يفترض بول بريمر في كتايه (سنتي في العراق) ان التنوع الطائفي والقومي للعراقيين بديل سياسي للحكم عن المواطنة ، فيبدأ مشواره كحاكم مدني لبلد محتل طبقاً لهذه القناعة!
وهكذا يستهل حواراته مع رجال الدين اولاً، على اساس كونهم رجال دين، وكذلك شيوخ القبائل.... لم يشر الى انه حاول ان يستقدم النخب العراقية ولم يتحدث مع عراقي طبقاً لعراقيته او وطنيته، وانما كان عليه ان يشكل مجلس حكم الطائفة والدين والقومية وآخر شي فيه عراقية العضو!
كذلك تنمو الاخطاء السياسية في مناخ عدم الواقعية أو الواقعية الرثة ، لتكون اخر نتائجها (وثيقة مكة) التي وقعها رجال دين هذا الاسبوع.
لم يحدث على مر التاريخ ان بنيت دولة على الدين الا وانهارت، الدولة لاتلتقي مع الدين الا بالحاجة العاطفية، وليس بمقدور الدين بناء دولة من دون أن يفككها، لان العاطفة ثيمة الدين، والبناء لايستند على العاطفة بقدر مايستند على العمل. والدين معاملة وليس عملا.
هل يمكن إلا يكون الامام علي مثالا لرجل الدين المخلص حد الوله لدينه، ورجل دولة فاشل لانه استند على عاطفة الدين في بناء الدولة، الامر الذي قاد الخلافة الى نزاعات كلما شبت تحجج المتنازعون فيها بالدين وكتاب الله.
خذ حركة طالبان نموذج اخر للفشل الديني في اقامة دولة، ايران الخمينية كذلك، فبقائها محظ توجه الى الزوال.
فلماذ يراد للعراق ان يبنيه رجال الدين؟
لقد عرف السياسيون الكبار دوماً على انهم كذابون كبار، كما غالباً ما استطاع الكذابون الكبار ان يكونوا سياسيين كباراً، ورجال الدين في العراق اليوم يغادرون مواصفاتهم المعروفة وحتى أماكنهم المعهودة ليصبحو رجال سياسة، الخميني كان يقول (من لايدخل الدين في السياسية والسياسة في الدين لايفهم في الدين ولا في السياسة) وهذه المعادلة قائمة منذ فرضية بريمر التي اعترف بها في كتابه.(كم رجل دين كان في مجلس الحكم وكم صار عددهم في الجمعية الوطنية؟؟)
ينقل بريمر عن السيستاني اعترافه بانه من مصلحتهم (اي الامريكيين) ومن مصلحته( اي السيستاني) الا يلتقيان، الا ان التواصل بينهم يجب ان يستمر عن طريق الوسطاءالاخرين.
ومن يتأمل الحكومة في العراق الان لاينتابه الشك بانها ليس سوى حكومة مسجد كبير، انتقلت فيه تقاليد المسجد الى هياكل البرلمان والوزارات، مع ان هذه التقاليد تفقد مواصفاتها لمجرد مغادرتها المسجد. فهل بمقدور أحد ان يقنعنا انه يمكن بناء دولة بالدعاء والصلاة؟
واذا كان رئيس الوزراء نوري المالكي اقل غروراً من سلفه ابراهيم الجعفري، فانهما بلا شك نتاج بيئة دينية ومن حزب ديني واحد هو وفق التقويم المفرط بالتفاؤل لايمكن طبقاً لما يؤمنا به بناء دولة معاصرة حديثة تسمح بتداول الحريات والسلطة فيها.
واذا كان المالكي قد تجاهل فتوى الخميني بتحريم ارتداء ربطة العنق، فهذا لايعني انه ليس المعادل الموضوعي للرئيس الايراني أحمدي نجاد الذي استهل يومه الاول في رئاسة الجمهورية بالتوجه الى مقر علي خامنئي فقبل يده للتبارك طالباً دعائه، وهنا على المقربين من السيستاني ان يقنعوننا بانه لايحرّم مشاهدة التلفاز أو التعامل معه ، وعندها سنتأكد من ان مشهد زيارة المالكي للسيستاني ليس كزيارة نجاد لخامنئي.
