكـرة الشيطان أو الملاك، فقد رأيـتُ حـجـم الـقسوة في قـلب هذا العالم، متجلياً في عقد الايجارالذي يذكر أنَّ الغرفة، التي استأجرتها في تلك الأيام، كانت بلا نافذة، أصلا.

الخادم
في تلك الساعة التي تطير فيها الصخرة والريشة، إلا أنتَ، انتظرتَ أن ينجز الخادم، المخبوء فــي خاتم سليمان مهمته، فتفتح عينيك، بعد جملتين قصيرتين، لتجد نفسك في مدينة اخرى. لم يكن ثمة مَهرَب من هذا الطيران بين المنافي، الا بالسحر، حيث الترياق اجنحة للتحليق، والجرعة الواحـدة منه تـذكرة للسفر مع الدخان.
- ثمة امرأة ما هناك تنتظرك، عارية، عند البحر.
يقول المهرّب الذي هبط نحو القرية لإستدعاء صاحبة الخاتم، فتأخذك النشوة عاريا الى البحر، حيث المرأة تبتسم،عارية بانتظارك، فتلوّح لها:إنَّ شيئا ما يوشك أن يحصل، معجزة ما قد تحدث، فيمـا في الخارج الشرطة، يتقدمها الخادم شخـصيا، سيقتحمون الكهـف الذي لجأتَ اليه، في تلك الساعـة التي تطير فيها الصخرة والريشة،إلا أنتَ..

أُفكـّر مثل شجرة
كانت تنمو، في أعماقي، غابات مذهـلة. كنتُ أحرص عـلى أن أزوّدها بما في الخيال من ينابيع، ظِلال، وأثمار، لكن خططــي تبدلتْ حين وُلدتُ كانسان. في الأصل كنتُ مشروع شجرة، ولم أعرف لِـمَ نبتُّ الى جواركِ بهذه الهيئة المحطّمـَة، حيث كل لمسة منكِ هي الفأس. سألبث مفكـرا
في بؤس مخيالكِ، حتى وأنا أتساقط ورقة بعد ورقة، لأن سارية ضميركِ لن تتخذ الأخضر راية، فالخريف أبدا هو من يرفرف فوقها، كما أنني لن أكف عن معانقة ربيعي الخاص، وإن كنتُ شجرة تعيش في غابة إنسانكِ الشاحب.