في الوقت الذي كان يفتخر العراقي بالتعدد الديني والقومي والأجتماعي بين أهل العراق وماتحكمه من أعراف وتقاليد وقيم منسجمة مع طبيعة الحياة اليومية للناس ، بل ويفتخر أهل العراق بهذا التكاتف الأجتماعي والتجانس الأنساني وأحترام العقائد والأديان في بلد قل نظيره في المنطقة من نواحي التعدد الديني والقومي والطائفي.
وكان يهود العراق ضمن هذه التشكيلة الوطنية من المساهمين الفاعلين في بناء الوطن، وفي ترسيخ القيم والأعراف والتقاليد مع أعتزازهم الشديد بمدنهم ومحلاتهم، وبعلاقاتهم الأجتماعية المتميزة مع أبنــــاء العراق من المسلمين والمسيحيين أو الصابئة المندائية أو الأيزيديين.

لم تزل ذاكرة اهل العراق العبقة تحمل الكثير من الذكريات عن اليهود العراقيين الذين تم ترحيلهم على مضض، فغادروا وطنهم وتم أقتلاعهم من جذورهم وقلوبهم تتكسر ألما ولوعة على الفراق المستعجل والذي لم يكن في البال وتركوا أرواحهم و ثرواتهم وقلوبهم وذكرياتهم خلفهم.

لم تزل الذاكرة العراقية تحكي قصة الوجع العراقي حين تم سلب أنسانية المواطن لتجعله السلطات يهرول لايحمل معه سوى روحه الفارة، ولايدري أين يجعلها تســتقر وترتاح بعد أن فقد الأمان في وطنة وبين أهله.
وقصص الوجع العراقي المبثوثة عبر الزمـن الطويل رغم تعددها الا أن أكثرها ايلاماً وأستمراراً، ذلك الشهيق الذي يصاحب أسم العراق في ثنايا قلوب أهله من يهود العراق، اليهود الذين ما قدموا لوطنهم الا الخير والخبرة والعلم والمساهمة في تطويره وبناءه والتفاخر بالجهد الوطني الذي قدمته الأسماء اليهودية العراقية التي سجلت حضورها في تاريخ العراق السياسي أو الأقتصادي أو التجاري أو الثقافي أو الأجتماعي ، وقدموا له كل مايقدرون عليه، وخدموه بكل أخلاص ووطنية حتى نزع عنهم الوطن غيلة وكراهية وتم رميهم على مصاطب المخافر الحدودية الموحشة وفي زنازين التوقيف بأنتظار التسفير المقيت وسط زمن مليء بالوحشة والمرارة، فأضحوا ضحايا اللعبة السياسية الدولية فكانوا الأوراق التي تقتضيها اللعبة الدولية، فأستغلت مشاعرهم وكيانهم وتجمعاتهم البشرية ضمن هذه اللعبة السياسية الكبيرة.
لم يكن أهل العراق من اليهود سوى النتاج المتجانس لهذا الخليط الديني و الأجتماعي والطيف الوطني الذي يتباهى به العراق، ويزهو به بين بلدان الله، الحرية الدينية التي يتمتع بها الجميع تدلل على عمق المعاني الأنسانية وسعة المساحة العقلية التي تتمـتع بها العقليات والمرجعيات الدينية المتجانسة في زمن بعيد عن اليوم، الأحترام المتبادل لبيوت العبادة والشعائر والطقوس الدينية ، يهود العراق الذين كانوا يتعاملون في التجارة دون سندات مكتوبة أو صكوك مصدقة والذين عرفهم تجار العراق ومزارعيه بالأمانة والصدق والأخلاص في التعامل التجاري و كون الثقة هي الأساس في علاقاتهم الأنسانية، يهود العراق الذين تداخلوا بشكل لايقبل الأنفصال ضمن جسم المجتمع العراقي ، فلاتجد يهودي الا وله علاقة بعائلة مسلمة أو مسيحي أو صابئي أو أيزيدي بعائلة يهودية دون وجود حواجز دينية أو مذهبية، فكان فصلهم عن العراق بمثابة الموت البطيء، وبالرغم من لوعة العقل العراقي وشجون الفراق ومساحة العذاب التي أكتسحت أرواحهم فقد بقي هؤلاء ينوحون على الناس والذكريات وعلى العراق وطنهم الحقيقي الذين ترعرعوا فيه وتربوا فيه ونهلوا من ماءه.
