عشنا أسبوعاً مليء بالأحزان والقلق، انتقل الشيخ جابر الأحمد إلى جوار ربه وخلف ورائه خزينة ضخمة من الإيجابيات فيها إنجازات وفيها أخلاقيات وفيها هيبة الحكم، وأكثر من ذلك فيها التآلف التاريخي بينه وبين أهل الكويت، من الذين عرفوه، ومن الذين لم يعرفوه، كان قائدهم بالحضور وبالصورة وبالصوت، وليس من السهل أن تخرج الكويت من البيئة التي شيدها الشيخ جابر وهي بيئة المواصفات العالية، يقول عنه سمو الشيخ صباح في كلمته أمام مجلس الأمة يوم الثلاثاء الماضي الموافق 24 يناير 2006: (رحل عنا وقد ترك الأمانة لنا، وهو مؤمن بأننا أهل لحمل المسؤولية الوطنية.. نستذكره في هذا الصرح الوطني الكبير، ونستذكر كلماته الأميرية الحانية ونصائحه الصادقة وتوجيهاته السامية التي تفوح بعبق الحب والإخلاص لهذا الوطن ولأهله الأوفياء)..

جاءت هذه الكلمات قبل قرار مجلس الأمة بالإجماع على نقل الصلاحيات من سمو الشيخ سعد وفق القانون رقم quot;أربعةquot; لسنة 1964 في شأن توارث الإمارة بما يجنب البلاد محاذير لا تحمد عقباها ويحقق خير ومصلحة الكويت وأهل الكويت والعبور بسفينتها إلى بر الأمان.. آلا هل بلغت.. اللهم فاشهد... هكذا جاءت كلمات سمو الشيخ صباح. ويشير سمو الشيخ صباح إلى التداعي في صحة سمو الشيخ سعد قائلاً: (اننا نعتز بدستورنا وديمقراطيتنا ونفتخر بكويتنا دولة القانون والمؤسسات فإنه لابد من مما لا ليس منه بد، بعد أن تثبت مجلس الوزراء إزاء هذا الواقع المؤلم الذي يتعرض له رمز متميز بشموخ الوطن، حيث قام مجلس الوزراء بمباركة من الأسرة الحاكمة بتفعيل الإجراءات المقررة في القانون رقم أربعة لسنة 1964 في شأن أحكام توارث الإمارة، الذي بات أمراً ملحاً وملبياً لمقتضيات المصلحة الوطنية العليا في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ وطننا)..

رسم هذا المدخل الذي جاء في خطاب سمو الشيخ صباح الأحمد أمام مجلس الأمة في تلك الجلسة غير المسبوقة، رسم الخطوات التي يجب اتخاذها لنقل الصلاحيات، بسبب عدم توفر الشروط الصحية لإدارة الحكم، لكن تلك الجلسة التاريخية تركت الكثير من الدروس والعبر لأهل الكويت، حكاماً وشعباً، ولأهل الخليج، ولدول الإقليم، ولجميع الدول العربية لتقرأ وتقيم وتستفيد من هذه الخطوة التي لم نعرفها في تاريخنا المعاصر سواء في الكويت أو في الخليج.
ولابد من التأكيد على بعض الحقائق، نضعها أمام من يريد أن يبحث ويدرس التجربة الكويتية..

أولاً: ساعد نجاح الكويت في اتخاذ الخيار المر توافق شعبي جامع على ضرورة المعالجة السريعة لتلك العقدة، هذا التوافق مدعوماً بمؤسسات سياسية ومهنية واسعة لها دور في صياغة الرأي العام والتأثير عليه وإخضاعه نحو المصلحة العامة، وتعيش الكويت في جو سياسي واجتماعي مفتوح ومتفتح يرتكز على تراث تاريخي قديم في التواصل بين الأسر والترابط مع الحكام، ويتميز المجتمع الكويتي بدينميكية دائمة أخذها من تقاليد وسلوكيات البحر والبحث عن العيش، وأول درس يخرج من تجربة الكويت هو الدور المؤثر للمجتمع المدني في اتخاذ القرار وتطويعه للصالح العام، ونلاحظ ndash; في هذا الصدد- فقر الدور الذي يقوم به المجتمع المدني في دول الأيدولوجيات والحزبية..

ثانياً: لأول مرة في تاريخ الكويت تلجأ الأسرة ndash; وأهل النظام إلى تفعيل فصل توارث الإمارة وفق الدستور داخل البرلمان وليس خارجه، وكانت الإجراءات السابقة في الحالات العادية هي المنادة بالأمير وفق بنود الدستور والمبايعة من البرلمان، ودون أن يكون له الدور الدستوري القاطع في اختيار الحاكم، ولكن التجربة الجديدة جاءت بسبب الظرف الصحي لولي العهد والجدل المرافق لإجراءات نقل السلطة.

