علينا ان نُدرك ان الدراما موجوده في ردود افعالنا تجاه العالم، وليس في العالم ذاته. ان سر الدراما الدائم يكمن في اسلوبها من وجهة نظر الكاتب او الممثل او المشاهد.
اذا كان ادراك الفنان للواقع مشروطا بالعصر الذي يعيش فيه وليس الحاله الآنيه التي يمر بها أو الأداة التي يستخدمها، فإن فهم الأسلوب يمكنهُ من فهم الحالتين معاً.
ولكي نسير في طريق واضحة المعالم عبر غابة كثيفه تراكمت فيها معانات واحباطات وانجازات المسرحيين العراقيين في المنفى والداخل يجب علي اجتياز الكثير من الحواجز الضبابيه كي تتضح الرؤيا لمسرح ينضج تحت الخشبه.

عندما وصلت الى الدنمارك في منتصف السبعينات من القرن الماضي كانت دهشتي كبيره بهذا العالم الجديد و بكل شئ. وعندما دخلت الى احد المسارح الدنماركيه لمشاهدة احد

السخام من تأليف روبيرت شنايدر واخراج كاظم صالح

لعروض المسرحية كانت دهشتي اكبر، وكانت هذه المره دهشه فيها شئ من الخيبه والمراره عند المقارنه بين مسرحهم ومسرحنا اليتيم المسكين، مسرحنا العراقي السجين بين جهل وقمع السلطه والحالمين بالمستحيل. مضيت مفكرا مالعمل وكيف استطيع ان اعمل في مجال المسرح في هذا البلد الذي اجهل لغته وعاداته وتقاليده وثقافته. وحتى ماتعلمته في معهد الفنون الجميله في بغداد يبدو نظريا اكثر مما هو عملي اضافه الى التطور التقني والسينوغرافيا التي كنا نعرفها باسم الديكور !!؟
اذن كان لابد من اعادة التأهيل والمتابعه المستمره وتعلم اللغه والتعرف على ثقافة البلد.
أن تاريخ المسرح هو تاريخ الثوره والتفاعل , حيث الأشكال الجديده تتحدى الأشكال القديمه وتعمل الأشكال القديمه بدورها على التمهيد للجديد. كان لابد من من تحديد المسافه بين الحلم والممكن. الفنان طموح بطبيعته ويحاول الحصول على افضل النتائج باسرع وقت ممكن.
الفنان في الغربه يواجه مصاعب جمه في التأقلم في الحياة الجديده وفهم ثقافة المجتمع الجديد. ورغم أفق الحريه الواسع في مجال العمليه الأبداعيه إلا انه يجد نفسه مقيد الحركه في الحصول على فرصة عمل او البدء بمشروع مسرحي ذاتي حيث تواجهه مشاكل الحصول على الدعم المادي وتوفير الكادر الفني وقاعة للعرض ومعوقات ومنزلقات لا تعد وتحصى وهذا ادى الى احباط معظم فناني المنفى العراقيين. في الوقت ذاته يعاني فنانو الداخل من القمع الفكري ومصادرة الحريات والزج القسري بالماكنه الأعلاميه للسلطه اذا ارادو البقاء على قيد الحياة وقبلو مرغمين شروط الممكن تاركين المطامح الفنيه على راحة كف القدر. فالمسرح في فترة الأستبداد والتسلط تحول الى مسرح تهريج

مشهد من مسرحية كلكامش
ترويج اكاذيب السلطه وساهم في خداع الشعب بالضحك على مأساته و سيطر عليه الدجالون والفاشلون من الجهله فيما تراجع المبدعون الحقيقيون و اختبئوا تحت الخشبه يبحثون عن طريق الخلاص. اذن كيف يمكن لأي مسرح او طاقه فنيه ان تنمو وتتطور في ظل هذه الظروف المستحيله.

في معظم الدول الأوربيه هناك ثلاثة اشكال من المسارح.
- المسارح الوطنيه المتواجده في المدن الكبرى وهي مسارح محترفه تمولها الدوله وتقع ضمن قانون الميزانيه العامه للبلاد دون تدخل الدوله في الأمور الفنيه و الأبداعيه وتشرف فقط على الشؤون الأداريه فيها.
-المسارح الأهليه : وهي مسارح اقرب الى المسرح التجاري تعتمد على التمويل الذاتي اضافه الى قيام الدوله بدعم التذاكر للجمهور بنسبة تصل احيانا الى 70% لتشجيع المواطنين بالتواصل بمشاهدة العروض المسرحيه.
-المسارح التجريبيه : وهي في غالبيتها مسارح هواة او بالأحرى تجمعات هواة ليس لها مسرح ثابت تستخدم المراكز الثقافيه وعدد من القاعات المنتشره في المدينه لتقديم عروضها. وتعتمد في تمويلها بالحصول على دعم مادي متواضع لكل مشروع تقدمه وهذه التجمعات والمشاريع التجريبيه تحظى بدعم جمهور الشباب و هي المتنفس الوحيد للفنانين الأجانب في البدايه.

