عقد الملك الأردني عبدالله الثاني قبل أيام قليلة إجتماعا، يكاد يكون غيرإستثنائيا ضمّ رؤساء وأعضاء مجلس الوزراء ومجلسي الأعيان والنواب ورؤساء الوزراء السابقين ومستشاريه والمستشارين في الديوان الملكي، وقد لوحظ علنا غضب الملك من جميع الحضور غضبا نمّ عن إستيائه الشديد من الأداء والحراك السياسي في بلاده، خاصة هذا الحراك النكدي الذي أعقب تشكيل حكومة الدكتور عدنان بدران قبل أقل من ستة شهور، وهو حراك سياسي يدلل من ناحية على ظاهرة صحية وهي ممارسة النواب لدورهم في نقد أداء الحكومة وصولا لأداء شفاف يحقق مصلحة الوطن والمواطن، إلا أنه من ناحية ثانية دلّل على ضيق أفق العديد من النواب وبحثهم الحثيث عن مصالح جهوية، وكأن منطقة كل نائب دولة مستقلة يهمه مصلحتها دون التفكير في باقي مناطق الوطن....إن القراءة المتأنية لخطاب الملك عبدالله الثاني، تستطيع تحديد المفاصل النوعية في أداء السلطات الثلاثة في بلاده التي أدت إلى غضبه الذي عبّر عنه بهذه الصراحة والحدة التي غلبت على خطابه:

1. مسألة المناكفة بين النواب والحكومة
شهدت حكومة الدكتور عدنان بدران من النقاشات في مجلس النواب ما لم تشهدة أية حكومة أردنية، فور تشكيلها وقبل تقدمها لنيل الثقة من مجلس النواب، بدأت الإعتراضات والتشكيكات من قبل نواب مناطق معينة، لأن الحكومة ضمت وزراء من تلك المنطقة أقل من الوزراء من مناطق أخرى، وجرت عدة محاولات للفلفة الموضوع عبر وعود بأخذ ذلك في عين الإعتبار عند أول تعديل للحكومة، وقد سرت الإشاعات عن إحتمال إستقالة الحكومة قبل نيلها الثقة، تلك الثقة التي نالتها بنسبة ضئيلة جدا، بعد أن صوّت لها غالبية نواب من عرفوا بإسم (قرنة شهوان المجالي)، الذين كانوا قد أعلنوا عن حجب الثقة عن الحكومة وعددهد 48 نائبا، ومنحها الثقة 33 منهم، وبدونهم ماكان متوقعا حصولها على الثقة بتلك النسبة الضئيلة جدا، بعد أن حجب عنها الثقة نواب كتلة الحركة الإسلامية وعددهم 17 نائبا، وسبعة نواب من كتلة التجمع الديمقراطي، وسبعة نواب ممن يطلق عليهم (تجمع المستقلين). ولوحظ من مناقشات منح الثقة أن الحكومة تعرضت لنقد و تجريح ربما لم تواجهه حكومة أردنية سابقة، حيث شارك في هذا النقد والتجريح العاليين 91 نائبا من عدد أعضاء البرلمان إل 110. الملاحظة على ذلك هي كيف يتم نقد حكومة كان من كان رئيسها وهي ما زالت في لحظات تشكيلها أي لم يعرف شيء من أدائها، أي لم يعرف خيرها من شرّها، وهذا يعني بوضوح أن مناكفات النواب في غالبها شخصية أو جهوية، لهذا قال الملك عبد الله الثاني في خطابه: (أنا حكيت ياإخوان مرات عديدة أنه لابد من العمل بروح الفريق الواحد..وأننا جميعا أعيان ونواب وحكومة شركاء في تحمل المسؤولية وكلنا في خندق واحد وأن العلاقة بين السلطات الثلاث وخاصة السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية لازم تكون علاقة تعاون وتكامل ومبنية على الثقة والإحترام والشعور بالمسؤولية المشركة، لكن مع الأسف مازالت أمامنا بعض مظاهر عدم الثقة وتبادل الإتهامات أو إلقاء اللوم والمسؤولية من كل فريق على الفريق الآخر...والمؤسف أكثر شدّ الحبل بين الحكومة والنواب ومين إللي بيقدر يلوي ذراع الثاني)...إن تشخيص الملك عبدالله الثاني للعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يشخص بموضوعية حدود هذه المشكلة التي تعرقل فعلا الأداء الحكومي في الأردن، فمن غير المعقول أنه منذ تأسيس الأردن في العام 1921 وحتى اليوم أي خلال 84 عاما تشكلت 89 حكومة أي بمعدل اقل من عام عمر أية حكومة، وبالتالي كيف يمكن محاسبة رئيس الحكومة او وزراء حكومته على أدائهم وإنجازاتهم، فمن يستطيع أن يضع خططا وبرامج لشعب بكامله وينفذها في اقل من عام؟؟؟. و بالتالي فإن المسؤولية تقع على عاتق الجميع..(إذا كان النواب غير راضين عن أداء الحكومة فإن المواطنين غير راضين عن أداء النواب) كما قال الملك، لأن غالبية عمل النواب هو خدماتي شخصي لا يمت بصلة للبرامج والتخطيط، وقد ذهلت قبل عامين عند زيارتي يوم سبت لمكتب النائب غسان الجمرا في مدينة إربد، فإذا المتجمهرون أمام مكتبه للقائه لايقل عن خمسين مواطنا ومواطنة، وجلست في مكتبه حوالي ساعتين مستمعا لطلبات زواره، فإذا هي كلها طلبات شخصية إما طلب وظيفة أو مساعدة أو قبول في جامعة أو إعفاء دواء..أو..أو..فأدركت الخلل القائم في وظيفة النائب بين بلادنا والبلدان الأوربية المتقدمة...في هذه البلاد لا يستطيع رئيس البرلمان أن يمنحك دينارا واحدا إذا كان القانون لايسمح به، وكذلك لا يستطيع أن يحرمك من دينار إذا كان القانون يمنحك إياه. لذلك من المثير أن يقول جلالته عن الواسطة المستشرية في المجتمع الأردني: (إنها عمل غير شريف).

