من أيّ طينة جُبلت هذه الشّعوب العربية؟ إنّه سؤال لا يني يُلحّ على كلّ من يملك ذرّة من بصيرة في هذا الشّرق العربيّ المأزوم حتّى النّخاع. من أيّ طينة عقيمة جُبلت هذه الشّعوب الّتي دأبت على السّير وراء زُعماء القبائل العاربة دون أن يرفّ لها جفن، رغم كلّ المظالم والهزائم الّتي يمنحها هؤلاء الزّعماء عربون وفاء منهم لبطون وأفخاذ أعاريبهم؟ من أيّ طينة ومن أيّ جينة وقعت هذه الشّعوب على هذه الأرض؟ والسؤال لا يني يُلحّ ويلحّ طوال عقود وقرون ولكن لا حياةَ، بل لا حياءَ لمن تنادي.
***
مهما يكن من أمر تصريحات ذلك الخدّام (لا شكّ أنّه اسم على مسمّى) الّذي خدم طوال عقود النّظام البعثي الفاشي في الشّام، ومهما تكن الأسباب الّتي حدت به الآن إلى أن يفتح فمه في مدينة پاريس المحروسة، غير أنّ أمرًا آخر لا بدّ من النّظر فيه وبعيون بصيرة، لأنّه خير شاهد على حال العربان هذه. فلقد سارع مجلس الشّعب السّوري إلى الاجتماع عقب تصريحات هذا الخدّام، ومثلما ذكرت الوكالات أنّ قرارًا بالإجماع قد اتّخذه المجلس يدعو الحكومة السّورية إلى محاكمة الخدّام الآبق بتهمة الـ quot;خيانةquot;. وأضافت الأنباء الّتي نمت إلى مسامعنا من الشّام أنّ المجلس إيّاه قد اتّخذ قرارًا باسقاط الجنسية السورية عن الخدّام، وبمصادرة امواله المنقولة وغير المنقولة.
***
إنّها ظاهرة فريدة هذه الّتي نحن بصددها. فقط دول العربان وحدها وفقط شعوب العربان وحدهم، بخلاف سائر دول وشعوب الأرض قاطبةً، يقرّر حكّامهم ونوّابهم سحب الجنسيّات عن المواطنين. لا توجد مثل هذه البدعة إلاّ لدى فصيلة العربان، مثلها مثل بدعة توريث الرئاسات المزعومة للأبناء. وإزاء هذه الظّاهرة لا يجد المرء مناصًا من طرح السّؤال، كيف ذا لم يصل بعد إلى ذهن هؤلاء العربان وإلى عقليّاتهم البائدة أنّ الجنسيّة هي حقّ مولود مع الفرد ولا يملك أحد من البشر، مهما كان منصبه أن ينزعها عن الفرد وتحت أيّ ظرف. إذن، فعندما يتّخذ أعضاء مجلس شعب، كما يُطلق عليهم زورًا وبهتانًا، قرارًا بشطب جنسيّة شخص ما مولود في بلده وأرضه وبين شعبه، لا مناص من السّؤال الّذي نطرحه هنا: من أيّ طينة، بل من أيّ جينة أنعم الله علينا بهؤلاء النّفر من المخلوقات؟
***
والأنكى من كلّ ذلك أنّ هذه القرارات تُتّخذ بالإجماع. أيّ إجماع هذا وأيّ جماعة بشريّة هي هذه الّتي تتّخذ مثل هذه القرارات؟ ألا يوجد هنالك فرد واحد، شخص واحد، quot;ابن حلالquot; واحد له رأي يختلف عن هذا الإجماع؟ وكيف يمكن للإنسان في هذا العالم أن يثق بهكذا فصيلة من مخلوقات؟ وهل هذه هي عقليّة العبيد الّتي يترعرع عليها العربان في ظلّ هذه الأنظمة الّتي اغتصبت كلّ شيء في كيان هؤلاء النّفر من البشر، فأضحوا كالقطيع يُساقون طوال قرون بالعسف حتّى صار الخنوع سمةً ملازمة لهم؟
***
ها هم يظهرون أمامنا على الشّاشات الفضائيّة بكلّ تشكيلات وتنويعات ألوانهم في هذه البقعة من الأرض. يتفرّج الفرد عليهم كما لو أنّه أمام شاشة quot;ناشيونال جيوچرافيكquot;. يعيشون ويأكلون ويتوالدون ويتحاربون كغيرهم من فصائل مخلوقات الطّبيعة، ولكنّهم لا يملكون شيئًا من طبيعة البشر، هذا الجنس الآدميّ الحرّ الّذي أنعم أنعم الله عليه بالعقل نبراسًا يهديه إلى سواء السّبيل. وها هم لا يملكون شيئًا من ملكة التّفكير بما يجرّه عليهم مثل هؤلاء المتسلّطين الوارثين الّذين يورّثون الهزائم والمظالم كابرًا عن كابر، لا يستطيعون منها فكاكًا، ولا من شِباكها حراكًا.
