سيناريوهات الأحداث السورية الساخنة هذه الأيام، والورطة القاتلة في التعامل مع الأولويات والملفات الحساسة التي فتحت مرة واحدة في زمن وتوقيت لا يتيح هامشا للمناورة أو التلاعب أو الهروب، قد أدخل نظام دمشق في معضلة حقيقية، وأعاد إلى الأذهان ذكريات الأيام الأخيرة لنظام حزب البعث العراقي البائد في العراق الذي تراكمت ملفاته السوداء على مدى عقود حكمه وتسلطه الأربع، فلما فتحت الملفات سقط الحزب في الميدان من التجربة الأولى وفشل في ميادين إدارة الصراع الستراتيجية، رغم نجاحاته الهائلة في إدارة المدرسة القمعية والدموية!!، فالتراث الدموي الثري والحافل والموثق لحزب البعث العربي الإشتراكي، بفرعيه النافق في بغداد، أو الذي ينتظر في دمشق، قد أضاف لخزانة وتاريخ القمع العربي الكثير من الإنجازات التاريخية!!، فتأملوا مثلا بيت الشعر التالي الذي يعبر عن عقيدة البعث بفرعيه خير تعبير، ويؤسس للروح الفاشية والدموية التي تتربى عليها أجيال ذلك الحزب :

بعث تشيده الجماجم والدم تتهدم الدنيا ولا يتهدم؟؟

والحديث عن هدم الدنيا وصمود الحزب!! هو الفلسفة الحقيقية التي توجه قادة ذلك الحزب وهو النسخة العربية من الأحزاب النازية والفاشية في العالم الحر؟ لذلك لم يكن غريبا أن يشهد ذلك الحزب لحظات إنتحارية!! ونهايات ميتافيزيقية!! أدت به في النهاية لتحالفات دموية وإرهابية مقدسة مع الجماعات الفاشية الدينية من (سلفية مجاهدة) أو (قوى تكفيرية) تتشابه منطلقاتها مع منطلقات فكر الخوارج وسياساتهم الدموية التي روعت المسلمين الأوائل ردحا طويلا من الزمن.
حزب البعث اليوم يعيش أزمته الكيانية الموجعة، لذلك لا حظنا أن الحديث في دمشق قد أصبح عاليا وتجاوز الهمس حول دور الحزب في المرحلة القادمة!! كما أشيعت الأخبار عن نية (أهل البعث) في الحوار والتحاور والتفاهم مع الأحزاب الأخرى؟، وهي جميعها جرعات تخديرية قد تهدأ وتسكن الآلام مؤقتا ولكنها في المحصلة ليست الوصفة العلاجية الشاملة، فالبعث قد أدمن إحتكار السلطة إحتكارا أبديا ومزمنا، والبعث غير مضطر بالمرة لتقديم أي تنازل؟ لأنه يعتبر أي تنازل بمثابة تراجع وخضوع سيؤدي بالضرورة لخروجه من حلبة الصراع مسترشدا بذلك بالتجربة الشيوعية في أوروبا الشرقية ونهاية المعسكر الإشتراكي الذي كان يمتلك من القوة وأسبابها أضعاف ما يمتلكه البعثيون ومع ذلك أصبحوا (دمعة في التاريخ)!!، وكل الحديث الدائر في أمسيات وصحف دمشق حول تحديث الحزب أو (دمقرطته)!! أو إنفتاحه على التيارات والقوى الأخرى ما هو إلا أمنيات تعكس حالة الأزمة الراهنة وليس ستراتيجية شاملة للإصلاح والتغيير، فحزب البعث عصي على الإصلاح، وكل سياساته ومبادئه وممارساته لا تعبر إلا عن مرحلة تاريخية ماضية إنتهت معالمها، وأفلست منطلقاتها، فهذا الحزب السلطوي الذي يتفاخر بعدد أعضائه المليوني قد تمزق من الترهل والبلادة، ولم ينجح سوى في تحويل البلاد لمعسكر بائس، وتحويل الجماهير لعمال سخرة في جمهورية ودولة وراثية عائلية باطنية خارجة عن أي تصنيف سياسي حداثي أو حضاري؟، ففي التجربة العراقية المرة نجح الحزب في فرض التخلف على المجتمع العراقي وأسس لتيار الدم والحقد والثأر المنطلق بقوة هناك، وبيانات بقايا الحزب تعبر عن الروح التدميرية الفاشية التي لم تزل تتفاعل وتفرز كل نتوءات التخلف والوحشية، أما تجربته السورية فبرغم إختلافها جزئيا عن الصورة العراقية إلا أن الإطار الجامع والعام يجعلها شديدة الشبه بما كان يجري في العراق، وبشكل يهدد هو الآخر بتمزيق الشعب السوري الذي يعيش اليوم لحظات ترقب وإنتظار وتحول تاريخية في غاية الأهمية.. من الصعب على البعثيين التوافق والإنسجام مع متطلبات المرحلة السياسية القادمة، ومن الأصعب عليهم التخلي عن إحتكار السلطة وتقاسمها وترك الفتات للآخرين وهم الذين تحولوا لمنظمة سرية مافيوزية طائفية عائلية مغلقة لا ترى الدنيا إلا من خلال عيونها ووجهات نظرها؟، كما أن كلفة تحول المجتع السياسي السوري من مجتمع حزبي أمني مخابراتي مغلق، لمجتمع شفاف هي أغلى من كل قدرة البعثيين على الدفع، فلا أمل لحزب البعث سوى بدفنه وطمس معالم تجربته الدموية المرة والمؤلمة، ولا خيار أمام البعثيين سوى الرحيل عن المشهد وإسدال الستار على أبشع مرحلة عاشتها الشعوب العربية، فحجم الجرائم، وحجم المعتقلات السرية والعلنية، وحجم الضحايا المرعب، جميعها (فواتير) لن يستطيع البعثيون تسديد مستحقاتها وهم يحاولون إنتهاج سياسة جديدة تتسم بالمخاتلة وحنى الرؤوس للعواصف القادمة؟ ولن يكون بإستطاعة أهل البعث سوى أن يكونوا أمناء لآيديولوجيتهم الدموية والفاشية المريضة، فالبعث الذي تشيد بدماء وجماجم مئات الآلاف من الضحايا والأبرياء لا يمكن أن يتحول في لحظة تحول تاريخية فاصلة لحمامة من حمامات المسجد الحرام!!، دولة البعث بكل رموزها وهياكلها العسكرية والطائفية والباطنية تعيش اليوم عدها التنازلي، فرياح الحرية المقدسة تدق بعنف أبواب الشرق القديم، وأعصار الحرية الشعبي الهادر سيكون هو الخاتمة التي سيكنس بها البعث من على واجهة تاريخ العروبة المعاصر.

[email protected]