ويخاطب سمو الشيخ صباح أعضاء البرلمان مؤكداً: (ثقته بحكمة مجلس الأمة وحرص المجلس على تفعيل أحكام الدستور بشأن توارث الإمارة). وفي هذا التوجه تتقوى الأسرة الحاكمة بالشرعية وتتحصن بالدستور وتسير وفق ضوابطه وتجد فيه الحل للخروج من عقدة الموقف.
نلاحظ هنا التوافق التاريخي بين أهل الكويت والعائلة، وبين أهل النظام والرأي العام على مزايا الحل الدستوري والالتزام بأحكامه، وتزيد هذه الخطوة من ترسيخ النظام الديمقراطي في الكويت، وتتيح للرأي العام ليتعرف على الإمكانات الهائلة التي يتضمنها الدستور في حل الخلافات، وأكثر من ذلك صار الدستور الحصن الواقي للجميع حتى للذين كانوا يتبرمون من إفرازاته ويتأذون من استغلال بنوده بما لا يتفق والصالح العام.

ثالثاً: تعاظم الوعي الثقافي والسياسي داخل المجتمع الكويتي وخرج من المحيط المحلي إلى دائرة الاتساع الخليجي والعربي، تخرج صحافة الخليج في البحرين والإمارات وقطر وفي صحافة بيروت وغيرها بالإشادة بقوة الدستور وبشجاعة مجلس الأمة في ممارسته للمسؤوليات التي حسمت الأزمة، وخرج دستور الكويت منتصراً و أتاح الوضع الجديد لكسر المحرمات في الخوض علناً وبشكل مفتوح في الأهلية الصحية للحكام، وبشكل غير مسبوق، بينما تجارب الدول الأخرى، خاصة في الدول الثورية هي ممارسة التعتيم على الأحوال الصحية للقادة، نستذكر وضع الرئيس عبدالناصر، والملك الحسن، وشاه إيران، وحافظ الأسد، وخرج عن ذلك الأسلوب ملك الأردن الراحل، ووضع الملك فهد رحمه الله.
ومن خلال تجربة الكويت نتعرف على المخاطر التي يتعرض لها الأمن الوطني للدول عندما يحيط حكامها بسياج فيه المحرمات والتعتيمات.
بلا شك بأن التعامل العلني مع التعقيدات جنب الكويت مواجهات سياسية باهظة الثمن، وكرس عقيدة الالتزام بالصيغة السياسية الدستورية واستقوت ndash; من خلال الأزمة- صلابة الجبهة الداخلية، وزادت فاعلية الدور المؤثر للتحاور والتفاعل بين المؤسسات وأهل الحكم..

رابعاً: وربما من المناسب أيضاً أن يسأل الباحث من خارج الكويت عن مسببات الالتزام الكويتي ببنود الدستور، والثقة التي يمنحها الرأي العام للمبادئ التي يتضمنها الدستور الكويتي، لماذا يحافظ الكويتيون على دستورهم؟..
والجواب في حقيقة أن دستور الكويت لأهل الكويت جميعاً، ليس دستور الحزب الواحد والقائد المستبد، مثل دستور حزب البعث في سوريا والعراق سابقاً، وليس دستور طوائف وكانتونات مثل لبنان، وليس دستور وقتي يتبدل وفق ظروفه، وليس دستور مفصل للسلطة المحتكرة، وإنما دستور الكويت يجلس على قاعدة إجماعية شاملة تستوعب كل الأطياف والمذاهب وتضم كل الاجتهادات، وهو دستور لا يطرد أحداً ولا يسجن لرأي، ولا ينفي لموقف، وهو ndash; فوق ذلك- موقع التزام جماعي يراه الجميع المرجعية الدستورية، وكل خطوة مقترحة تخضع لتدقيق قاسي لمعرفة مدى تجاوبها مع بنود الدستور.
وغياب الوعي والالتزام في الرأي العام في الدول العربية يعود إلى حقيقة غياب الاجماع حول الدساتير العاملة في هذه الدول وبسبب تضرر أجزاء من المجتمع من بنودها، واغفالها لأقليات ومذاهب وأطياف مهمة في دولها..
من دون شك تقدم تجربة الكويت حالة عالية من مزايا الاحتكام إلى النهج الدستوري الديمقراطي الحقيقي، ورغم الثغرات المتواجدة في بعض البنود ورغم غياب بعض الإجراءات الضرورية للبناء الديمقراطي المتكامل عن بنود الدستور، فقد نجحت التجربة في الخروج الودي والشرعي من حالة تعقيدية وضعت الكويت في مناخ مزعج لأسبوع من الزمن، أجبرتها اللجوء إلى الخيار المر والنهج المؤلم..

نلاحظ بأنه وخلال الفترة الماضية تميزت تحركات سمو الشيخ صباح الأحمد، والسيد جاسم الخرافي رئيس مجلس الأمة، بمراعاة دقيقة لحقوق الدستور، والتعامل الراقي مع الرأي العام خاصة في اللقاءات اليومية مع الصحافة والتحاور مع ممثلي المنظمات الشعبية، بما وفر الشفافية وأزال الغموض وأتاح للجميع الإطلاع والمتابعة..
مزايا الانفتاح، وعوائد الحكم الدستوري، وفوائد المجتمع المدني، والثقة برأي المواطن، تجلت في تجربة الكويت، ومن يتفحص فصولها سيجد الكثير مما تقدمه إلى العالم العربي في هذه المرحلة من أجل أن يرتفع أكثر...