أنا لا اشك باخلاص نوري المالكي لدينه وتشبثه بفروضه، أنه رجل متدين بامتيازمثله مثل الجعفري. لذلك اتخيله عند الصلاة يطلب أكثر مما يطلب مغفرة الله لكونه يتعامل مع ( الشيطان الاكبر) حسب التعبير الخميني لامريكا، لكنه في الوقت نفسه قادر على الاستعانة بـ(التقية) لان استثمار الوقت لحين الوصول الى الهدف يجب أن يتم لخدمة بناء دولة دينية اسلامية في العراق .
أما رئيس الوزراء السابق ابراهيم الجعفري فهو أكثر من يدلنا الى صورة رجل الدين في الدولة، كانت تتفاقم لديه عقدة صدام حسين لانه وحده كان العارفً بلذة الاستبداد، ومن لايعرف هذه اللذة لا احد سيسمعه حين يتكلم، ولطالما تكلم الجعفري باستعارات دينية في منطق دولة.
يقول بريمر في كتابه نفسه : جمعنا اجتماع مشترك مع مجموعة ممن كان عليه ان ينتقيهم (أو بتعبيره يقنعهم للانضمام الى مجلس الحكم) وكان ابراهيم الجعفري من بين أكثر المتحدثين بجمل عربية ونصف جمل انجليزية الامر الذي صعب على المترجم فحال دون ان نصل الى خلاصة منه او نفهم مايريد.
ومرة سأله احد الصحفين شاكياً منعه من تغطية اولى جلسات محاكمة صدام حسين بسبب خلفيته الطائفية، فكانت اجابة الجعفري اتقان جيد للعبة السياسية التي لاتتسق ابداً مع قناعاته الدينية ,فقال بما لايؤمن به (أن الدين والطائفة محض علاقة خاصة بين الانسان وربه ولادخل للاخرين فيه) .... وكأنه ليس نتاج فكر وحزب دينيين!!!
ليس الغرور منافياً للذوق او لعزة النفس اذا كان سلاحاً من اجل القيمة او رد الاعتبار اما اذا كان من اجل اشياء اخرى (كما في اجابة الجعفري) فهو صلف ووضاعة.
وهكذا نمت الاخطاء السياسية في مناخ عدم الواقعية اوالواقعية الرثة فالخلط الشنيع الذي يقوم به رجال الدين في عصر العولمة قد يودي الى تجريم مصداقية حماة حقوق الانسان، التي من اجلها احتلت الولايات المتحدة العراق، ليصبح عصر العولمة لحماية حقوق الانسان حرباً ضد حقوق الانسان.
فلم يحدث ان تساءل العراقيون مثلما يتساءلون اليوم (هل نحن مختلفون الى هذا الحد؟) هل حدث على مر التاريخ العراقي المعاصر ان تنكر الجار لجاره لمجرد انه يختلف معه في الطائفة؟
وحدها الاحزاب الدينية في العراق تعرف الاجابة ولا تجهر بها، والا مامعني ان نعد ببناء عراق ديمقراطي تكون فيه السطوة لرجل دين شاب قاصر مثل مقتدى الصدر يجهر علناً بتحريم كرة القدم، او بحرق امرأة في الشارع تحت مسوغ عملها كمومس وتفجير متاجر بيع الكحول والحانات؟
رجال الدين لايجدون معادلهم الا في رجل دين اخر فالسيستاني أو اليعقوبي او الطباطبائي يجد له نداً مثل السامرائي أو الهيتي أو الكبيسي.
وتكشف صورة عبد الغفور السامرائي المعادل الموضوعي لسقوط البلاد في لجنة الموت الدينية، لانه مثلما يريد رجال الطائفة الاخرى يريد بناء الدولة على مقياس الدين الذي وضعوه سوية، فالخلاف بينهم لاقيمة له في النهاية اذا تفحصنا الهدف وهو واحد. تماما مثلما ابتهاجهم بتقسيم البلاد الى وقفين سني وشيعي أحدهما يطمح بالاستيلاء على مساجد الاخر، أو كما تبنى الوزارات وفقاً لطائفة الوزير، وهو ماتقره وثيقة مكة في بندها الثالث (لدور العبادة حرمة، وتشمل المساجد والحسينيات وأماكن عبادة غير المسلمين، فلا يجو الاعتداء عليها أو مصادرتها، أو اتخاذها ملاذا للأعمال المخالفة للشرع).
