1- موقفي من الشيعة

أثار مقال "البصرة الحزينة.... البصرة المستباحة" لدى القراء الكرام الرغبة في التقصي عن الوقائع والحقائق التي وردت فيه ومن ثم التفكير في سبل التغيير الممكنة لهذا الواقع المؤلم. وكانت كثرة من الاتصالات الهاتفية والرسائل الإلكترونية التي وصلتني أقنعتني بصواب نشر المقال وتحقيق هدفه، أي جلب انتباه القراء من غير البصرة والجنوب، إذ أنهم يعيشون تلك الوقائع، وكذلك الأحزاب والقوى السياسية، لما يجري في البصرة وضرورة الحوار حول المشكلة وأهمية متابعة الموضوع من أجل المشاركة في فضح الاستبداد الفكري والسياسي المتفاقمين في المنطقة والتدخل الإيراني الفظ والمتواصل في العراق، إضافة إلى منع التدخل السعودي المحتمل أو غيره أيضاً.
كما أثار المقال موجة من السخط والغضب الذي أفقد البعض البصيرة والرؤية الواقعية، فراح يوجه الشتائم ويثير الغبار على تلك الوقائع، فأساء إلى اسمه وسمعته وقلمه، وعجز عن الإساءة إلى كاتب المقال. يفترض أن تحترم كل وجهات النظر، فهي الأساس لمبدأ احترام الرأي والرأي الآخر في إطار حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية. وإذا كان بالإمكان الاختلاف بالرأي حول تفسير وأسباب وقوع حوادث ووقائع معينة، فأن من غير المقبول إنكار وجود تلك الوقائع، إذ أن الناس تراها يومياً وتعيش معها. ولهذا فالمقالة لم تتحدث عن هوى أو رغبة في رسم صورة قاتمة عن البصرة والجنوب، بل تطرقت إلى الوقائع على الأرض، وعلى من يريد الوصول إلى الحقائق فليتفضل ويزور البصرة والمنطقة الجنوبية من العراق.
والبعض الآخر وجه ملاحظات نقدية تبلورت في ثلاثة اتهامات مجحفة ولكنها جديرة بالمناقشة.
1.اعتبار البعض أن مواقفي مناوئة للشيعة.
2.وأني أحابي الكرد وتساهل مع أخطاء الأحزاب الكردية.
3.وأن أحمل عداءً لإيران.
سأحاول فيما يلي تناول هذه القضايا الثلاث بالنقاش بصورة مكثفة وعلى ثلاث حلقات وأرجو أن تكون مقنعة للقراء الكرام.
أولاً: التشكيك بموقفي من الناس من أتباع المذهب الشيعي.
يتوزع شيعة العراق على ثلاث قوميات: العرب، الكرد الفيلية والتركمان، إذ بين التركمان سنة أيضاً. وهم جميعاً يشكلون جزءاً حيوياً ومعطاءً من سكان العراق ممن شارك في بناء صرح هذا البلد وحضارته وتراثه وتاريخه، تماماً كما ساهمت بقية مكونات هذا الشعب.
وتعرض أتباع المذهب الشيعي في العراق إلى التمييز والاضطهاد والتعسف الشيء الكثير من جانب النظم السياسية المتعاقبة على امتداد أجيال كثيرة. ويكفي أن نشير إلى ما تعرض له أتباع هذا المذهب من موت وتهجير قسري ومرارات قاسية جداً في ظل حكم البعث الدموي الذي يندى لجرائمه جبين البشرية، إضافة إلى المقابر الجماعية والمنافي والسجون العراقية التي تقدم الأدلة القاطعة على تلك المعاناة الشديدة والطويلة.
