... ومعضلة العراق مع قوى الإرهاب؟

عند متابعة الحياة الفكرية والسياسية في أوروبا عموماً، والغربية منها على وجه الخصوص، على المستويين الرسمي والحزبي، إضافة إلى شمولها لأوساط غير قليلة من المجتمع، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، يمكن تسجيل ثلاث ظواهر أساسية مهمة بدأت تأخذ مجرى جديداً أكثرة حدة وصراحة ووضوحاً، وأعني بها:

1.ظاهرة الميل المتزايد نحو اليمين في السياسة والاقتصاد وفي الحياة الاجتماعية والثقافية، كما تتجلى في التقليص المستمر للحريات العامة ومشاركة المجتمع في رسم السياسة ومحاولة الاقتصار على التمثيل البرلماني لإقرار كافة السياسات دون العودة إلى الاستفتاءات الشعبية، كما في موضوع الوحدة النقدية الأوروبية أو حتى الدستور الأوروبي. كما يمكن أن تجد تعبيرها في مجالين بارزين، وخاصة في أعقاب الأحداث الإجرامية في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، في مجال اللبرالية الجديدة وزيادة الإجراءات الأمنية بحجة الحفاظ على الحرية.

2.ظاهرة العداء للأجانب بشكل عام والعداء للسامية على نحو خاص، رغم الادعاء بغير ذلك، إذ أن استطلاعات الرأي التي تقوم بها مكاتب الاتحاد الأوروبي الخاصة بالعنصرية والعداء للأجانب في فيينا تشير في آخر إصداراتها بوضوح إلى تنامي هذه الظاهرة السلبية في سلوك وممارسات نسبة متزايدة من السكان الأوروبيين ومن مختلف الأوساط الشعبية والاجتماعية. وتتجلى في نشاطات غير قليلة وتنامي قوى النازية الجديدة واليمين المتطرف وظهورها بصراحة في ممارسة الدعاية وخوض الانتخابات والحصول على مواقع سياسية مهمة نسبياً.

3.ظاهرة العداء للولايات المتحدة الأمريكية، وتبرز هذه الظاهرة نتيجة ثلاثة عوامل، وهي:

•يرتبط العامل الأول برفض غالبية حكومات الدول الأوروبية وغالبية شعوبها للحرب التي شنتها الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية ضد النظام العراقي الدكتاتوري، إذ أنها كانت وما تزال تخشى من احتمال ممارسة الولايات المتحدة لهذا الأسلوب مع قضايا مماثلة في العالم بالارتباط مع القوة العسكرية الهائلة التي تمتلكها وغياب القطب المنافس لها في العالم.

•أما العامل الثاني فيرتبط بالوجهة القومية المتصاعدة في أوروبا التي تريد دفع دور أوروبا إلى المقدمة في مجرى المنافسة مع الولايات المتحدة الأمريكية. وتتبلور هذه الظاهرة في الموقف الفرنسي الألماني بشكل ملموس. وهي مفيدة أحياناً غير قليلة، إلا أنها تنطلق من صراع المصالح وليس من مواقع وسياسات مبدئية.

•والعامل الثالث ناشئ وجهة قومية وسياسية متطرفة تبرز لدى مجموعتين هما: مجموعة القوى النازية والقومية الشوفينية من جهة، ومجموعة قوى اليسار، ومنها قوى اليسار المتطرف، التي تجد في سياسة الولايات المتحدة تناقضاً مع توجهاتها وسياساتها ومن منطلق رفض الاستعمار الأمريكي الذي يريد الهيمنة على العالم من جهة أخرى. وبعضها ينطلق من المواقع السياسية للدولة السوفييتية إزاء الولايات المتحدة، كما في حركة السلام الألمانية وحركة معاداة الاستعمار النمساوية. وهذه القوى عموماً تساند الحركات الإرهابية في العراق ويجمع بعضها لها التبرعات بحجة أنها مقاومة مشروعة ضد الاحتلال.
والعامل الثالث هو الذي يهمنا في المسألة التي نريد معالجتها، وأعني بها ظاهرة الإرهاب في العراق وإشكالية العداء للولايات المتحدة الأمريكية في أوروبا عموما وأوروبا الغربية على نحو أخص والتي تمثلها القوى القومية وتتجلى في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء الأوروبي عموماً.
كانت غالبية حكومات الدول الأوروبية على خلاف بارز مع الولايات المتحدة بشأن الحرب ضد النظام الدكتاتوري في العراق من منطلق واقعي وعقلاني سليم مفاده أن الحرب لا تعالج المشكلات بل تزيدها تعقيداً. وكانت أوروبا "العتيقة"، كما أطلق عليها رامسفيلد تجاوزاً وتكبراً عليها وتسفيهاً لها. وكانت أوروبا من حيث المبدأ على حق في ذلك. والمشاهد الراهنة تؤكد أن الحرب عندما تبدأ لا يمكن تقدير متى تنتهي خاصة إذا لم تؤخذ كل الاحتمالات حتى أسوأها لما بعد الحرب، كما في حالة العراق، رغم المكسب الكبير في إزاحة الدكتاتورية عن صدور الغالبية العظمى من الشعب العراقي بكل مكوناته.
ولكن العراق قد انتهى من الحرب وأصبحت جزءاً من الماضي، ويتطلب التحري عن حلول للمشكلات التي تواجهه والناجم بعضها عن طريقة إسقاط النظام. لقد سقط النظام الاستبدادي الذي مارس الرعب والقتل والتشويه ضد الناس في البلاد ولم يعد الشعب يعاني من استبداد نظام صدام حسين وعصابته وأنفالياته وأسلحته الكيماوية ومقابره الجماعية، بل يواجه إرهاباً موجهاً ومنظماً صادراً عن قوى صدام حسين وقوى الإسلام السياسي المتطرفة وقوى الجريمة المنظمة والسياسات الطائفية المقيتة، التي تريد أن تجعل من العراق ساحة وموقعاً لتصدير الإرهاب إلى الدول الأخرى.
إلا أن حكومات أوروبية كثيرة، ومعها الكثير من الاحتكارات الأوروبية وجمهرة كبيرة من السياسيين والإعلاميين، تمارس سياسة مناكدة للسياسة الأمريكية في العراق وفي المنطقة بشكل صارخ لا لبس فيه ولا إبهام. وهي تدخل ضمن الصراع على المنطقة والمصالح الملموسة لهذه الدول المتقدمة. إلا أن المعاناة يتحملها الشعب العراقي أولاً وأخيراً. وتظهر هذه المناكدة الصارخة في ثلاثة مؤشرات، وهي:

