كانت مفاجأة المفاجآت أن يخرج السيد عبد الحليم خدام عن صمته وأن يذهب بعيداً في مهاجمة النظام السوري الى حدّ جعله يعترف بأن الوطن أهم من النظام.هل بلغ اليأس من النظام بخداّم حدّ أقدامه على مثل هذه الخطوة التي لا يقدم عليها عادة سوى الكبار الكبار؟

لا يمكن أعتبار عبد الحليم خدّام مجرد شخص عادي في سوريا، خصوصاً أذا اخذنا في الأعتبار طبيعة العلاقة التي ربطته بالرئيس الراحل حافظ الأسد الذي لا شك في أنه وضع في العام 1970الأسس للنظام القائم في سوريا ، ذلك النظام الذي ورثه بشّار الأسد وسعى الى المحافظة عليه بطريقته الخاصة التي قد لا تكون لها علاقة بالطريقة التي أعتمدها والده.

في حديثه الطويل الخارج عن المألوف الذي أدلى به الى quot;العربيةquot;، اظهر عبدالحليم خدام الذي لم يكن يوماً بعيداً عن الشبهات ، أقله في مجال الصفقات التجارية، انه يمتلك حدّا أدنى من الوفاء للرجال الذين خدموا سوريا وعملوا من أجل أخراجها من المآزق التي مرت فيها. لم يجد خدّام مفرّاً من أن يقول كلمة حق في رفيق الحريري،ذلك العروبي ألأصيل الذي عمل كل ما في وسعه من أجل حماية سوريا في ظروف أقل ما يمكن أن توصف به أنها في غاية الصعوبة.
ولكن أبعد من أعطاء كل ذي حق حقّه وكل شخص حجمه الحقيقي، خصوصاً السيد فاروق الشرع وزير الخارجية الذي يفهم في كل شيء ربما، باستثناء السياسة الخارجية، لجأ عبد الحليم خدّام الى تعريةالنظام السوري بصراحة ليس بعدها صراحة. لا داعي للعودة الى ما قاله في المقابلة التي يظل أهم ما فيها أنه أكد بما لا يقبل الشك أن الحريري تلقى تهديدات مباشرة من أركان النظام على رأسهم الرئيس بشار ألأسد في الأشهر التي سبقت أغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق وزعيم السنة في لبنان. لم يفت نائب الرئيس السوري السابق الذي كان مع العماد حكمت الشهابي رئيس الأركان أقرب الناس الى حافظ الأسد، الأشارة الى البعد السني لعملية أغتيال الحريري. قال ذلك صراحة عندما أشار الى من بين مآخذ النظام السوري على رئيس الوزراء الراحل، سعيه الى تكتيل أهل السنة في لبنان حول شخصه. ولم يفت خدّام لفت النظر في هذا السياق الى أن النظام السوري يغض النظر عن الأحزاب الأخرى في لبنان وكلها أحزاب مذهبية مثل quot;أملquot; أو quot;حزب اللهquot; وغيرهما، ولا يرى خطأ الاّ في تجمّع أهل السنة وتكتلهم حول الحريري، علماً بأنه كان من الأفضل لو أكد نائب الرئيس السوري السابق أن الحريري لم يسع يوماً الى أن يكون زعيماً سنياً، بل كان حريصاً كل الحرص على البعدين الوطني والعربي لما كان يقوم به في لبنان وخارج لبنان.

في كل ألأحوال والظروف، يشكل كلام عبد الحليم خدام(أبوجمال) نقطة تحول على ثلاثة صعد أولها تركيبة النظام السوري، وثانيها مجرى التحقيق في أغتيال رفيق الحريري والشخصيات اللبنانية الأخرى التي ذهبت ضحية الأرهاب في السنة 2005، وثالثها الغطاء العربي والدولي الذي كان يتمتع به النظام حتى لحظة أغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق في 14 شباط- فبراير 2005 .

على صعيد تركيبة النظام، كشف كلام خدّام للمرة الأولى عمق الأزمة الداخلية في سوريا وكيف أن القرار صار في يد رجل واحد بات أسير المحيطين به من أعضاء الحلقة الضيّقة التي تتمتع بكل أنواع النفوذ وألوانه. وكان خدام واضحاً في سعيه الى أجراء مقارنة مع ما كانت عليه الأحوال في عهد حافظ الأسد. ما لم يقله النائب السابق للرئيس السوري الذي كان مسؤولا عن ملف لبنان أنه صحيح أن ألاسد الأب كان صاحب القرار النهائي، الاّ أن الصحيح أيضاً أنه لي يكن يتخذ قراره بطريقة quot;أنفعاليةquot; كما الحال الآن. وبكلام أوضح، يشكل الموقف الذي أتخذه خدام أقوى ضربة توجه الى النظام خصوصاً أنها تأتي بعد أسابيع من quot;انتحارquot; اللواء غازي كنعان الذي كان وزيراً للداخلية ولكنه كان قبل ذلك الحاكم الفعلي للبنان طوال عشرين عاماً. فضّل غازي كنعان الصمت على الكلام الكبير، وفضّل على الأرجح الأنتحار بدل الأعلان صراحة عما يجول في خاطره وما عانى منه في السنوات الأخيرة. أما خدّام فقد فضّل الكلام على الأنتحار، وليس مستبعداً أن يحذو آخرون حذوه والسؤال الكبير يتعلق بما سيفعله العماد حكمت الشهابي الموجود منذ فترة خارج سوريا؟