منهم من رحل الى أوربا ومنهم من أضطر للسكن في أرض أسرائيل، لكن هذه المجاميع بقيت عين الدنيا وعين على العراق، لغتهم الدينية العبرية لم تستطع أن تطغي على لهجتهم اليهودية العراقية المحببة ليس لهم فقط بل للعراقيين أيضاً، وحدهم من بين القادمين المهاجرين الجدد من كان حريصاً على الثقافة العراقية والتراث العراقي الأصيل، وهم في دول التوطين أو في أسرائيل نفسها يتجمعون ويتراصفون لايربطهم دين أو فكر سياسي أنما يكون العراق هو الأساس، لم تستطع أية جالية من الجاليات النازحة الى أسرائيل أن تفرض علاقاتها الأجتماعية وتراثها وقيمها ولهجتها في أرض أسرائيل مثلما فعلت الجالية العراقية التي شكلت جمعيات ثقافية وأجتماعية وفنية عراقية، ونقلوا بأمانة المطبخ العراقي وتقاليد الحياة العراقية وعلموا أولادهم اللهجة العراقية وغرسوا في قلوبهم حب العراق.
وليس غريباً أن نطلع على تقرير أخباري من قناة ( العربية ) ينقل الحي العراقي لليهود القاطنين في أسرائيل، ويتجول المصور في المطاعم العراقية ويشاهد الأكلات العراقية والمقاهي البغدادية والمقامات التي لم يزل يحييها الجالغي البغدادي، وصوت نادل المقهى العجوز الذي يحلم بمشاهدة بغداد وهو يترنم بأغاني ( البستات ) البغدادية القديمة.
الزمن المرير لم ينسهم مطلقاً مساحات الوطن البهيج والأماكن المقدسة في المدن العراقية ولاأماكن السهر واللهو في المدن العراقية وأماكن تجارتهم والأسماء الأصيلة التي لم ينسوها أو يتناسوها، رغم جرحهم النازف الكبير الذي خلفه ترحيلهم عن العراق في أرواحهم، وحرمانهم من ممتلكاتهم وثرواتهم التي جنوها وجمعوها بعرق العمر وبكد الأيام المتعبة، أذ ليس من السهل أن يتم سلب الأنسان كل مايملك ومابناه في حصيلة عمره بلحظة خاطفة ليس لها دلالة سوى الحقد البشري والبشاعة في كراهية الأنسان للأنسان دون سبب منطقي أو معقول سوى عبادة الله بدين من الأديان السماوية.
بقيت في قلوب العراقي اليهودي محنة الأنتماء وأصرارالمواطن على عراقيته رغم أنتماءه الى دولة أنتصرت في عدة حروب على حكومات عربية بائسة تدعي القوة وهي أضعف من ذلك بسبب التباعد بينها وبين الشعوب، لكن يهود العراق من كان منهم خارج العراق أو داخل أسرائيل أو من تبقى من القلة القليلة التي آثرت البقاء في العراق كانوا جميعاً يتمسكون بوطنيتهم وحبـــهم للمواطن و للوطن العراقي، ومازلت أتذكر صديقي التاجر اليهودي ( ناجي ) الذي ألتقيته عند مدخل سوق الشورجة في بغداد وسألته أن كان له رغبة أن يغادر خارج العراق بالنظر للمحنة والحصار والظلم الذي يعشش في ربوع العراق حين كان الطاغية جاثماً فوق رقاب أهل العراق، نظر لي ملياً وقال وهل تريدني أن أموت من الشوق والحزن، سأموت هنا نعم ولكن أموت في وطني بهدوء حيث لم يتبق لي سوى هذا الوطن وأنتم الوجوه الطيبية التي لم تزل تتذكر أهلي وأعمامي وأخوتي الذين حملوا العراق في أهدابهم وفي شغاف قلوبهم يكفيني البقاء هنا حتى الرمق الأخير، وبقي في وطنه .