قد نسخر من من الفكره القائله بان الفن يمكن ان يكون علما , لأنه عاجز عن اثبات صحة اي شئ ومع ذلك يستطيع الأتجاه التجريبي اغناء الخيال المبدع بشكل فعال ورفد الفن بقوه حيه جديده. وفعلا رفدت التجمعات التجريبه في اوروبا المسارح المحترفه بطاقات وافكار ومسارات جديده اخرجتها من اطارها التقليدي وجعلتها اقرب الى هموم الناس وتطلعاتهم. وهذا يبرز وجود سياسه رسميه وشعبيه لدعم المسرح في الدول المتقدمه نفتقدها في عالمنا العربي الذي قد يبذخ احيانا في مهرجاناته الرسميه والسياحيه حين يوظف الفنون لخدمة اغراضه السياسيه واستخدامها كمساحيق تجميل لوجهه القبيح.
في بداية الثمانينات والتسعينات اجبرت سلطة البلطجيه في العراق بممارستها القمعيه الوحشيه الكثير من الفنانين العراقيين للهرب واللجوء الى منافي ارض الله الواسعه. وكان تصورهم الأول ان العالم الجديد سيأخذهم بالأحضان وسيوفر لهم ماحُرمو منه على المستوى الفني الا ان الممكن المتوفر هو ضمان لشروط معيشيه معقوله وامكانيات الدراسه والتأهيل والتي استغلها عدد قليل جدا منهم اضافه الى خشبة المسرح المفتوحه لجميع المسرحيين والبقاء فيها والأستمرار للأقوى والأصلح، للمواطن دوما والمغترب الأجنبي احيانا. الا ان مطامح بعض المسرحيين من اللاجئين العراقيين لا تستطيع الأنتظار لمعطيات الحاله الجديده وما يرافقها من اجادة اللغه وفهم ثقافة ومزاج المجتمع الجديد فأصابها احباط آخر وردود افعال سلبيه مستهينه بثقافة ذلك البلد المُضيف واتهامه بالعنصريه وعزل الفنان الأجنبي مما ادى الى انزواء البعض تحت الخشبه الأوربيه البارده ثانيةً.
عربيا كانت سوريا البلد العربي الوحيد الذي وفر مناخا فنيا مقبولا للمسرحيين العراقيين الذين لجئوا اليها وفق ما تسمح به امكانياتها المتواضعه. وقد انطلق المخرج العراقي جواد الأسدي من دمشق وسطع نجمه عربيا كأحد اهم المخرجين العرب. كما ان المسرحي باسم القهار قدم اعمالا مسرحيه هامه خلال السنوات العشر الأخيره في الشام.
اضافه الى عدد آخر من المسرحيين لا تحضرني اسماؤهم من الذين ساهمو في اثراء الحركه المسرحيه في سوريا، الا انهم غادروها لاحقا بسبب سوء اوضاعهم المعاشيه بحثا عن منافي اخرى توفر لهم ظروف معاشيه افضل. فيما عاد البعض ثانية الى الى سوريا مفضلين الهم المسرحي فوق الخشبه على رفاهية العيش في الغرب منزوين تحت الخشبه في انتظار كودو.

في حين أنضم عدد آخر من الفنانين العراقيين في الدول الأوربيه الى تجمعات المشاريع المسرحيه التجريبيه لسهولة التعامل معها وامكانية الأنخراط في صفوفها وغادروها بعد عمل او اثنين ناقمين لأنها لا ترتقي لمستوى مطامحهم وانهم سليلوا حضارة وادي الرافدين العريقه !! متناسين ان كلكامش العظيم كان يغتصب العذراوات ويرسل الأ بناء للحروب ويترك الأمهات الثكالى يندبن حظوظهن العاثره.
وحاول آخرون استخدام التراث وتوظيفه سياحيا و بشكل سطحي بعيدا عن اي معالجه جماليه فنيه يدل على فهم خاطئ للحداثه لأن الحداثه تستهدف تحديث الأفكار النمطيه السائده وبمعالجات ديناميكيه لمشاكل الأنسان وملاحقة التطورات السريعه التي شهدها العالم خلال القرن الماضي وبدايات القرن الحالي اضافه الى الفهم الخاطئ في استخدام لغة الجسد في المسرح وتوظيف التراث بصوره شكليه كاستخدام كف العباس وتوزيع أقداح الشاي على الجمهور وقراءة المقام العراقي بالخط الكوفي !! وقام آخر بنصب مضيف على شكل صريفه مصنوعه من القصب والبردي نسبه للسومريين وكأن سومر ليس فيها شيئا غير القصب والبردي وانزوى آخر يبحث في صقيع اسكندنافيا عن اسرار التعازي الحسينيه

