نادى الليبراليون الجُدد بثورة ثقافية، من حيث أن الثقافة هي التعبير الواعي عن واقع المجتمع ، والذي بدونه لن يتم اصلاح سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي. وبدأت أولى خطوات هذه الثورة بالمناداة والتشديد على ضرورة وأهمية إصلاح التعليم الديني الظلامي، وإصلاح التعليم العربي بشكل عام، وإلحاقه بالتعليم الحديث عند الدول الغربية (أنظر: مقالات العفيف الأخضر). كما كانت أولى هذه الخطوات المناداة بقيام حركة نقد ذاتي، وقيام ثورة ثقافية على المفاهيم القائمة الآن في العالم العربي. (أنظر: شاكر النابلسي ، الليبراليون الجُدد أبناء المستقبل).

كلٌ يدّعي وصلاً بليلى

من الأفكار الدينية المركزية التي يطرحها رجال الدين فكرة " الديانة الناجية والمعبرة عن رغبات الإله الصحيحة ". وتمتد هذه الرؤية داخل دين ما وتفرعاته المذهبية، لتصبح اضيق بوجود " الفرقة الناجية " . وداخل الفرق أو المذاهب، يصبح هذا النسق مسيطرا على رؤى وطروحات المفسرين والفقهاء. فكلٌ يدّعى وصلاً بليلى. وبالتالي فالتفريعات الفقهية، تتصل بهذه الفكرة النافية للآخر، حيث يوجد قناعات يقينية صحيحة وقناعات هالكة، ترمى بكل رماد الحرائق. فتدور ذهنية الدوغمائي/ المتعصب المنغلق بتقسيمات ثنائية حادة ( معي أو ضدي / قناعة مقدسة ناجية/ قناعة مهرطقة هالكة ). وبالتالي إضفاء مشروعية على الأعمال العنيفة " لتصفية المختلف فكريا، حيث لا يكون الدوغمائي المنغلق قادرا على تغيير جهازه الفكري أو العقلي عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك وعدم القدرة على اعادة ترتيب أو تركيب حقل ما تتواجد فيه عدة حلول لمشكلة واحدة بهدف حل هذه المشكلة بفاعلية أكبر، طبقا لمنطلق أبحاث ميلتون روكيش بين مفهوم الأرثوذكسية والعقلية الدوغمائية (هاشم صالح مقدمة كتاب الفكر الإسلامي: قراءة علمية لمحمد اركون) .

المطلوب رؤية ليبرالية للدين

نظام الفكر هذا، أو الأبستمي طبقا لميشل فوكو، علامة مميزة لنظام الفكر القروسطوي في مرحلة من مراحل التراث الفكري للبشر، الذي تجاوزته بعض الثقافات، ولم تزل تعيش في فضائه العقلي ثقافات آخرى. الديانة المسيحية عرفت ذلك. والباحث السوري هاشم صالح تحدث عن هذا الأمر مطولا على صفحات "الشرق الأوسط". ولكن بجهود كبيرة لفلاسفة عصر الأنوار، ومن سبقهم من مفكرين القرنين السابع عشر والثامن عشر ، تمت إعادة النظر بهذا المكوّن الفكري للمسيحية، لطرح رؤية ليبرالية للاهوت المسيحي، تحرره من هذه العقدة.
في اليهودية والإسلام لم يجر الأمر على نفس الوتيرة. ففلاسفة المسلمين ومفكريهم منذ عصر النهضة في القرن التاسع عشر، لم ينجحوا في معالجة المشكلة، لأنهم أصلا لم يهتموا بها، مع أن مشكلتنا الأساسية دينية. وأي إنكار لذلك لن يجدي نفعا. وأما اليهودية فقد نجحت جزئيا من خلال تيار ما بعد الصهيونية. والمؤرخون الجدد قدموا، ومن جامعة تل أبيب، طروحات نقدية واسعة للتراث التوارتي، ومدى صحته كوثائق تأريخية. وبالتالي نسف نفس الأسس الدينية للإيمان، بمعناه التقليدي المغلق. وقامت الدولة على أساسه . يُنظر بهذا الصدد جهود زئيف هرتسوج، وإسرائيل فلنكشتاين. وقد سبقهم إلى ذلك الفيلسوف الهولندي سبينوزا في دراساته النقدية للعهد القديم. ولكن التيار الفقهي والوريث لقرون طويلة من فكرة "الشعب" المختار والديانة الناجية، لا زال قوياً، لدى الأحزاب الدينية في دولة إسرئيل .