في احدى محاضراته الدينية على شاشة التلفاز يتناول عبد الغفور السامرائي شخصية الامام علي وفقاً لما يعتقده انداه ويقدمه بصورة لم يقتنع بها لمجرد بث الاحساس لدى المشاهد انه ليس مع التفرقة، بينما كل تاريخه الديني شيد على اساس أن يجد له نداً مختلفاً معه، هكذا يكون الدين وسيلة لحل المجتمع وتفكيكه عندما يغادر مواصفاته الواضحة للمتدينين وغير المتدينين.
السامرائي مثله مثل الجعفري، الاستعانة بالتاريخ ليس لمعرفة الجغرافيا، فطالما استعار الجعفري من التاريخ الذي قراه هو وبات مقدساً. التاريخ بالنسبة له كما هو بالنسبة للسامرائي وسيلة للاختلاف مع الاخر وليس للاستقراء والمقارنة.
فكرة الادارة الامريكية تفكيك الدولة العراقية وبنائها على وفق تنوع مفترض وهامشي قياسا للوطنية، هذه الفكرة اضحت واقعاً وتأسست وفقها الميليشيات والاحزاب الدينية وتحولت المدارس من مكان تعليمي معاصر يتوفر في الكتاب والكمبيوتر ، الى الجوامع حيث يدرس الاولاد القرآن وسيرة اعلام الورى والخلفاء الراشدين والحديث النبوي أكثر من اي مادة اخرى. هذا الواقع غير الطبيعي آل الى وثيقة مكة التي استندت بكل بنودها الى الدين ووقع عليها رجال دين وعقدت جلساتها في صرح ديني ونظمها مؤتمر ديني، فاين الدولة في كل هذا؟
يصف احد الضباط والمحامين العراقيين الذي طرد من الجيش العراقي السابق بتهمة الاختلاس والتزوير وتدرج الى رتبة نقيب وكان ضابط تجنيد محافظة عراقية، رحلته مع (قوات تحرير العراق) التي أنشأتها الولايات المتحدة من بعض العراقيين في الخارج بدعم من حزب المؤتمر الذي يتزعمه أحمد الجلبي، استعانة القوات الامريكية به لشرح الهيكل القضائي في العراق قبيل احتلال بغداد، ويقول انهم لم يصدقوا ماقاله ليس في العراق على مر تاريخه المعاصر محكمة شيعية واخرى سنية حتى في اشد سنوات الديكتاتورية.
يرفض المحامي والضابط السابق في الجيش العراقي وصف نفسه ضمن (المرتزقة) (لانني لم اتقاض راتباً من تطوعي في قوات تحرير العراق) القناعة المسبقة التي اضحت واقعا لدى الادارة الامريكية بان حل مشكلة العراق باطلاق العنان لتنوعه الطائفي، لتبقى الوطنية في أخر الهامش.
وهي ليس فكرة امريكية خالصة بل غذتها الاحزاب الدينية المعارضة آنذاك التي كانت تجتهد امام الادارة الامريكية لتسويغ طائفتها وفقا لبرغماتية الوصول الى الحكم، والطائفية تؤول اليوم الى النتيجة نفسها التي وصلت اليها الادارة الامريكية اخيرا بان معلومات أحمد الجلبي عن اسلحة العراق ليس سوى أكاذيب مضللة.
ولو قدر ان تلتزم الاحزاب الدينية في العراق الحدود الطبيعية للعمل الديني والسياسي ، وتدع السلاح بيد الدولة. والا يغادررجال الدين دورهم الطبيعي المعهود، فهل يشك احد بان عراقياً سيقوم بقتل او تهجير جاره لانه يختلف معه في الطائفة.
الاحزاب الدينية هي اعادة انتاج التخلف، وافرادها لايفكرون في وضع ايديهم بايدي الدولة، لان قيام الدولة يعني تقاعد رجال الدين وهم لايرغبون بالتقاعد وان كانوا في ارذل العمر( عبد العزيز الحكيم قال لمحاورته على شاشة التلفاز لن ولم أترك السياسة الى اخر يوم من حياتي).
فهل بعد ذلك بمقدور العراقيين الاقتناع ان (وثيقة مكة) ستمنحهم الاطمئنان على حياتهم وستصون كرامتهم في البيت قبل الشارع؟
العراقي الذي تعب من تأمل واقعه الجديد يدرك تماماً ان لاقيمة على ماوقع عليه في مكة، فالموقعون هم أنفسهم المقسمون، فكيف لمن قسم واستأنس بحصته أن يعيدها لغيره.