على صعيد التحقيق في أغتيال الرئيس الحريري، جاء كلام خدّام ليعزز النظرية القائلة أن التحقيق يسير في أتجاه كشف الحقيقة. والحقيقة تتلخص بكل بساطة بأن الذين أتخذوا قراراً بالتخلص من رئيس الوزراء اللبناني السابق لم يدركوا أنهم لم يرتكبوا مجرد جريمة عادية ستمر على غرار مرور جرائم أخرى في لبنان وغير لبنان. لم يدرك المخططون والمحرضون والمنفذون، بسبب غبائهم أوّلا وروح الأجرام والحقد التي تسيرهم ثانياً، أن العالم تغيّر من جهة وأن رفيق الحريري ليس مجرد شخصية لبنانية يمكن أن تزاح بسهولة وان تستمر الحياة كما لو أن شيئاً لم يكن من جهة أخرى. لقد ثبُت بعد الكلام الذي قاله عبد الحليم خدام أن أغتيال رفيق الحريري كان زلزالا على الصعيدين اللبناني والسوري وأن هذه المصيبة على خلاف المصائب الأخرى التي تبدأ كبيرة ثم تصغرهي من المصائب التي تبدأ كبيرة ثم تكبر أكثر. انها زلزال بكل معنى الكلمة، زلزال أدى، بين ما أدى اليه، الى خروج القوات السورية من لبنان بطريقة أقل ما يمكن أن توصف به أنها غير مشرّفة، طريقة كان يفضل أي عربي ان تكون مختلفة. ولكن ما العمل مع نظام يعتقد أن الغاء الآخر وسيلة من وسائل الحوار؟

يبقى الصعيد العربي. ما قاله عبد الحليم خدام يظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن الغطاء العربي رُفع عن النظام السوري. واذا أردنا أن نكون أكثر تحديداً، أمكن القول أن المملكة العربية السعودية رفعت الغطاء عن نظام كان يعتبر الى ما قبل فترة قصيرة ابنها المدلل. يتبن بعد بث quot;العربيةquot; لحديث خدام بكل ما فيه من قنابل، أن الخيار السعودي بات واضحاً في ما يتعلق بالذهاب الى النهاية في معرفة من قتل رفيق الحريري ومن قتل شخصيات أخرى في لبنان من باسل فليحان، الى سمير قصير، الى جورج حاوي، الى جبران تويني...أن لعبة التوازنات الأقليمية التي كان يتقنها حافظ الأسد صارت جزءاً من الماضي. وهذا ما أدركه عبد الحليم خدام الذي كان يعرف قبل غيره أن سوريا ما كانت لتدخل الى لبنان لولا الغطائين العربي والدولي. صارت من دون الغطاء الدولي بعد صدور القرار 1559 ...وفقدت الغطاء العربي بعد اغتيال رفيق الحريري.

كشف حديث عبد الحليم خدام كم هي عميقة أزمة النظام السوري. حاول الرجل أحياناً الأبقاء على شعرة معاوية مع الرئيس بشّار الأسد، لكنه ما لبث أن قطعها، خصوصا عندما قال أن ليس في أستطاعة جهاز سوري تنفيذ جريمة في حجم أغتيال رفيق الحريري من دون معرفة الرئيس. في النهاية ترك quot;أبوجمالquot; القرار النهائي للتحقيق الدولي مدركاً أن الحقيقة ستظهر عاجلاً ام آجلا. اكيد أنه أخذ في الأعتبار ردود فعل النظام بما في ذلك الكلام الذي ردده نواب بدوا كأنهم أتوا من عالم آخر في جلسة مجلس الشعب السوري التي تلت حديثه التلفزيوني. أكتشف هؤلاء النواب فجأة أن هناك فساداً في سوريا. وأكتشفوا أن عبد الحليم خدام عنوان لهذا الفساد. أنها خطوة الى أمام لعلهم يتبعونها بخطوة أخرى تؤدي الى كشف الحقيقة في أغتيال رفيق الحريري والشخصيات الوطنية اللبنانية الأخرى بدل الاستمرار في اللف والدوران هرباً منها. نعم أن الحديث عن الفساد جيد خصوصاً أذا كان هناك من يتجرأ في الذهاب الى أبعد من شخص عبد الحليم خدّام... الى معرفة الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. كل ما تبقى مناورات لا طائل منها لا تقدم ولا تؤخر وهو م أدركه عبد الحليم خدّام عندما نفض يديه من النظام وفرّق بينه وبين الوطن وأتخذ قراراً بالكلام بدل اللجوء الى الأنتحار!