ما الذي نتوقعه من الليبراليين الجدد ؟


نتمنى أن يقوموا الآن بتلك المهمة خارج سياق السجال، والخصومات، وتسقط العثرات على طريقة الباحث كامل النجار، والتي لو طارحه فيها رجل دين متمكن من المقابسات، فلن يخرج منها، وفي فيه واضحة!
إن البحث في أجواء السلام يؤدي إلى نتائج أفضل من الطرح في أجواء الخصام، وحالات الطوارئ المسلحة فكريا. فما قام به الباحث غالب حسن الشابندر في دراسته " على طريق التسامح " المنشور في مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" في تفكيك مقولة " الفرقة الناجية " التي حكمت مسيرة التراث الإسلامي، تُعد خطوة رائعة في طريق تفكيك مقولة " الديانة الناجية "، خصوصا وإن التراث الصوفي يمتلك تجارب وجدانية رائعة، مؤيدة لذلك، بلورها محي الدين بن عربي في مقولته الذائعة :
أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
أو قول جلال الدين الرومي:
ماذا يمكن أن أفعل أيها المسلمون ؟
لست أعرف من أكون
لستُ مسيحيا ولا يهوديا
ولستُ مجوسيا ولا مسلما
إنني لا أنتمي إلى الغرب ولا إلى الشرق
لست من اليابسة ولا من البحر .

