إلى أمي

كلُّ شيء حوله أبيض .. حتى قلبه أبيض.
الجدران بيضاء، السرير أبيض، الأبواب بيضاء، الأرضية بيضاء، هو والبياض فقط يسودان الكون في هذه اللحظة. كيف اتحد هذا البياض كله؟
لا يدري.
تتوالى عليه الغرف البيضاء وهو لا يدري .. الكون ضيق، وهذا البياض عالمٌ واسع.

السنة الأولى من البياض ...
حمَّى، وقوع، جروح، مسكنات، ضمادات، ولكن أربعةَ عشرَ عاماً لا تدرك أنَّ أول الغيث قطرة. الحمَّى تسكنه دائماً، ولكن روحه تنتزع الألم في كل مرة، وتحلق مع حماماته البيضاء الثلاثين، فيعود إليها بعد يوم أو اثنين.

السنة الثانية ...
يتسع البياض أكثر، تتعدد الغرف والشرائط، يزيد الوهن، تطول الأيام وتكثر الأدوية ويطول انتظار الحمَامَات، يتساءل: ما الذي يحل بي؟
الأم: إنه فقر دم شديد يا حبيبي، تَحَمَّلْ الألم وواصلْ العلاج كي تعود لنا.
طبعا سأتحمل. مازالت قيادة السيارات حلمي المنتظر. وأبي وعدني بسيارة فيتارا بعد نجاحي في الثانوية.
تبكي الأم، يطفئ دموعها ويتجهان نحو البياض من جديد.
شعره يتساقط، العلاج يتغير، لم يفهم معنى العلاج الكيماوي، فيبتسم كعادته وتبكي الأم. الأطباء غير أكفَّاء هنا، يجب البحث عن الأفضل. في ألمانيا أفضل مستشفى لعلاج ...؟
سافر وسافرتْ معه.

السنة الثالثة من البياض ...
عاد بعد أربعة أشهر، يحمل شوقاً لحماماته، ظن أنَّ رحلته مع البياض انتهت. عاد شعره ينمو، الكل يبتسم، إلا هي. لم تغفل ولم تتأخر دقيقة عن أدويته، لا ليلاً ولا نهاراً.
يقضي أياماً طويلة في المستشفى، يعود إلى البيت، تقضه الحمَّى من جديد. الجو ملبَّد وكل شيء يُفقده المناعة ويعود إلى البياض.
الزيارة ممنوعة إلا بالاحتياط التام.
الجميع يتبادل الإقامة معه. والكل مهمومٌ وحزين، وهو يبتسم وينتظر الخروج ليتفقد حماماته.

السنة الرابعة ...
تساءل: لماذا طال المرض؟
كيف مضت ثلاث سنوات وأنا ما بين البياض والبياض؟ أدرس بالمدرسة يوماً وأنام بالمستشفى يومين؟ لماذا يسقط شعري مرةً بعد مرة؟ لماذا أسافر إلى ألمانيا؟ ماذا تعنون بنقص المناعة؟ لماذا لا يستقر دمي؟ لماذا لا يتحمل جسدي الحمَّى؟
بدأت الثامنة عشرة تزحف إلى جسده، تعلم بين البياض والبياض كيف يقود السيارة، وأخيراً حصل على رخصة القيادة، وقريبا ستأتي الفيتارا.
قال له الطبيب: هناك جديد.
ـ ماذا؟
المرض انتشر إلى كبدك.
ـ أي مرض؟
مرضك.
ـ وما هو مرضي؟
لا تعلم؟
ـ لا ...
أربع سنوات ولا تعلم؟
ـ فقر دم ونقص مناعة.
ألا تعلم معنى هذا؟
لا ...
ـ أنت مصاب بسرطان الدم .. اللوكيميا.
يصيبه الوجوم لأول مرة. لقد عرف سبب البياض، استولى المرض على الكبد .. وتوجب السفر مرة أخرى.
والامتحانات؟
ستؤديها حين تعود، طلبنا لك إذناً. وستجد الفيتارا بانتظارك.

اجتمع بها ذات صباح.
ـ علمتُ مرضي يا أمي، ولا أخشاه.
أحبك ...
تنهمر الدموع.
ـ يكفي بكاء .. سأعود، سأنتصر.
ذهب معه أخوه هذه المرة ليتبرع له بالنخاع. بعد أسبوعين وذات ليلة رن الهاتف:
نجحت العملية، انتصرنا.
... ... اختلطت الدموع.
سنعود بعد يومين بالضبط.
أختك أنجبت.
ـ ماذا أسميتم الطفلة؟
مي.
ـ اسم جميل.
ـ أمي هل رأيت جنازة الأميرة ديانا على التلفزيون؟
نعم، لماذا تسأل؟
ـ تذكرتك وأنا أشاهدها عرفت أنك ستبكين كثيراً لو شاهدتِها.
أنتظرك يا حبيبي .. أحبك.

صباح اليوم التالي، رن هاتفٌ آخر.
ـ انفجر المخ. العملية ناجحة ولكن المخ انفجر، لم يحتمل.
لم يحتمل ماذا؟
ـ العملية.
مات، ماااات ؟؟؟؟؟؟
أحضروه يوم الثلاثاء. وطلبت رؤيته، صرخت، هذا ليس ابني، ليس هو، وجهه منتفخ، شفتاه متقرحتان، قتلتموه، شوهتموه، قم، انهض، الفيتارا بالخارج. الكون ضيق يا عيوني، عيونها على جسده، وعيناه نحو السماء.
مات .. طارت الحمَامَات.
لُفَّ بالبياض .. حتى النهاية بيضاء، ولا رائحة للألوان الأخرى.
كلُّ شيء حوله وبداخلهِ أبيض .. حتى قلبه أبيض.

كاتبة ومترجمة
[email protected]
قصة سنوات البياض من كتاب يصدر قريباً للمؤلفة بعنوان quot;المُمَثِّلquot;