على الرئيس جورج دبليو بوش أن يقرِّر ما إذا كان يفوز في الحرب على "الإرهاب" وزعيمته العالميَّة منظَّمة "القاعدة" أم يخسره. فإذا كان الأوَّل، كيف له أن يفسِّر تمكُّن "القاعدة" من نقل الحرب إلى أرض أخلص حلفائه بريطانيا – مرَّتين خلال أسبوعين – ومصر، مرَّتين خلال سنتين، وأسبانيا، والسعوديَّة، وتركيا، ولبنان، وغيرها من بقاع الأرض، دون أن ننسى العراق حيث السيَّارات المتفجِّرة تحصد القتلى بالعشرات والمئات كلَّ يوم!
إذا كانت القاعدة وراء كلِّ هذه العمليَّات، يصبح من الثابت أنَّ هذه المنظَّمة قد غدت أقوى بكثير ممَّا كانت عليه سنة 2001. وأنَّ كلِّ جهود الرئيس بوش في تنشيف مراكز تمويلها وتدمير بنيتها التحتيَّة وقنوات اتِّصالاتها، ومراكز تجمُّعاتها قد فشلت، وأصبح عليه أدبيًّا أن يقبل استقالة عدد كبير من مخطِّطي سياساته وقادتها التنفيذيِّين وفي طليعتهم من يعرفون بـ "الصقور" في واشنطن، كي لا نقول تقديم استقالته هو.
ولكن ماذا لو لم تكن "القاعدة" هي وحدها المسؤولة! بل ماذا لو كانت "القاعدة" مثل "راجح" في فيلم فيروز "بيَّاع الخواتم"؟ "راجح" الشخصيَّة التي اخترعها مختار القرية لتكون نموذجًا للشرِّ الذي لا يستطيع أحد الوقوف في وجهه سوى المختار الفشَّار الذي لا يتعب من سرد أخبار بطولاته الوهميَّة على أهل القرية الساذجين. وماذا إذا لم يكن هناك مختار واحد يختبئ وراء راجح، بل مخاتير؟ بل ثمَّة ما هو أسوأ. ما ماذا لو كان إرهاب القاعدة هو واحد من إرهابات عدَّة، مختلفة المصادر والأهداف والتمويل والتخطيط والتنفيذ؟ ماذا لو كان الإرهاب هو السلاح المختار Weapon of Choice اليوم لفض النزاعات الدوليَّة، أو لتأجيجها، أو لممارسة ضغوط دون التورُّط في حروب كبرى؟
قبل أن نستطرد، نقول إنَّنا نستعمل كلمة "إرهاب" هنا عشوائيًّا وحسب ما يعلكه المسؤولون الكبار من جورج دبليو بوش إلى فلاديمير بوتين، وطوني بلير وجاك شيراك وحسني مبارك وآريل شارون، وغيرهم مثلاً.
لا يسع المراقب سوى أن يلاحظ أنَّ الإرهاب في العراق إرهابان على الأقل: واحد موجَّه ضدَّ القوَّات الأميركيَّة وعناصر الدولة العراقيَّة الناشئة في ظلِّ الاحتلال بمن فيها الشرطة والجيش والموظَّفون المدنيُّون في الوزارات. لهذا النوع من الإرهاب هدفان: إخراج المحتلِّ الأجنبي من العراق، ومنعه من إقامة دولة مؤتمرة بأوامره.
أمَّا الإرهاب العراقي الثاني فوجهته تجمُّعات مدنيَّة محدَّدة بلونها المذهبي أو العرقي، مرَّة هذا ومرَّة ذاك. وهدفه معاكس تمامًا لهدف الإرهاب الأوَّل. إنَّه، في رأينا خطوة استباقيَّة لأيِّ انسحاب أميركي من العراق، ويهدف إلى تأسيس حرب أهليَّة طائفيَّة وعرقيَّة، بحيث إذا فشلت محاولات إقامة دولة مؤيِّدة للاحتلال الثلاثي: الأميركي- البريطاني- الإسرائيلي (وإن كان الثالث مستترًا وراء الاحتلالين الظاهرين)، أمكن التحكُّم عن بعد في حرب أهليَّة تُبقي العراق في أتون النيران والدمار، وتمنع قيام دولة قويَّة فيه تكون ذا شأن مؤثِّر في أحداث المنطقة.
