لا تدري فيما تقرأ "أمين معلوف" ما إذا كنت تقرأ تاريخًا أم حاضرًا متخفِّيًا في زِيِّ التاريخ. فمن "حدائق النور" التي تدور أحداثها في القرن الثالث الميلادي في بلاد ما بين النهرين وصراع الساسانيِّين مع الرومان، إلى "سمرقند" عن "عمر الخيَّام" والصراع بين السلجوقي "نظام الملك" و الباطني "حسن الصبّاح" سيِّد قلعة "الموت" في مطلع الألفيَّة الثانية، إلى "الحروب الصليبيَّة كما رآها العرب"، وهي تاريخ الممالك الصليبيَّة وحروبها بين المسلمين والروم، إلى "ليون الأفريقي" وسقوط غرناطة في منتصف تلك الألفيَّة. أمين معلوف روائي بامتياز، ولكنَّه مؤرِّخ دقيق يعتصر خلاصة مئات المؤلَّفات ليقدِّم لك روايته التاريخيَّة. إنَّه دقيق وجامع في آن معًا.
ليس الهدف من هذا المقال بحث أدب أمين معلوف، فلذلك اختصاصيُّوه. الهدف هو استخلاص العبر. منذ القرن الثالث كانت هذه البلاد عرضة، حسب معلوف، لأمواج متتالية من الغزاة من اليونانيِّين إلى البارتيِّين فالساسانيِّين فالرومان. قفزة فوق تاريخ الفتح العربي الذي لم يؤرِّخ معلوف له، فنصل إلى حكم السلاجقة الأتراك، حُماة الخليفة العباسي بالقوَّة، وتناحرهم فيما بينهم وصراعهم مع "الروم"، ومن ثمَّ قدوم "الإفرنج" وحِلفهم مع الروم ضدَّ السلاجقة، ثمَّ بعضهم مع السلاجقة ضدَّ الروم، وضدَّ بعض الإفرنج، المتحالفين مع سواهم من السلاجقة، إلى حكم الأيوبيِّين الذين هزموا الصليبيِّن إلى المماليك، لنعود ونلتقي الأتراك في ليون الأفريقي، وهكذا دواليك.
تميَّزت تلك الحروب بالإبادة والسبي. الرجال تُقتَل أو تُباع في سوق النخاسة، والنساء تُباع أو تُمنح للعسكر أو ترسل إلى قصور السلطان. لهذا لا يمكن لأيَّة جماعة من تلك القاطنة في بلاد الهلال الخصيب أن تدَّعي عِصمة عرقيَّة بمعنى النقاء العرقي لها، اللهمَّ إلاَّ إذا كانت تعيش في الكهوف أو المفاوز البعيدة بحيث أنَّها لم تلتق قط بفاتح طوال ألفي سنة، واستمرَّت بالتزاوج الداخلي القريب من السفَّاح في ذلك التاريخ. لا يشذُّ عن هذا التاريخ الساحل السوري كلُّه، من أنطاكية إلى غزَّة، مرورًا بلبنان الحالي. بل إنَّ هذا الساحل تعرَّض أكثر من غيره لا سيَّما في مرحلة الحروب الصليبيَّة، لتغيير جذري في سكَّانه أكثر من مرَّة. فالغازي كان "يقلع" السكان قلعًا، ويُسكن عساكره وقبائله المتحالفة معه في بيوتهم. من هنا فإنَّنا سنأخذ نظريَّة صديق لنا بأنَّ اللبنانيِّين هم نتيجة تزواج الموارنة بالفينيقيِّين في جبال لبنان، هكذا! على أنَّها مزحة تاريخيَّة.
كما لا يوجد عصمة عرقيَّة، كذلك لا يوجد عصمة دينيَّة. فالأديان أيضًا تتلاقح، والملوك تتوارثها أو تتبَّناها عن قناعة أو بحدِّ السيف. أمَّا الناس فعلى دين ملوكهم. يبرز في كتابات معلوف ذلك الصراع الأزلي بين الأنبياء والملوك والكهنة، كما في كتاب "حدائق النور" عن "ماني". يرفض "ماني" أن تصبح رسالته دين الدولة الساسانيَّة الرسمي كي لا تقام الأضاحي باسمه. ولكنَّه يبقى في النهاية، كما وصف إبراهيم متري رحباني يسوع الناصري، "نبيًّا وقع في أيدي كهنة"، فيُقتل. كذلك يبرز الصراع بين العلم والملوك والكهنة، كما في كتاب "سمرقند". ينجو عمر الخيَّام بصعوبة من تهمة "الكيمياء" والفلسفة، وينبذ السلطة ليبقى أمينًا لعلمه وشعره وحبِّه.
إذا كان الناس على دين ملوكهم، فللموك دين أرضي واحد هو السلطان والمحافظة عليه بأي ثمن بما فيه قتل الآباء أولادهم، والعكس، والأخوة إخوتهم وأبناء عمومتهم، والتحالفات المتقلِّبة. فليس هناك من عدوٍّ ثابت بل سلطان ينبغي تثبيته. ترى هل يكتب معلوف تاريخًا، أم حاضرًا متخفِّيًا في زِيِّ التاريخ!
- آخر تحديث :
التعليقات