مر على تحرير العراق من ربق البعثفاشية اكثر من عامين ونصف العام. في منظور الانسان العادي الذي ينظر إلى المتطلبات الحياتية وقت طويل لم تتحقق فيه الكثير الذي كان يتمناه بعد سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام 2003. فقد بقيت منغصات انقطاع الكهرباء وشحة المياه والبطالة وتخلف البنى التحتية وزاد عليها انعدام الامن. ان ذلك لا يمكن وضع وزره على مشروع تحرير العراق برمته بقدر ما تتحملة قوى الظلام من مخلفات النظام الساقط التي لا يمكنها ان ترى انها فقدت سيطرتها على رقاب العراقيين ومقدراتهم وكذلك تساهل قوات التحالف والسلطة الوطنية وعدم فعالية الاعلام الجديد في كشف الخطر الحقيقي الذي احاط بالعراقيين، وفي نفس الوقت تعرية مجمل النظام الصدامي وكشف موبقاته بحق العراق ومكونات شعبه وما اقترفه من جرائم ضده وضد دول الجوار واهدراه ثروات العراقيين خلال فتره حكمه الاستبدادي وفي ذلك قطع الطريق امام منظري الارهاب واعتباره "مقاومة شريفة". وعلى العكس من ذلك تحولت مؤسسة الاعلام الوطنية إلى جهاز حزبي ودعائي ومنبر حسيني دون ان تكون صوت لكل اعراقيين. وهذا لا يعني ان ينسى العراقيحمده الله على زوال نظام صدام، هذا النظام الذي سلب الشعب العراقي ليس هويته الوطنية والقومية وحرياته وحقوقه كافة بل سلبه إنسانيته وأراد أن يحوله إلى شعب مسخ، إلى مجموعة من العبيد تأتمر بأمر مجموعة من القتلة واللصوص.
ومنذ لحظة التحرير ولحد إذا نظر إليها من منظور التاريخ البشري فهي لحظات قصار مرت في تاريخ العراق المعاصر استطاعت عبرها ان تفرز الكثير من خصال العراقيين الوطنية وحبهم في تقديم الكثير من اجل إعادة بناء وطنهم، وكذلك أظهرت إلى وجه الماء كمخلفات المرحلة الصدامية الماضية طافية في صور العناصر الفاسدة في التصرف السياسي والتعامل مع تطلعات العراقيين في بناء حياة مستقرة آمنة،تلك التي حملت السلاح او دعمت الارهابيين او التي قدمت لهم العون اللوجستي من اجل قتل اطفال العراق. وكانت المرحلة الاولى في تشكيل مجلس الحكم الذي على الرغم من الهفوات العديدة في ادائه وتشكيلته ولكنه اتاح للقوى التي حاربت النظام الصدامي ان تقود العراق وكذلك قدم نموذج لتعايش بين اتجاهات سياسية مختلفة في قيادة بلد خرج للتو من تحت ثقل اربعة عقود من الظلم والقهر والاستبداد. وقد رافق المرحلة تلك التي كان من الممكن ان تعزز دور العراق كنقطة اشعاع في التجربة الديمقراطية والتحرر من احادية الفكر والحكم، فشل الكثير من القادة السياسيين خلالها في تحويلهم النظام إلى مجموعة من الاقطاعيات الحزبية بنيت على اسس المحاصصة المرتكزة على الولاء الشخصي – الطائفي. ووصلت امراض هذه التشكيلة إلى مفاصل الدولة العراقية والسلك الخارجي العراقي وقوى الامن والشرطة والجيش. وكان اليوم الذي ترك فيه العراق السفير بريمر وتسلم العراقيين المسؤولية الفعلية لتمثيل بلدهم انتهاء المرحلة الاولى وبداية المرحلة الثانية التي توجت باجراء الانتخابات البرلمانية والاستفتاء على الدستور. اما ما رافقها ولا زال المواطن العادي يعيش تحت ثقلها من اخطاء جسام عديدة. وعلى الوطني العراقي ان يشير إليها ويظهرها جهرا من اجل العراق الوطن ومستقبله. وانها اخطاء تصنع بيد عراقية وتخطيط عراقي صرف ولا يجب تحمليها بالكامل على الغير في اي حال من الاحوال. وفي طليعة ذلك الاحتماء بعباءة المرجعية الدينية للفوز بالانتخابات وادخال عناصر غير كفوءة لتمثيل العراق في الخارج والرأي العراقي عامة وكذلك تحويل الجمعية الوطنية إلى حسينية وليس إلى ميدان يتبارى فيه المخلصون من اجل بناء وطن جديد على اشلاء الوطن الذي مزقه النظام الدكتاتوري. تشريع الحياة وصبغها بقوانين طائفية دينية لتثبيت مبدأ ولاية