كنت أقرأ للكاتب العراقي الأستاذ مير بصري حينما كنت في العراق حيث تصلنا البعض من أصداراته عن طريق كوردستان المفتوحة ثقافياً وكانت تصلنا الكتب سراً فنتداولها فيما بيننا، وأستمتع بما يقدمه هذا المبدع من أثار تاريخية وسياسية وثقافية وأجتماعية تخص تأريخ العراق ومحطات ذاكرة العراقيين ، وأجد أن لكتاباته الحاجة الماسة التي تسد ثغرة في المكتبة العراقية والعربية في المجالات التي يكتب بها، حتى تستحيل كتاباته الى مراجع يمكن الأستناد عليها ، وفي بحثي عن حياة سعيد قزاز وزير الداخلية في النظام الملكي والأسرار التي تحيط بحياة هذا الرجل فقد خاطبت الأستاذ بصري دون معرفة مسبقة بما قمت به، فبادر الى مساعدتي والكتابة لي عن بعض الأمور والحوادث التي كان طرفاً فيها فيما يخص حياة سعيد قزاز وقد وثقتها في نهاية كتابي، ولم أستغرب حينما أجد السيد بصري متخصصاً في الثقافة والتاريخ والأدب والسياسة العراقية والمعرفة العامة، فبالرغم من كونه المسؤول الديني الأول للطائفة الموسوية للعراقيين في الخارج، فأنه بقي مخلصاً على عراقيته وعلى أنسانيته وعلى تفانــيه من أجل خدمة الحقيقة والكلمة والعراق، وأنجز من الكتب ما يستحق الثناء والتقدير والتكريم، ويستحق أن تلتفت اليه المؤسسات العراقية الوطنية وهي تخط بمدادها الوطني أول صفحة من صفحات التاريخ العراقي الجديد، وتسارع الى تكريمه وأحتضانه ورد الأعتبار العراقي اليه، بل والأسراع الى لمسة حنو نهدهد بها شيخوخته ونكفكف حزنه الطويل بلمسة من الكف الوطنية العراقية لهذا المبدع والموسوعي والمثابر والمجتهد والأمين والوطني العراقي مير بصري.
أن في ذاكرة السيد مير بصري الكثير من أسرار السياسة العراقية والكثير أيضاً من الذكريات والأحداث التي نجد من الضروري توثيقها وكتابتها ونشرها خدمة للعراق والأجيال القادمة.
وقد لا أغالي أذا قلت هذا، فبعد أن فتحت جرحاً عميقاً كان كل العراقيين يشكون منه، كل الأقلام والأصوات الوطنية تطالب به، قد أزعم أنني من القلة التي أطلقت الصيحة بالتنبيه لهذه الأسماء العراقية الأصيلة، التي لم تزل تبرق وتمطر وتعطي وتسجل حضورها العراقي المثمر الذي لم يتوقف.
في الذاكرة العراقية الكثير من القصص الجميلة التي لم تزل الذاكرة تخزنها بحلاوة العلاقة الأنسانية والحرية والأخوة التي تكلل كل اليهود والصابئة والمسيحيين والأيزيديين والمسلمين في العراق ، ومثل هذه الذاكرة التي نتباهى بها، والتي تشكل لنا رمزاً نعتز به ونفتخر في الأنسجام والتآخي والتعايش والتسامح الديني والأجتماعي والقومي والسياسي، وليس أعتباطاً أن يحزن الجميع في مواسم الحزن العراقية المشهورة، وليس أعتباطاً أن يفرح الجميع بأعياد المسيحيين واليهود وبقية الديانات.
زمن مضى كان فيه اليهود من أهل العراق العمود الفقري للتجارة والسياسة في بلد ناشيء يعتمد بتواضع على منتجاته ومايزرعه فيغطي الحاجة ، وساهم هولاء في بناء كيان الدولة العراقية وتنظيمها وتأسيس دوائرها دون أن يلمس أحد من المؤرخين مثلبة واحدة في عملهم الوطني، مثلما ساهمت نخبة من المثقفين منهم في تأسيس أحزاب عراقية وطنية تدافع عن الشرائح الفقيرة والمعدمة في العراق وتهدف الى تشييد وطن عراقي جميل يحترم الأنسان.
ترك اليهود العراقيين أثاراً من العقارات الجميلة التي تدل على الذوق الريادي في الطراز المعماري وشكل البناء والهندسة المدنية وفي تفاصيل حياتهم المختلطة بين البساطة وبين الأصالة العراقية التي كانوا يحرصون عليها ، وتركوا أرثاً من المساهمات الوطنية التي سجلها التاريخ العراقي المحايد بفخر وأعتزاز.
مثلما بقي العراقيون يتذكرون الطقوس البسيطة والجميلة التي يمارسونها، والمرح الذي كان يغلف حياتهم قبل أن يغزوها الموت والغربة والدمار والنهب والقتل والأبتزاز وهــتك الأعراض فيحيلها الى جحيم لايطاق.