ولكن يفترض القول أيضاً بأن أتباع المذهب الشيعي ليسوا من لون فكري وسياسي واحد، وليسوا من حزب أو جماعة واحدة، وليسوا كلهم يميلون إلى إقامة دولة دينية في العراق، بل يقف الكثير منهم إلى جانب إقامة دولة مدنية ديمقراطية اتحادية علمانية. ومن هنا يفترض الانتباه إلى أني لا أوجه النقد إلى الشيعة باعتبارهم شيعة يلتصقون بمذهب إسلامي محدد، بل تتوجه ملاحظاتي النقدية إلى جماعات معينة منهم، تلك الجماعات التي تمارس سياسات وتتخذ مواقف وتطرح أفكاراً معينة أختلف وإياها وأسعى إلى كشف أوراقها التي أرى أنها تلحق الضرر بالشعب العراقي كله. وهذا من حقي الكامل والمشرةوع بغض النظر عن مدى اتفاق الآخرين أو اختلافهم معي بهذا الخصوص. مقالاتي إذن لا تهاجم الشيعة عموماً وبشكل مطلق، ولا تهاجم المذهب الشيعي تحديداً بأي حال، ولا تتعرض للناس الشيعة بشكل عام، بل توجه النقد إلى قضايا بعينها وجماعات بعينها وممارسات محددة وواضحة.
نعرف جميعاً بأن العرب الشيعة قد تعرضوا، كما هو حال الشعب الكردي، ومنهم الكرد الفيلية، إلى الاضطهاد والسجن والتعذيب أو حتى الموت بشكل واسع. ولكن هذا لا يعني بأي حال بأن على الشيعة الانتقام لأنفسهم أو لقتلاهم. فالقضية ليست ثأرية، بل يفترض الوصول إلى الحقيقة، وليس من حق الضحية أن يتحول إلى جلاد، أو أن الذي تعرض للاضطهاد، عليه الآن أن يضطهد الآخرون لأنهم مارسوا التجاوز على حقوقه كإنسان، بل هو من واجب القضاء. التمييز الطائفي السياسي إزاء الشيعة والتمييز العنصري والشوفيني إزاء الكرد يفترض أن لا يتحول إلى تمييز من الشيعة إزاء السنة ومن الكرد إزاء العرب، بل يفترض أن نمارس حقوق المواطنة جميعاً دون استثناء.
لم أكتب عن البصرة الفيحاء لكي أسيئ إلى أهلها، أو لكي ألحق ضرراً بسمعتها، كما أن ما كتبته ليس من صنع الخيال أو اجتهاد ذاتي، بل هو من صنع الواقع المعاش في البصرة والجنوب يومياً. ليس في ما كتبته ما يمكن أن يكون اجتهاداً أو تفسيراً لحالة معينة التي يمكن أن نختلف بشأنها، بل كتبت عن حقائق قائمة تستند إلى وقائع فعلية موجودة على أرض الواقع، وهي تؤلمني وعندما كتبتها عانيت كثيراً لأني أعرف البصرة على غير الحالة التي هي فيها الآن. أسمح لنفسي بأن أتحدى من يدعي غير ذلك. ولهذا الغرض أطلب تشكيل لجنة تحقيق من مختلف الأحزاب السياسية العراقية داخل وخارج الجمعية الوطنية، إضافة إلى ممثلي منظمات المجتمع المدني، أو لجنة دولية لتقوم سوية بزيارة البصرة وكل الجنوب، ثم لتبدأ بكتابة تقرير عما ستراه سائداً في البصرة من تجاوز شرس على حقوق الإنسان وحقوق المواطنة إزاء المسيحيين وإزاء الصابئة المندائيين وإزاء الجماعات الأخرى وإزاء باعة الخمور ومحلات بيع التسجيلات الغنائية وإزاء محلات الحلاقة للنساء زإزاء الكثير من الأمور الأخرى التي لم أتطرق إليها أيضاً. أتحدى أولئك الذين يحاولون تكذيبي وهم يعيشون على بعد ويتحالفون مع نفس القوى التي تضطهد المجتمع العراقي وتفرض فركها الاستبدادي وممارستها الدينية المتخلفة على الناس، كل الناس! إن من عاش في البصرة في هذه الأيام سيبكي عليها وعلى أهلها الذين ابتلوا بما لا يستحقونه، إن الناس يعيشون في جحيم لا يطاق!