***
وخدّام هذا بلا شكّ هو أبعد ما يكون عن القدّيسة تيريزا، إذ أنّه خدم النّظام الظّالم طوال عقود. وإذا كشف عن شيء فإنّه عالم ببواطن أمور هذا النّظام. وإذا وصفه أعضاء مجلس الشعب السّوري بأنّه رأس الفساد، فهم أيضًا يعرفون ما يقولون. لكنّهم أين كانوا طوال كلّ هذه العقود، ولماذا لم ينبس أحد منهم ببنت شفة؟ أليسوا بذلك يثبتون للقاصي والدّاني أنّهم وبالإجماع شريكون بهذه الجرائم. إذن، ماذا يتبقّى بعد كلّ هذا؟ الحقيقة أنّ خدّام على حقّ فيما يتّهم النّظام، وأعضاء مجلس الشّعب في الشّام على حقّ أيضًا فيما يتّهمون الخدّام. من هنا نخلص إلى النّتيجة أنّ جينة هذا النّظام وهذا البعث وجينات المنبعثين من صلبه هي جينات فاشيّة فاسدة آن الأوان لدفنها في مزبلة التّاريخ إلى غير رجعة.
***
وبعد كلّ هذا، ماذا نقول فيهم؟ إذن، لنقل فيهم قريضًا طالما استساغته آذانهم، فارتعشت لسماعه أبدانهم. فلعلّ وعسى نُفرّج عن نفوسهم ونبعد عن قلوبهم بعض الأسى:
خَلْقٌ مِنَ القَفْرِ بَيْنَ القَاعِ والقِمَمِ
يُحِلُّ سَفْكَ دَمٍ فِي مَشْرِقٍ كَلِمِ
**
وَيَنْتَشِي لِطُلُولِ الدَّمْعِ فِي مُقَلٍ
مُذْ جَاءَ كَابِرُهُمْ مِنْ أَعْصُرٍ ظُلُمِ
**
لا العَقْلُ يُرْشِدُهُ إنْ هَامَ فِي شِعَبٍ
أَوْ حَلَّ ضَيْفًا بِأَرْضِ الغَيْرِ مِنْ عَجَمِ
**
فَالجَهْلُ مَرْكَبُهُ وَالثَّأْرُ مَطْلَبُهُ
وَالْقَتْلُ مَلْعَبُهُ، يُفْتِي بِلا ذِمَمِ
**
لِكُلِّ دَاءٍ حَبَانَا العِلْمُ أَدْوِيَةً
إلاَّ بَنِي يَعْرُبٍ مِنْ سَائرِ الأُمَمِ
**
إنَّ العُرُوبَةَ دَاءٌ لا دَوَاءَ لَهُ
إلاَّ بِتَعْقِيمِها فِي مَوْطِنِ النَّسَمِ
التعليقات