لنأخذ مثلاً ثانيًا. الإرهاب الموصوف بالإسلامي في الشيشان وغيرها من جمهوريَّات الاتِّحاد السوفيتي السابق. هل يمكن لنا ألآَّ نضع احتمالاً قويًّا جدًّا بأنَّ هذا الإرهاب مدعوم من دول غربيَّة كبرى وعظمى تريد إبقاء روسيا في حالة ضعف وقلق وبلبلة لا سيَّما في حدودها الجنوبيَّة التي تتاخم واحدًا من أكبر احتياطي النفط في العالم، والذي هو اليوم قبلة أنظار الشركات الغربيَّة؟ وعكسًا، هل يمكن لنا ألاَّ نضع احتمالاً قويًّا آخر بأن تكون بعض التفجيرات الإرهابيَّة التي وقعت في أوروبا الغربيَّة من أسبانيا إلى بريطانيا، هي نوع من ردَّة فعل تقوم بها دول كبرى متضرِّرة من التحرَّكات الأميركيَّة والبريطانيَّة من أفغانستان إلى العراق، مرورًا بحقول النفط في الجمهوريَّات الإسلاميَّة التي كانت جزءًا من الاتِّحاد السوفيتي السابق؟
في هذا المجال، لا تهمُّ هويَّة المنفِّذين سواء أكانوا انتحاريِّين أم خبراء يفجِّرون العبوات عن بعد. المهم هو الجهات التي تقف وراء المنفِّذين والانتحاريِّين. تلك الجهات التي تستطيع تمويل عمليَّات شراء "دعاة" وتدريبهم على استقطاب المريدين والتابعين المؤمنين، ومن ثمَّ توظيفهم في عمليَّات يتوخَّون منها أسرع الطرق إلى جنَّة موعودة، سواء أكانت على متن متفجِّرة مصنوعة في الولايات المتَّحدة أم روسيا أم المملكة المتِّحدة أم محليَّة الصنع في بغداد أو سيناء أو تل أبيب.
لنتابع التقصِّي. هل لا يمكن أن يكون هناك علاقة بين التفجيرات التي تعرَّضت لها تركيا في الأسابيع الماضية وبين مواقفها الإيجابيَّة من الجمهوريَّة العربية السوريَّة وفلسطين، ونقدها الخجول في بعض الأحيان لإسرائيل؟ وهل لا يمكن أن يكون هناك علاقة بين متفجِّرات شرم الشيخ و"ضغط ما" تمارسه الولايات المتَّحدة وإسرائيل لأمور تتعلَّق بموقف مصر من المفاوضات الإسرائيليَّة الفلسطينيَّة؟ أو هل لا يمكن أن يكون له علاقة بالدعوة المفاجئة إلى عقد قمَّة عربيَّة أعرب الفلسطينيُّون فورًا عن خشيتهم من أن تكون منصَّة لإطلاق تنازلات عربيَّة جديدة لإسرائيل لقاء انسحابها من غزَّة؟
نحن نعتقد أنَّ الإرهاب اليوم إرهابات. وأنَّه قد أصبح السلاح المفضَّل لعدد كبير من الدول والمنظَّمات لا سَّيما منها تلك التي لم تستطع الوقوف في وجه الغزو الثلاثي للعراق، والتي ترى مصالحها التجاريَّة والنفطيَّة ألعوبة في أيدي الولايات المتَّحدة وشركاتها العملاقة وسياسيِّيها المحافظين.
هل هذا يعني أنَّه لا يوجد إرهاب عربي أو آخر يقوم به أشخاص يعلنون انتماءهم إلى دين معين، أو يستعملون تأويلاً خاصًّا بهم ليقنعوا أتباعهم بارتكاب موبقات لا يرضاها عقل ولا دين؟ بلى. ولكنَّنا نعتقد أنَّ هذه المنظمات لا تعمل باستقلاليَّة ماليَّة وحركيَّة وعقيديَّة. إنَّ ما نراه يدفعنا إلى مزيد من الاقتناع بأنَّ هذه المنظَّمات أو بعضها قد أصبح أشبه بالمرتزقة في تجارة عظيمة الربح، رأسمالها قليل جدًّا بالنسبة إلى المردود المالي والسياسي. وبأنَّ هذه المنظَّمات أو بعضها، تُستخدم في لعبة سياسيَّة اقتصاديَّة دوليَّة كبيرة.
هل لدينا إثبات واحد على أيٍّ من هذه الفرضيَّات أعلاه؟ أبدًا. ولكن ليس لدى أيٍّ من رؤوساء الدول الذين يصخبون في توجيه أصابع الاتِّهام إلى ما يسمُّونه "القاعدة" أو "الإرهاب الإسلامي" دليل على أنَّ ثمَّة منظَّمة واحدة تدير كلِّ هذه التفجيرات في العالم. فإذا كان هذا هو الواقع، فما عليهم سوى إعلان هزيمتهم في الحرب على الإرهاب.
والمواطن العادي؟ المواطن العادي عليه أن يتعلَّم السير بين الإرهابات مصليًّا ألاّ تصيبه شظاياها، كما يحاول السير بين نقاط المطر مجتهدًا ألاَّ يبتلَّ بمائها.
- آخر تحديث :
التعليقات