لا أدري إن كان يعرف الأخوة الأفاضل الذين انتقدوا مقالتي أن موسيقيي البصرة مثلاً لا يجرأوون على عقد اجتماعاتهم بصورة علنية، بل هم مجبرون على عقدها بصورة سرية، وأملي أن لا تكون هذه الملاحظة سبباً في إلحاق الأذى بهم. قبل أيام قليلة نقل مدير مدرسة إعدادية الجمهورية بالناصرية إلى مدرس في مدرسة أخرى في المدينة لأنه من أتباع المذهب الصابئي المندائي، إنه المدرس المجرب والمحبوب طلابياً، إنه السيد عادل إبراهيم. وقد احتج اتحاد الطلبة على هذه الممارسة. فهل هذه الممارسة اعتيادية. في حينها عين الفريق الركن الراحل والشهيد عبد الكريم قاسم عبد الجبار عبد الله رئيساً لجامعة بغداد، فوجه له بعض النقد لأنه قد عين صابئياً مندائياً على رأس الجامعة، فأجاب منتقديه بوضوح إنسان عاقل ومسؤول: أنا لم أعينه إماماً لجامع أو مسجد، بل عينته رئيساً لجامعة علمية في بغداد.
أنا لم أنتقد الوضع في البصرة لأن الناس هناك في أغلبهم من أتباع المذهب الشيعي، بل انتقدت الممارسات التي تقوم بها جماعات حزبية إسلامية سياسية شيعية. والفرق بين الاثنين كبير وواضح ولا يقبل اللبس أو الإبهام. لكل الذين يعتقدون بمناهضتي للمذهب الشيعي أقول لهم بأنهم مخطئون. فأنا رجل غير متدين، ولكني أحترم كل الأديان والمذاهب وأحترم أتباعها وأحترم طقوس وتقاليد وتراث جميع الأديان والشعائر الموقرة التي يمارسها الناس العقلاء ليمجدوا دينهم أم مذهبهم والأولياء الصالحين منهم.
وفي نفس الوقت أمارس النقد ضد كل ما أراه مضراً بالإنسان وحقوقه وحرياته العامة والخاصة أو بالحرية العامة وبتكوين الإنسان، ولكني لا أتدخل بشأن الإنسان ودينه أو مذهبه أو فكره، فهي قضية خاصة بالإنسان ذاته. ولكني أرفض التمييز بكل أنواه، سواء أكان عنصرياً، أمً قومياً أم دينياً أم مذهبياً أم فكرياً أم سياسياً أم إزاء المرأة وحقوقها المشروعة، أرفض التمييز الطائفي السياسي جملة وتفصيلاً وأدينه وأدين ممارسيه، لأنه غير مشروع ويلحق الأذى بالوطن والشعب في آن واحد.
أنا لا لأنتقد الشيعة لأنهم شيعة، بل لأن ممارسات بعض الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية ترتكب أخطاء فادحة في العراق وتتسبب في مزيد من التوتر الطائفي السياسي، وتشاركها في ذلك قوى الإسلام السياسي السنية أيضاً.
لهذا أرجو من منتقدي مقالاتي أن يعودا إليها أولاً وإلى الوقائع على الأرض ثانياً


2- محاباة الكرد والتساهل مع أخطاء الأحزاب الكردية.

عندما يعجز المحاور إلى تنفيذ الحقائق، يلجأ على توجيه اتهامات لا أساس لها من الصحة إنا بسبب عجزه أو بسبب عدم امتلاكه للوقائع أو بسبب عدم إطلاعه على كتابات الباحث ليعرف الحقائق قبل توجيه الاتهامات. ولكن البعض يعرف ويحرف، إذ يحلو له أن يعيد اسطوانة مشخوطة لا يكف عن تكرارها مفادها أني متحيز للكرد. ويبدو أن هذا البعض مصاب بالعمي في عين واحدة يرى الأمور بعين واحدة فقط، كما يقول المثل الأوروبي.