ونقول بعد ان فات الآوان لتكريم الأستاذ مير بصري بعد أن قدم ما يمليه عليه ضمير العراقي المعطاء دون أن يكل أويمل، أو أن تكون غربته وسنين عمره الطاعنة عائقاً لما قدمه للعراق من مساهمة فعالة وأكيدة للثقافة العراقية، ونحن في زمن المحنة العراقية ينبغي لنا أن نلتفت الى مبدعينا نلملم وجعهم ونذكرهم بأنهم لم يغادروا ذاكرة العراق، الذي سيفتح ذراعية لهم يبشرهم بالخير وبقيم المحبة والتسامح والأخوة التي بعثرتها سياسة السلطات القمعية والتي آن الآوان لنا أن نشطب كل القيم الهجينة من حياتنا الجديدة، حياتنا الحلم التي نستعيد بها دمعة اليهودي المشرد من وطنه العراق ونشيج المسيحي المغترب في كاليفورنيا أو ديترويت وبكاء الصابئي المندائي الممتحن قرب شواطيء أستراليا أو نحيب الأيزيدي الساكن في شعاب ألمانيا بعيداً عن لالش المقدسة أو الصرخات التي يكتمها المسلم في مجاهل الأرض بعيداً عن قباب الأئمة والأولياء والأهل.
أن تكريم مير بصري وسمير نقاش وكل غرباء العراق الذين عانوا وكابدوا ورحلوا عنا دون تكريم وأستذكار يليق بما قدمته اناملهم العراقية الأصيلة، جزء مهم من أسترجاع أنسانيتنا التي سلبتها السلطات الهمجية في الزمن المر، ودليل أكيد على أصالة شعبنا وقدرته على أسترجاع مافات من أيامنا المبعثرة.

ويعد الراحل مير بصري من أبرز الكتاب والمؤرخين العراقيين الذي وافته المنية في لندن عن عمر تجاوز الـ94 عاما بأشهر قليلة، وبوفاته فقد العراق كاتبا وأديبا ومؤرخا بارعا ومبدعا أعطى للمكتبة العراقية العديد من المؤلفات الفريدة والثمينة في أثرها الثقافي. فلقد أرخ مير بصري لشخصيات وأدوار وسير ومراحل ثقافية عراقية بجهد مثابر ورصانة ثقافية لاتجدها الا عند القلائل من أمثاله المثقفين المبدعين في العراق الذين اغنوا الثقافة العراقية بعطائهم المميز.
ولد الأديب والكاتب والمؤرخ الراحل مير شاؤل بصري في بغداد في التاسع عشر من أيلول عام 1911من أسرة عراقية عريقة عرفت بأسم ( عوبديا )كان احد شخصياتها ( عمه ) الذي كان يشغل منصب رئيس المحكمة الشرعية ببغداد عام 1848 م. درس مير بصري في مدرستي التعاون والأليانس في بغداد، ولازم الأب أنستانس الكرملي والدكتور مصطفى جواد حيث أخذ عنهما اللغة العربية، كما درس تاريخ العراق على عباس العزاوي والعروض على الشاعر محمود الملاح. وعمل الراحل مير بصري في العديد من الوظائف العامة والخاصة مابين عامي 1928 ـ 1952 )امضى شطرا منها في وزارة الخارجية وحضر العديد من المؤتمرات الدولية ممثلا للعراق ثم أنصرف للآعمال الحرة ولكتابة الأدب والتأريخ وعمل محررا وباحثا في الصحافة العراقية فصدرت له أعمال معروفة منها ديوان شعر بعنوان ( الحرية 1928 ) و( مباحث في الأقتصاد العراقي 1948 )، ( رجال وظلال 1955 ) ,( رسالة الأديب العربي 1969 )K ( أعلام اليقظة الفكرية في العراق الحديث 1983 )، ( أعلام السياسة في العراق الحديث 1987)
.( أعلام الكرد 1991)، ( أغاني الحب والخلود 1991)، ( أعلام الأدب العراقي الحديث في جزئين 1994 ) وله مؤلفات أخرى بعضها ينتظر النشر , غادر مير بصري العراق ليعيش في لندن منذ عام 1974 بعد تعرضه للأعتقال والأذى، فواصل في لندن نشاطه الأدبي والثقافي والأجتماعي بكل همة وتجرد وأخلاص وظل يحمل لوطنه العراق حبا ساكنا في حنايا ضلوعه وخفقات قلبه.
وداعاً مير بصري....