من هو الليبرالي الرصين؟

إن فكرة " الديانة الناجية " و " الفرقة الناجية "، بنية اساسية في ظهور التطرف والعنف. فمهما أعتقلت من السفاحين والمجرمين الذين يرتدون ثوب المقاتل الديني، فسيولد آخرين لوجود المستنقع المولد للبعوض فـ "الخلاف بين الاعتدال والتطرف خلاف هامشي وليس خلاقا اساسيا. انه خلاف حول مجال تطبيق المبدأ لا حول المبدأ ذاته " (نصر حامد أبو زيد ، الخطاب الديني المعاصر: آلياته ومنطلقاته الفكرية، ص 45 ).
ما نحتاجه هو أن نقوم بعمليات تفكيك لمبدأ وإحلال آخر محله. فالليبرالي الرصين لا يفكك ويترك الخراب وراءه، بل يفكك ليبني ويرّكب شيئا جديدا . والرؤية الليبرالية لا تنفي مطلقا الدين، بل تعارض إحتكاره لحق النجاة الآخروية، وتحافظ عليه كضمير روحي للمجتمع والأخـلاق الإنسانيــة .
الليبرالية عملية طبية جراحية للذاكرة، تعالج ما فيها من أوجاع، بدلا من إعطاء المهدئات الخطابية والشعارات التي تقفز على المشاكل الحقيقية، لتتحدث عن أوطان ليس لنا منها إلا الاسم، ومؤسسات لم نصنعها نحن، بل وضعتها لنا الدول فيما يُسمّى بعهود الاستعمار. فكان هناك مصر والمغرب والأردن والعراق ولبنان ، تمتلك عملة وجنسية وكيان ما، في ظل واقع اجتماعي لا يفهم معنى الهوية الوطنية. فالناس في الواقع، لها هويات قبلية وعرقية ودينية وطائفية، كما نرى اليوم في العراق. فلا يوجد شئ اسمه هوية عراقية، بل توجد هوية كردية وعربية واشورية وتركمانية، وتوجد هوية شيعية وسنية ويزيدية أو ايزيدية ومسيحية، وما ينتج من العرق والدين كالكردية الشيعية والعربية السنية، وما شاكل ذلك .
فما الذي يجمع بين السني والشيعي، مهما تبادلوا عبارات المجاملة؟
وما الذي يجمع بين المسيحي والمسلم، فمهما زعموا أنهم جميعا واحدا، فقلوبهم شتى ؟
هذه مشاكل وقنابل موقوتة في عمق وجودنا الاجتماعي وقابلة للأنفجار عند أول فرصة سانحة. لذلك ، فعلى الليبرالية أن تعالج ذلك بصراحة، وتسمّي الأشياء باسمائها، ولا دخل لها بشعارات الأمة الإسلامية، ولا بشعارات الأمة العربية، أو الأمة الكردية أو التركية. فالصيرورة التأريخية لا يمكن أن تسمح بهوية أو عصبية إسلامية أو عصبية عربية أو غير عربية، في ظل وجود تلك العصبيات الصغيرة، والتي ينكرونها رغم عمق وجودها لدينا، وفي ظل ثقافة " الفرقة الناجية " أو " القبيلة الأحسن والأفضل : الفخر" . فالقبيلة ايضا محكومة بفكرة الأفضلية والدم المقدس. وفي العراق توجد قبائل تعتبر أمر تزوج بناتها من قبائل آخر العار الذي ما بعده عار، كقبيلة النصيرات الذين اشتهروا بقولهم : "نحن أغطية ولسنا فراشا". وكثيرا ما أرى هذه الفكرة توسعت واستحوذت على المجتمع برمته عندما ينزعجون من تزوج المرأة العراقية من غير العراقي. هذا فضلا عن العصبية حتى في ممارسة الجنس خارج إطار الشكل الشرعي المعروف. فالعلاقة الجنسية التي يعتبرونها عهراً، تتطلب أن تكون المومس العراقية ذات خلق وكرامة قبلية، خاصة أنها لا تمنح نفسها لغير العراقي ! ولا أدري كيف يتم تجاهل هكذا واقع، للحديث عن أشياء لا يمكن أصلا تحقيقها في ظل تلك الظروف غير المحلولة وغير المضاءة والمُعالجة، لحد الآن .

ورشات العمل مهمة الليبراليين

وجود المشكلة بشكل تاريخي وفكري مُعقّد، يحتاج أن يُشمّر الليبراليون عن سواعدهم في ورشات عمل بحثية، خارج نطاق الخطابات الوردية، كما فعل رجالات أوروبا في تفكيك عصبيات القبائل، وتفكيك عصبيات المذاهب الدينية، وتوسيع نطاق معنى العصبية، حيث سيأتي يوم، ويعلن الاتحاد الأوروبي عن وجود هوية أوروبية واحدة. وما زالوا يعملون على ذلك، رغم الإنتكاسة الأخيرة في الإستفتاء على الدستور الموحد. فالشعوب الأوروبية، رغم المنجزات الحضارية الضخمة التي حققوها، ما زالت بطبيعة الحال كسائر البشر، تحتاج إلى عمليات أوسع في التحضّر ، والمضي نحو الأمام. وهذا ما يقوم به المفكرون والعلماء الأوروبيون بشكل مستمر، من إشتغال الذات على ذاتها، ومعالجة مشاكلها الخاصة، وهو ما نحتاجه نحن أيضا.

لنكف عن إلقاء القنابل


لا معنى للحديث عن قضايا ومشاكل لا وجود لها في مجتمعاتنا، وكأننا في بحبوحة حضارية، لنقوم بمناقشة مشكلات ما بعد الحداثة، وإلقاء قنابل الألفاظ والمصطلحات على طريقة بعض مفكري المغرب العربي، وكأنهم لا يعيشون وسط الثقافة الأمازيغية والعربية والواقع الثقافي الحقيقي لمجتمعاتهم. فلست ادري إن زاروا وعايشوا بربر الناضور والحسيمة أو عرب البيضاء ومشكلاتهم .
* باحث عراقي مقيم في هولندا