أكدت عشرات المرات بأن الكرد شعب وله قضية وأسانده انطلاقاً من هذا الموقف حيث تعرض للاضطهاد والقهر، كما في حالة العرب من أتباع المذهب الشيعي. ومن هذا المنطلق ساندت القضية الكردية وناضلت في صفوف الپيشمرگة الأنصار سنوات عدة وفي المناطق الجبلية من كردستان العراق. كما شجبت باستمرار ما تعرض له العرب الشيعة أو الكرد الفيلية من عذابات خلال العقود المنصرمة. وأنا أميز بوضوح بين مسألتين هما: بين احترام الشعب الكردي وقضيته العادلة وحقوقه المشروعة وبين سياسات القوى والأحزاب السياسية الكردية التي يمكن أن أتفق وإياها أو أختلف وإياها ولكني أحترمها أيضاً وأحترم كل الأحزاب السياسية العراقية بغض النظر عن مدى اتفاقي أو اختلافي معها. ومن تسنى له أن يقرأ مقالاتي الخمسة التي كتبتها بعد عودتي من العراق حيث مكثت في كردستان فترة مناسبة ساعدتني على رؤية الوقائع على الأرض، فكانت ملاحظات نقدية شديدة ولكنها واقعية وملموسة نشرت في الصحافة الكردية قبل العربية وترجمت إلى الكردية أيضاً. وقد أشرت فيها بوضوح إلى النواقص الجديدة في التجربة والواقع الكردستاني، إذ أن الساكت عن الحق شيطان أخرس. لقد انتقدت الصراع بين الحزبين والتداخل بين السلطة في المنطقتين والحزبين لصالح الحزبين على حساب السلطة السياسية وانتقدت الفساد الوظيفي، الإداري والمالي، وعن المحسوبية والمنسوبية على مستوى التوظيف للحزبيين وأبناء العشائر المعروفة، وأشرت إلى الاستخدام غير العقلاني للموارد المالية والفقر والبطالة وسوء توزيع واستخدام الثروة الوطنية والتفريط بالمال العام وأشرت إلى خطأ وخطورة استمرار الانفصال بين الإدارتين في أربيل والسليمانية ....الخ. إن هذا الموقف النقدي الواضح لا يخل بتأييدي لحق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه أو حقه في الفيدرالية ...الخ، بل يؤكدها أولاً، ولا يخل بالإشادة بالمنجزات النسبية الجيدة التي تحققت للشعب الكردي في كردستان العراق ثانياً. لو عاد البعض الذي انتقدني واتهمني بمحاباتي للكرد على حساب العرب، لأدرك خطأ هذا الاتهام، إلى كتاباتي قبل سقوط النظام الدكتاتوري لوجد تأييدي حينذاك للقضية الكردية وأنها ليست مسألة جديدة، وفي حينها انتقدت الأحزاب الكردية أيضاً على صراعاتها الدموية خلال الفترة 1995 بشكل خاص ودافعت عن الإنسان وحقوقه. ويمكن أن يقرأ الراغب ذلك في كتابي ساعة الحقيقة (1995) والمأساة والمهزلة في عراق اليوم (2000).
انتقدت الأحزاب الكردية عندما لم تحقق التعاون بين القوى الديمقراطية على مستوى العراق وأدعوها الآن للمشاركة في التحالفات الديمقراطية التي يمكن أن تقوم بالعراق حالياً للتصدي لتلك القوى التي تريد فرض الدولة الدينية على المجتمع العراقي أو تريد إقامة فيدرالية طائفية سياسية شيعية في مقابل فيدرالية طائفية سياسية سنية.
في الوقت الذي أدنت الممارسات العنصرية والشوفينية العربية، أدنت أيضاً ضيق الأفق القومي الذي نشأ في صفوف بعض القوى الكردية، وعندما حصلت خروقات ضد العرب في كركوك، انتقدتها بشدة، ووجهت رسالة إلى السيد مسعود البارزاني، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، وقبل أن يصبح رئيساً لإقليم كردستان العراق، رجوته فيها أن يلعب دوره في وقف ذلك. ولكني كنت قبل ذاك وبسنوات قد شجبت الممارسات العنصرية والتعريب والتهجير القسري والقتل الذي تعرض له أبناء كركوك الكرد والتركمان. هكذا يفترض أن تكون مواقفنا نحن العرب، إن شئنا أن نكون أحراراً وديمقراطيين ومدافعين عن حقوق الإنسان وحقوق القوميات.