ان صورة الجوقة الخالية من الايقاع التي يوجد فيها أكثر من صوت التقطتها وكالات الانباء فعبد الغفور السامرائي الموقع من أحد الاطراف يقابله محمد بحر العلوم في الطرف الاخر فيما يبدو طارق الهاشمي المبارك والواثق بانه بين من يستند اليهم.
فبالاضافة الى ماعرض يمكن استعادة مشهد عبد الغفور السامرائي وهو يرافق الجعفري عندما كان رئيسا للوزراء آنذاك في زيارته للسعودية وابتسماته أمام الملك السعودي عبد الله لها دلاتها الواضحة (أنظران الجعفري لم يصطحب رئيس الوقف الشيعي معه، فهو قد يستعين به عندما يزور ايران) حضر السامرائي الى حفل توقيع وثيقة مكة ليستند على جهته السعودية مثلما يستند الطرف الاخرعلى جهته الايرانية لتبقى العراقية آخر شئ، فيما بدا محمد بحر العلوم بالصورة نفسها التي رسمها له بريمر في كتابه (سنتي في العراق) رجل دين هزلي يحب الطعام واطلاق المزح، وليؤكدها هو فيما بعد عند انفعاله المتواصل أمام وسائل الاعلام، قد يتذكر العراقيون صراخه بعد تفجير مقر الامم المتحدة في بغداد (لماذا لايتركوننا وحدنا ... ايها العرب دعونا وشاننا) وكانه يكشف عن كوامنه من دون وعي باننا وصلنا الى الحكم وسندير البلاد وفقا لاعتقاداتنا الدينية وسننجح. وتوبيخه الصحفيين قبلها في اول مؤتمر صحفي لمجلس الحكم بتاكيده ان هذا المجلس يمثل ارادة العراقيين ولم يعينه بريمر، كما لايمكن اغفال كلماته التي سقطت ميته التي نشرها رداً على قول الرئيس المصري حسني مبارك بان ولاء الشيعة لايران أكثر من ولائهم لاوطانهم. وذيلها باسمه مضافاً اليها عضو مجلس الحكم.
أخر طلبات بحر العلوم من بريمر حسبما يذكر في كتابه، انه طلب ان يغفر له ذنوبه تجاهه، بينما غفر بحر العلوم ذنوب بريمر.
بحر العلوم الذي أصر على تعيين ولده ابراهيم وزيرا للنفط في حكومة مجلس الحكم ،بدا حضوره للتوقيع على وثيقة مكة اشبه بالبحث عن حضور، فهو معطل منذ انتهاء دوره في مجلس الحكم واعترف في احدى تصريحاته الصحفية اللاحقة بانه عجز عن جمع الفرقاء فغادر العراق وهو شبه مقيم في مدينة الكويت بحثاً عن الامان المفتقد في بغداد.
ثم طارق الهاشمي الذي هو نتاج حزب اسلامي ديني أصلاً، فلم يقدم نفسه كعراقي هدفه الوطنية، كما يفترض، بل ضمن حزب اسلامي يتبنى توجهات الاخوان المسلمين أو الوهابيين لافرق، لانه في النهاية يجب ان يؤكد حضوره مقابل حضور الاحزاب الدينية الشيعية.
فاين الدول في كل ماحدث بوثيقة مكة؟
بلا شك لاتوجد دولة، وماوجد رجال دين يريدون بناء دولة وفقا للدين الذي وضعوه، وليس الدين الواضح الذي يدعو الى النزاهة والصدق والعداله والمساواة. وهو محض علاقة خاصة بين الانسان والله ليس لاحد الحق في التطفل عليها.
أما الدولة فهي نتاج مشترك وحرلانظمة وقانونين معاصرة، واذا اريد ان يكون للدين حضورا فيجب الا يمت بصلة لقوانين الدولة.
ويبدو ان عراقاً تسيطر عليه (طالبان) جديدة مخيف ومرعب أكثر مما هو الحال الان، والادارة الامريكية تعي أو لا تعي أن خطئها السابق في افغانستان سيطبح اكثر فداحة أن تكرر في العراق.
والعراقيون الذين تراخت ثقتهم بانفسهم اكثر مما كانوا يتوقعون لايقبلون أن يغلق وطنهم على الدين وحده مثلما لايتوقون ان تصبح بلادهم نسخة من ايران او اي بلد ديني اخر.
أعتقد ان ماينقذ العراق هو تراجع رجال الدين مع دينهم الى أماكنهم الطبيعية ويدعون الحياة تمضي كما تشاء وليس كما يشاؤن .