1.عدم تقديم الدعم العسكري والأمني الضروريين للدولة العراقية لمواجهة ومحاربة الإرهاب أو تبادل المعلومات التي تساعد العراق في التصدي للإرهابيين بأمل إنهاك الولايات المتحدة وتلقينها درساً قاسياً لكي لا تكرر سياسة الحرب.

2.عدم تقديم الدعم المالي الذي تم الاتفاق عليه مع الدول المانحة، إضافة إلى إعاقة عمليات التوظيف الرأسمالي في العراق في وقت هو بأمس الحاجة إليه بهدف إعادة بناء اقتصاده وتشغيل النسبة العالية من العمال العاطلين عن العمل.

3.الادعاء بأن قوى الإرهاب في العراق تجسد مقاومة وطنية للاحتلال الأمريكي والبريطاني للعراق. وفي الوقت الذي تنشر ما يقوم به الإرهابيون، تقلل من أهمية المنجزات التي تحققت في العراق خلال الفترة المنصرمة. كما يجري التركيز في الإعلام على احتمال نشوب حرب أهلية طاحنة، حتى أن البعض قد أدعى بأن الحرب الطائفية قد بدأت في العراق منذ فترة غير قصيرة، وأن العراق سائر نحو التجزئة. ومن اطلع على إجابات الصحفي المعروف البروفسور بيتر شورلاتور على أسئلة جريدة برلين (برلينر تسايتونگ) المنشورة في العدد رقم 240 بتاريخ 14/10/2005 يؤكد حقيقة هذا النهج الخاطئ في الإعلام الأوروبي والألماني في آن.

ليس هناك من ينكر وجود أربع إشكاليات في العراق تساهم في تعقيد الوضع العام فيه، وأعني بها:

•السياسة الأمريكية غير العقلانية، سواء أكانت متعمدة أم غير متعمدة، تقود إلى إثارة المزيد من الناس وإلى تقليل من استقلالية الحكومة العراقية وممارساتها، بما في ذلك تركيزها على الحصص الطائفية من جهة وإصرارها على الالتزام بمواعيد غير عقلانية للانتخابات والاستفتاء وما إلى ذلك.

•ممارسات غلاة الطائفية والقومية في العراق الذين يسعون إلى اقتسام الغنائم في عراق منهك يحتاج إلى فترة هدوء واستقرار ورؤية عقلانية للدولة الديمقراطية الاتحادية والتعامل الواعي مع مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية بغض النظر عن القومية والدين والمذهب والرأي الفكري والسياسي.

•ضعف قدرات وحركة القوى الديمقراطية العراقية وقلة تأثيرها على نطاق القطر كله وبشكل خاص في القسم العربي من العراق.

•التدخل الشرس لبعض الدول المجاورة التي تريد جعل العراق موقعاً لصراعات قومية وطائفية تزيد من حدة التوتر فيه، وبشكل خاص غيران وسوريا وبعض القوى السياسية في بقية الدول العربية.

إن الاعتراف بهذه المخاطر يتطلب من الدول الأوروبية والأمم المتحدة تقديم الدعم الضروري لمساعدة الشعب العراقي على إيجاد الحلول العملية للمشكلات القائمة وليس في تشديدها. إذ أن الممارسة الأوروبية والإعلام الأوروبي يشجع على التمادي في الإرهاب بحجة المقاومة من جهة، ويدفع به إلى دول مجاورة من جهة ثانية، وبالتالي يمكن أن يمتد الخطر إلى أوروبا ذاتها من جهة ثالثة.
لا شك في وجود قوى معارضة للواقع القائم في العراق، وليس في هذا ضير، ويفترض أن يجري التعامل معه سياسياً وإنسانياً لمعالجة النواقص في الوضع القائم، ولكن ليس من خلال العمليات العسكرية والإرهاب وقتل الناس الأبرياء وتشديد الطائفية السياسية. ولا شك في أن الشعب العراقي يريد إنهاء وجود القوات الأجنبية في العراق، ولكنه لن يستطيع إنهاء وجودها ما لم يضع حداً فعلياً للإرهاب الذي تمارسه قوى الإرهاب والقادم إليها من وراء الحدود، وخاصة من قوى بن لادن والزرقاوي وأنصار الإسلام، سواء أجاءوا من الدول العربية أم الإسلامية الأخرى أم من بعض مسلمي أوروبا.
يتمنى الإنسان على الإعلام الأوروبي أن يعيد النظر بالسياسات التي يمارسها بما يساعد على إنهاء الإرهاب وليس إلى تبرير وجوده بحجة مقاومة الاحتلال.