2. مشكلة البطالة ومتطلبات سوق العمل

وبصدد هذه المشكلة التي يعاني منها المجتمع الأردني، كان الملك صريحا وشجاعا في مواجهة المفاهيم الإجتماعية الخاطئة المتخلفة..(نحن نعرف أن السبب الرئيسي في هذه المشكلة هو ليس عدم وجود فرص العمل وإنما عدم الرغبة في العمل المهني أو اليدوي). وهذا هو لبّ المشكلة، فمن غير المنطقي أن بلدا محدود الموارد والإمكانيات كالأردن يوجد فيه ما لا يقل عن نصف مليون عامل مصري وسوري وعراقي، يقومون بأعمال يأنف المواطن الأردني من العمل فيها، لأنه لو عمل فيها ولم يجد العامل العربي من تلك الأقطار عملا لما بقي مقيما في الأردن، ويتبعها مسألة إنتشار (الخادمات) من سيريلانكا وإندونيسيا والفلبين، وأعتقد أن نسبة واضحة من البيوت الأردنية بما فيها متوسطي الدخل يستخدمون تلك الخادمات، رغم عدم الحاجة الماسة لهنّ، وهذه مسألة لها علاقة بالثقافة والمفاهيم الإجتماعية السائدة، التي تبحث عن المظاهر الفارغة الجوفاء ولو على حساب دخل الأسرة المادي، تماما كما يقول المثل (بيحب الكبرة ولو على خازوق)، من هنا لمس الملك لبّ المشكلة عندما ادان الواسطة كونها عملا غير شريف، وأدان أداء النواب..(أتمنى على كل واحد من الإخوة النواب أو الأعيان أو الوزراء بدل ما يتوسط لأحد الناس من أجل الحصول على وظيفة، أن نحاول تغيير نظرة أبنائنا وبناتنا للعمل والوظيفة..ولازم يفهموا أن العمل المهني أو اليدوي ليس لأقل أهمية أو إحتراما أو حتى مردودا ماديا من عمل المكتب)..إنها الثقافة السائدة، بدليل أنه من الطبيعي أن تجد في أوسلو طبيبا أو مهندسا أو كاتبا، يود زيادة دخله أن يعمل في وقت فراغه سائق سيارة أجرة...فهل يجرؤ واحد من اصحاب هذه المهن في بلادنا أن يفعلها ؟؟؟.