مسرحية شهرزاد اعداد واخراج كاظم صالح
طقوس عاشوراء وعلاقتها بقطع الفنان التشكيلي الهولندي فان كوخ لأذنه وآلام الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغورد وما الى ذلك من المحاولات الساذجه التي يدعي مبدعوها ان اعادة مسرحة التراث فرجه تدهش الأوربيين وكأن الأوربيون ليس لهم تاريخ وتراث. أوليس الأغريق من وضع اللبنه الأولى للمسرح قبل اكثر من ألفي عام.
المسرح هو تراث اوربي ولم يعرفه عالمنا العربي قبل نهاية القرن التاسع عشر. وهم الذين ساحو في ارضنا طولا وعرضا واكتشفوا ما في باطنها من كنوز وآثار ومعالم حضاريه وان صاموئيل كرامر يعرف عن اسرار الحضاره السومريه اكثر من اي باحث عراقي آخر وكتب عدة كتب عن حضارة وادي الرافدين. ان تجاهل هذه الحقائق اوقع الفنان العراقي المغترب في منزلق خطير ادى الى انعزاله وحدد قدرته في ايصال رؤيته الفنيه للمشاهد الأوربي وبقيت نشاطاته الشحيحه محصوره في اطار المناسبات الأحتفاليه للجاليه العراقيه في هذا البلد او ذاك.

يقول أميل زولا انه لا يجوز للمسرح ان يكذب.
يعتقد الكثير منا ان الغرب لا يعرف عنا شيئا والحقيقه وبعد اكثر من 30 عاما قضيتها في الغرب اكتشفت انهم يعرفون عنا اكثر مما نعرفه نحن. اود ان اورد مثالا على ذلك، ان ماجرى للشعب العراقي من ظلم وقمع وقتل وتدمير في عهد صدام مما لا يتسع لذاكره بشريه تصوره ومع ذلك لم اعثر على نص مسرحي عراقي يصور او يتطرق لمأساة هذا الشعب وكنت ابحث عن نص يجسد الهولوكست العراقي حتى اخبرتني كاتبه دنماركيه من اصل الماني عن نص لكاتب نمساوي اسمه روبرت شنايدر كتب نص عن لاجئ عراقي والأضطهاد والقمع الذي تعرض له مما اظطره للهرب من العراق. طلبت منها ترجمته الى اللغه الدنماركيه وفعلت ذلك بفتره قياسيه وحصلت على دعم من وزارة الثقافه الدنماركيه لأنتاجه واخرجته عام 1999وعرضت مسرحية السخام لأول مره في كوبنهاكن على مسرح كافيه ثييتر وكانت حديث الصحافه والتلفزيون الدنماركي. ثم عُرضت فيما بعد في بعض المدن الدنماركيه الكبرى والعشرات من المدارس الدنماركيه وشاهدها آلاف الدنماركيين وتعرفو على المأساة التي يعاني منها الشعب العراقي.

ان الكاتب روبيرت شنايدر تعرف على اللاجئ العراقي في احد مقاهي فيينا. وكان اللاجئ العراقي سعد طالبا يدرس الفلسفه الألمانيه في جامعة البصره واستمع الى قصته. الا انه لم يكتفي بما حدثه هذا اللاجئ بل راح يبحث ويستفسر من مصادر مختلفه عن حقيقة ما يجري في العراق. وكتب مونو دراما رائعه محكمة البناء الدرامي و بعيده عن السرد الوثائقي الممل. حين قرأتها لم اصدق ان كاتبا نمساويا يكتب بهذا العمق وهذه المصداقيه عن مأساتنا العراقيه. اعتقد ان المسرح العراقي سيكون اكثر اشراقا وابداعا بعد تلك المحنه الكبيره التي عانى منها ولفترات طويله فبعد زوال الديكتاتوريه ولاحقا الأرهاب واستتباب الأمن في العراق سيتفرغ الفنان للعمليه الأبداعيه في جو مفعم بالحريه والحب والأمل بشرط ان يتواضع الفنان ويحدد المسافه بين الممكن والطموح ضمن ظروف واقع العراق الجديد. فالحريه اهم شروط الأبداع هذا بالأضافه الى التلاقح الفني الذي سيحصل بين خبرة المسرحيين العراقيين في الداخل والخارج. وسينهض المسرحي العراقي من تحت الخشبه ليقف متالقا فوقها شامخا،رغم كل النكبات والأنكسارات، ليروي للأجيال ملحمة بلد لا يشبه كل البلدان وحكايه لا تشبه كل الحكايات
حكاية الأنسان الذي نهض من بين الأموات... وعاد ليصنع الحياة.
هو الذي رأى كل شئ... فغني له يابلادي.

[email protected]