الفقيه في الحكم والادارة. توسيع شقة الاخلافات العراقية- العراقية على اسس طائفية ومناطقية. السماح لقوى خارجية ان تلعب الدور الرئيس في السياسة العراقية الداخلية وفي طليعة ذلك ايران. ان الحديث عن ذلك كما يقول الاستاذ عزيز الحاج في مقالة له في عراق الغد وإيلاف ليست " ايرانفوبيا " على أي حال بقدر ما هي حقيقة واضحه كما هي الحقيقة إدخال العناصر الارهابية عبر الحدود السورية او اتاحه المجال والفرصة لمخلفات النظام الساقط من ايجاد قاعدة لهم في الاردن للانطلاق بتمويل العمليات الارهابية او محاربة العراق الجديد. ان تفجيرات فنادق عمان في التاسع من الشهر الجاري كانت بالتنسيق الفعلي بينهم والجمعات الاجرامية من القاعديين، وغدا لنظاره قريب. كما جاء تعزيز دور الميليشيات الحزبية واضفاء الشرعية على وجودها وتحميل خزينة الدولة العراقية رواتب عناصرها وهي تخدم ليس العراق، وانما اهداف حزبية وقومية صرفة. ترسيخ مفهوم المحاصصة الحزبية والطائفية واحتلال مدن كاملة وتحويلها محميات لايران. ان العراقيين قدموا الكثير من اجل هذا العراق الجديد في مجازفتهم بارواحهم في المشاركة بالانتخابات وفي إنجاح عملية الاستفتاء على الدستور وفي المقابل لم تكن أغلبية سياسي العراق الذين يقودنه اليوم على نفس الدرجة من الولاء والتفاني من اجل العراق الوطن، الموحد. فالفساد الإداري اصبح يوازي ما كان موجودا في الفترة الصدامية المظلمة ولربما تعداه. الاهتمام في المكاسب الحزبية والطائفية على حساب أمن الوطن العراقي وسلامة المواطنين وهذا ما تشير إليه ارتفاع وتيرة العمليات الإرهابية الموجه ضد المدنيين واختراقات قوى الامن العراقية، ليست فقط من قبل جماعات النظام الساقط وانما من قبل استخبارات الدول الاخرى وبالتحديد الإيرانية والسكوت عن ذلك. وجاء في آخر إحصائية سقوط اكثر من 26 ألف شهيد وجريح في الأعمال الإرهابية منذ كانون الثاني 2004.
تعكير مياه الحياة السياسية العراقية في شحنها بالطابع الطائفي وترك الاولويات التي تهم المواطن العادي في وضع برامج إعادة اعمار العراق والتنافس السلمي حسب الاداء السليم لسياسي المرحلة الحالية. اعطاء الشرعية على عصابات ما سمي بجيش المهدي التي يعرف القاصي والداني بانها خليط من جيش القدس وفدائي صدام وعصابات الجريمة المنظمة. نعم هناك مشاكل، هناك عقبات، وهناك ممن لا يسره أن يرى العراقيين سعداء بحريتهم، لكن هؤلاء لن يستطيعوا أن يوقفوا عجلة التقدم ويعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء. ان المرحلة الثانية من تاريخ العراق ما بعد الحقبة الصدامية المظلمة انتهت في الاعلان عن موعد الانتخابات القادمة في الخامس عشر من كانون اول القادم. وفي مسيرة العراق خلال هذه الفترة جوانب إيجابية كثيرة لا يمكن التغاضي عنها باي حال من الاحوال. فأينما تولي وجهك ترى التقدم والتطور في العراق، في مجال من الاتصالات-الهواتف المحمولة والإنترنت، إلى الإعلام والصحف والإذاعات ومحطات التلفزة الحرة، إلى البضائع المتنوعة التي تملأ الأسواق ومن كل أنحاء المعمورة. العراق الآن أكثر بلدان العالم رخصا في أسعار الأجهزة الأليكترونية والإتصالات وغيرها. وقد خرجت اكثر الاحصائيات تشائما بان المستوى المعاشي للعراقيين قد ارتفع، فاي مرحلة هذه الثالثة التي سيعيشها العراق ؟ انها اهم من المرحلتين السابقتين على الاطلاق لانها ستضع بصماتها على مجمل مستقبل العراقي السياسي والاقتصادي والاجتماعي وفي نفس الوقت سلامة وحدة اراضيه واستقلاله الحقيقي من التبعية السياسية والطائفية وتحديد سير خطه ليس لاربعة اعوام وهي الفترة الزمنية لعمر الجمعية الوطنية، وانما للسنوات اللاحقة، هذا من جانب ومن جانب ثاني، ما ستغيره في مجمل خارطة الشرق الأوسط السياسية. ان العلائم الاولى لهذه المرحلة بدأت تشير إلى إن تغيرا ما يجري على الساحة السياسية العراقية وذلك في وضوح الفرق بين المجموعات السياسية المتنافسة وتكتل المجموعات اصبح اكثر وضوحا مما كانت عليه في الانتخابات الماضية. أن الليبرالي يقول إنه ليبرالي والإسلامي يقول إنه إسلامي والشيعي يقول إنه شيعي، والسني والكردي والتركماني والآشوري وازيحت عباءة ما كان ترتديها في الانتخابات الماضية بعض الجماعات وليس تمثل حقيقتهم باي حال من الاحوال، باستثناء قلة قليلة الذين فضلوا الجهر وطرح برامجهم كما هي دون أي إدعاءات. فأصحاب الولاءات الطائفية البحتة تخندقوا في كتلة والجماعات القومية العربية أو الكردية في مجموعتين تشيران للدفاع عن المصلحة القومية دون المصلحة الوطنية العراقية، والتيارات اللبرالية العراقية مع الوطنيين العراقيين في عدة كتل تتجمع حولها مجموعة كتل أخرى اصغر تشير إلى نهجها الجديد بعد ان كان بعضها العمود الفقري لكتلة الإتلاف الوطني الموحد. ولربما في انفصالها هذا ليس المصلحة الوطنية البحتة بقدر ما هو مصالح فئوية وشخصية بعد ان أظهرت الاستفتاءات إفلاس سياسي المرحلة الحالية من تحقيق طموح العراقيين الذين وعدوا في إنجازه خلال الفترة قيادتهم البلاد على الرغم من العديد من نقاط النجاح.
أن المرحلة الثالثة التي ستبدأ في إنجاح الانتخابات القادمة التي ستجري في الخامس عشر من كانون أول القادم ستفرز قيادات جديدة وتحالفات أخرى سيتغلب عليها الطابع الوطني العراقي أو تفرض عليها الاهتمامات الوطنية بعيدا عن الولاءات الخارجية أو الاهتمامات الحزبية والطائفية والمناطقية وهذا لا يعني ان قيادي المجموعات الجديدة يمثلون الحس الوطني العراقي البحت بقدر ما يمثل الكثير منهم الرغبة العارمة للوصول إلى الحكم من جهة٬ وبناء المصلحة الخاصة على العامة. والعديد منهم معروف لدي الشارع العراقي خارج الوطن قبل الشارع العراقي داخله بانتهازيتهم السياسية. كما لا يخفى على أحد أن التدخل الخارجي وخاصة من جانب إيران بات واضحا في التحضير والمشاركة بقوة في إدخال الكثير من الموالين لنهجها الفكري والطائفي للجمعية القادمة عن طريق حبك الكثير من القوائم. ويلاحظ ان ملالي طهران يضعون بيضهم في اكثر من سلة. ففي الوقت الذي يقفون فيه بشكل واضح وراء احدى القوائم الكبيرة شكلوا الكثير من القوائم الاخرى لكي يصطادوا الاصوات التي فقدت الايمان بالاحزاب الاسلامية الشيعية. لان مصلحة إيران في الدرجة الاولى ادخال اكبر عدد من مناصري خطها القومي والفقهي وبغض النظر تحت أي تسمية كانت. ان هناك قوائم انتخابية تحت مسميات براقة لا يخفي على المتتبع لما يجري على الساحة العراقية ان من يقف خلفها عناصر عملت ولا زالت تعمل لمصلحه ايران واستخاراتها وان عراقي الخارج اكثر من غيرهم يعرف ذلك من الذين هم في الداخل. أن الشعب العراقي أصبح الآن أكثر وعيا من خلال التجربة الديمقراطية السابقة ولن تنطلي عليه الشعارات الدينية والولاءات الطائفية بسهولة، ان الاغلبية بدأت تجاهر متسائلة عن الوعود الانتخابية السابقة ولذلك ستصوت هذه المرة بقناعة اكبر. بداية المرحله الثالثة سيبنى صرح عراقي جديد واختيار جمعية وطنية اكثر كفاءة بدخول الكثير من الاتجاهات الفكرية والعقديه التي تمثل تكوينات الشعب العراقي ولربما دخول اللبراليين العراقيين بنسبة اعلى،ممثلي التيار القومي العربي سوف يضفي على تشكيلة الجمعية الوطنية جانب من التوازن السياسي وفتح المجال امام تحالفات سياسية بقاعدة اكثر سعة لكي تخفف ان لم تنهي مرض المحاصصة الطائفية والقومية. انها مرحلة ثالثة فعلا في تاريخ العراق بعد التحرير. ان سارت كما يتمناها المخلصون ستنقل العراق من غرفة العناية المركزة.