3. هاجس التوطين أو الوطن البديل

هذا الهاجس أو الخوف الذي طرحه الملك بصراحة أوضح من الصراحة، ليس من السهل القفز عنه رغم أن الخوف منه يتضاءل ويتراجع كلما تقدم الشعب الفلسطيني خطوة نحو دولته المستقلة، كما أن طبيعة العصر ما عادت تقبل قيام إسرائيل ثانية، بمعنى قيام دولة لشعب على أرض شعب آخر، ولا أعتقد أن هناك فلسطينيا يقبل بقيام دولة الوطن البديل متنازلا عن حقوقه التاريخية في وطنه فلسطين، لذلك محاربة هذا الهاجس والخوف مطلوبة أولا من الأردنيين من أصول فلسطينية كما قال الملك....

خطاب الملك عبدالله الثاني هذا غير مسبوق في الأداء السياسي العربي، فقد تعودنا رضاء الحاكم على وزرائه ونواب برلمانه أو محاولة كسب رضاهم بأية طريقة، أما هذا الخطاب فيعلن صراحة تذمر الملك من أداء النواب أولا قبل الوزراء، وهذا يعني إما أن يتطوروا في أدائهم لمواجهة التحديات التي تفرضها مسيرة الإصلاح المطلوبة أو (الله يعطيكم العافية) حسب الإستعمال الشعبي السائد بمعنى تنحوا وافسحوا المجال لمن هو أهل للمسؤولية بشفافية بعيدا عن ثقافة المناطقية والعشائرية والمحسوبية....الأردن بلد فقير بموارده الطبيعية، غني بخبراته البشرية، فقط لو يستطيع الخروج من المفاهيم والثقافات المتخلفة التي حددها الخطاب الملكي، وهذه مسألة تحتاج لتكاتف الجميع...وتوجيه هذا الحراك السياسي نحو سبله الإيجابية، فلا أعتقد أن العديد من الدول العربية يمكن أن تشهد هذا الحراك السياسي حول تشكيل حكومة دون ان يزج في السجن العديد من المشاركين في هذا الحراك، وهذه إيجابية المسيرة الديمقراطية الأردنية التي تتوسع يوميا منذ إنطلاقتها في عام 1989 في زمن المرحوم الملك حسين....نستطيع أن ندرك ذلك بموضوعية ممن يزجون في السجون يوميا في دول مجاورة للأردن، وعدم وجود معارضة أردنية في الخارج وعلى غرار دول مجاورة أيضا، وهذا دليل أن ألأردني يستطيع قول مايريد دون (أن يزور بيت خالته !!).....خطاب ملكي غير مسبوق يدلل على ذهنية وعقلية أكثر تقدما وتطلعا من غالبية النواب الذين لايجيدون إلا فن مناكفة الحكومة حتى قبل بدئها عملها..وفعلا (بارك الله فيكم والله يعطيكم العافية) كما قال جلالته..فهو بذلك يضع الأردنيين أمام مسؤولياتهم: هل تريدون مجتمع عصريا متقدما يكون غنيا بخبراته البشرية أم تريدون البقاء في مجتمع العشيرة والمنطقة والمحسوبية ؟؟

[email protected]