أصبح العالم العربي حقل تجارب لكل الإرادات الدولية والمنظمات العالمية التي راحت تبعث إليه النصيحة تلو النصيحة والتوجيه تلو التوجيه و التوبيخ تلو التوبيخ.
و حتى المثليون الجنسيون الذين إجتمعوا في مؤتمرهم العام في العاصمة السويدية ستوكهولم قبل فترة طالبوا الحكومات العربية برفع الحظر عن الفاحشة ودمقرطة اللواط والسحاق في العالمين العربي والإسلامي.
وهذه التوجيهات والتوبيخات والضغوطات تشكّل ذروة الإهانة و أوج الإذلال لبلادنا العربية و الإسلامية والتي يفترض أنّها تنتمي إلى أرقى حضارة عرفتها الإنسانية بإقرار المفكرين الغربيين المنصفين.
والسؤال الذي ما فتئ يتكرر وربما منذ أزيد من مائة سنة، لماذا هانت دولنا ولماذا إنحطّت و تقهقرت إلى درجة أنّ المفكر المسلم الهندي أبا الحسن الندوي دونّ كتابا في هذا السيّاق بعنوان : لماذا تأخرّ المسلمون وتقدمّ غيرهم!
وقد سمعنا في سيّاق الإجابة على هذا التساؤل مئات التبريرات و النظريات، غير أنّ الذي سببّ الهوان والذلة لبلادنا العربية والإسلامية هو الظلم الذي إتخذته الإنظمة الحاكمة في البلاد العربية و الإسلامية منهجا وعقيدة وفلسفة ورؤية ومسلكية وإيديولوجية و بسبب هذا الظلم الممارس على الأفراد والجماعات تعطلّت التنمية و هاجرت العقول المفكّرة التي كان يجب أن تكون في طليعة البناء الحضاري والنهضوي و تراجعت العقول و دبّ الخوف الذي قال عنه صاحب قصّة الحضارة دويرانت :
إنّ الخوف يمنع من قيام الحضارة.
فكيف تصنع أمتنا النهضة و ترخي العنان لفكرها وثقافتها وهي مكبلة بعشرات الأجهزة الأمنية و مؤسسات العسكرة والظلم وعشرات آلاف السجون والمعتقلات التي يجد المرء طريقه إليها بدون محاكمة في ظل حالة الطوارئ التي يلتزم بها النظام الرسمي العربي في المشرق كما في المغرب.
لقد كانت فلسفة الحكم في الوطن العربي قائمة على تخويف وترويع المواطنين و التلويح دوما بسياسة العصا الفولاذية و الحديد والنار حيث كانت الفكرة الجديدة تلاحق، والتيار الجديد يصادر و المعارضة الجادة تسجن والمخترع المبدع يطرد من وظيفته لأنّ إبتكاراته ستجعل أصحاب العمولات من المسؤولين يحرمون من مصادر رزق واسعة لدى إستيرادهم البضائع من البلاد الغربية.
وكانت كلما توشك حالة الطوارئ في هذه الدولة العربية أو تلك على الإنتهاء كانت تجددّ فورا و تمددّ بدون العودة إلى الأمة تماما كما يمددّ للحاكم دون الرجوع إلى الأمة التي إمتلأ قلبها قيحا و أسسّت كفاية والتي ستصبح شعار المرحلة العربية الراهنة والمقبلة وسوف تنشأ أجيال على شعار كفاية تنديدا بالحاكم العربي الذي يحكم من المهد إلى اللحد، و ياليت هذا الحاكم عمل بقول رسول الإسلام : أطلبوا العلم من المهد وإلى اللحد، لو حدث ذلك لكنّا قطعا في مصاف الدول المتقدمة.
لكن أولوية الأولويات هو بقاء هذا الحاكم في موقعه مهما كلف الثمن ورغم الأخطاء الفادحة و التدهور المستمر في كل المجالات الأمنية والسياسية و الإقتصادية و الثقافية والعسكرية والحضارية.
و لم تتسببّ حالة الطوارئ في العالم العربي في تكريس التجاوزات التي باتت صفة ملازمة لأداء الأجهزة الأمنية التي راحت تسجن وتخطف وتقتل و تستدعي و تنفي مثلما يحلو لها فحسب، بل تسببّت في مجمل النكبة وبمعادلة بسيطة وواضحة وبينّة فإنّ سبب التأخّر والتقهقر العام في العالم ليس قلة الموارد وإنعدام الثروات البشرية والطبيعية أو إنعدام المنطلقات النهضوية و المقومات الحضارية في البلاد العربية والإسلامية.
بل إنّ الظلم والذي أصبح منهجا ومسلكية للنظام الرسمية العربي هو الذي أفضى إلى الإنهيار الكبير الذي يعرفه الراهن العربي والذي ينذر بزلازل سياسية لا قبل للأنظة الرسمية بها، و الأخطر من كل ما جئنا على ذكره هو أنّ النظام الرسمي العربي شرعن هذا الظلم و بررّه بمقتضى حالة الطوارئ والتي عندما فرضت لظروف إسثنائية في هذا القطر العربي وذاك، قيل أنّها مؤقتة و ستستمر لمدة شهر أو شهرين فإذا بها تتمطط وتتمدد لتلازم حكم هذا الرئيس وذاك، فهذه حالة طوارئ مدتها ثلاثون سنة و تلك مدتها عشرون سنة و أخرى مدتها أربع عشرة سنة و على ذلك فقس.
و بإسم حالة الطوارئ منعت التعدديّة السياسية و الإعلامية، و أصبح الإعلام الرسمي أحاديّا حكرا على النظام الرسمي الذي كان يمنع ولا يزال الرأي الأخر و الحزب الأخر والثقافة الأخرى والمنهج الأخر و البدائل الأخرى.
وبإسم حالة الطوارئ إختفى عشرات آلاف الأشخاص وقتل آلاف الأبرياء و أنتهكت حرمة آلاف العوائل، وتتصور الأنظمة الحاكمة في العالم العربي أنّ التازلات تلو التنازلات للإرادات الدولية و على رأسها أمريكا هي التي تقي الحكم من الإنهيار متناسية أنّ أمريكا وعندما تعصر أي حالة ترمي قشرها غير عابئة بغير مصالحها.
وربما لأجل ما إقترفته الأنظمة العربية في حقّ شعوبها، تخلّت عنها وستتخلى عنها هذه الشعوب عندما يدبّ الزلزال في كيانات هذه النظم التي تعمل واشنطن على إعادة صياغتها رغم الولاء المطلق والعبودية الشاملة من نظمنا العربية للأمريكان.
- آخر تحديث :
التعليقات